بعد أربعين يوماً على رحيلك يا صبحة

رحلت جسداً وستبقي فينا خالدة  يا أم سعد ..

 

 

*إبنك  سعدي  عمار

النرويج

2-4-2008

 

 

بم نبدأ .. ؟؟ هو عنوان يخلد في  الذاكرة  ، يحيي آمال  المستضعفين لعلهم يفيقوا  من  سبات  الاندحار.. يذكرني بقول جاثم  على  صدري  لغرهام   غرين.. (ان  الفشل  شكل  من  أشكال  الموت..ولكن  الفراق هو الموت )

بم  أبدأ .. ؟؟ها أنت يا أم سعد  بغيابك قد  أيقظت حواسي  النائمة .. وانعشت  حماسي  الممطر ضجراً .. ها آنذا يا أمي أوقف حدادي بعد مرور أربعين  يوماً على رحيلك  .. ولكن  سأظل  أمتلك  ذكرى  لمساتنا  المسروقة .

كأن يا أمي وحده الزلزال قد  يمزج  بقايانا  ورمادنا .. بعد  ان حرمتنا  الحياة .. أقصد  التي فرضها الاحتلال  الصهيوني  البغيض .. كان وقع ذلك علينا  فيه بصيص  أمل .. لكن  هذه  الفترة ( الانتكاسة ) التي نعيشها ومفروضة علينا من قبل أبناء  جلدتنا .. فوقعها علينا يختلف  تماماً .. حياة الحرمان يا خالدة  من فرحة  لقاء ..

انها الجمعة الحزينة يا خالدة وانا العاشق الحزين .. ستظلي يا أم سعد  مصلوبة  داخل  جسدي .. وانا اليوم  يا ماجدة  لا أعرف  متى  قلبي  الضال  يلملم  مواسم  جنونه .. ومتى  تحنو  القسوة على  ذاتها .. وترق  الشراسة على جروحها.

مَن يا أم الرجال  يدلي  للعاشق  بالقبل  والاشعار.. أقسم  يا أم  سعد  ان  الحجارة  تقاسمني  الحزن .. والمطر كذلك .. وأرضي  تطعمني  قبلة  أتمناها .. والسياط  تطعمني  الصمت.

ومن الحزن والمرارة تساءلت ذات مساء عمن سيعيدنا الى آمالنا التي بتنا نفتقدها .. ؟ هل  اقتسام  الوطن والتصفيات كانت هي البديل ... ؟؟

 أسألكم عن مسرحيتكم  التي  جسدتموها  بالدم والنار..!!

تبكي التماسيح .. تتباطأ  السلحفاء  خدرا .. ترفض حتي أن تكمل  المسير..

وتحتويني زهرة الحزن .. حتى الموت .. لأن أريجها يضيع خلف الضباب .. وتعزف في  داخلي أيام العشق والانتماء الذروة .. أيام  كنا نحتضن  وطننا .. نحتضن فلسطين  بين  جناحينا  كحمامة .. نعيشها كلنا بكل جوارحنا .. نطعمها بحنين .. نتألم لألمها .. نتضور لجوعها .. نبحث لها في كل بقاع الأرض عن دواء ، وعن  طبيب  متخصص ...

 آه آه آه   يا أم  سعد أنت    لم  تصابِ  بالزهايمر ـ فقدان  الذاكرة  المؤقتة ـ بل  هم  من افتقدوها قبل أن تغادرينا وترحلي الى رب العزة ..!

و حافظت في  جناحك  الخاص  على  فردوسنا  المفقود .. وهم  استبدلوا  السياسة  بالدعارة .. حينما تجاوزوا محرمات  الدم .. !! فمن  كان منكم  بلا  خطيئة  فليرجمني  بحجر...

 لكن هذه المرة ابتيع أدب  المقاومة  يا أم سعد ... فلم  يعد غسان  كنفاني المأثرة.. حاضراً .. فتقاسموا الوطن بسلطة هشة بائدة .. !  وبسطار الاحتلال في برلمانها .. بل  في  خاصرتها .. !

  فهل سيستفيق..الغادرين..الواهمين..البائعين..المدعين.. ؟؟ أم سيضيع الجزء المتبقي  من الوطن كما أضاعوا جزئه الأكبر من قبل ..؟

فلقد أضحينا يا أم سعد اليوم  كالعناكب التي  تتناكح  فوق  وجوه  الموتى .. !

 

   لم يدرِ هؤلاء أو أنهم يدرون .. ان فلسطين تعني للفلسطينيين إنسانيتهم  بالذات وكرامتهم .. وما  الانتفاضات المتعاقبة سوى وسيلة من وسائل استعادتهم لانسانيتهم وكرامتهم المفقودة .. وما  التنظيمات الفلسطينية بمختلف أسمائها وأيدلوجياتها ومضمونها ماهي إلا وسائل لتحرير فلسطين ، وسؤالي لهؤلاء لماذا غلبتم فئويتكم وحزبيتكم  وحركيتكم..على فلسطيننا وانسانيتنا... ؟

كفاكم هراء .. كفاكم متاجرة بدماء ابناء شعبكم !! ، وسجلات التاريخ لن تمحو ما سُجل عليها من جرائم أرتكبت بحق الوطن ، والشعب لن يمحو من ذاكرته ما مورس بحقه من أبناء جلدته .. ! وأنا على ثقة بأن للوطن للوطن  رب  يحميه ، وعجلة التاريخ لم ولن تتوقف عند هنا ... وسيأتي اليوم الذي سيطلع فيه البدر علينا ... ليس بدركم.. انما  بدرنا .. نحن  يا  غاشمون..

أمي الغالية صبحة... أيها الماجدة الخالدة في وجدان كل الشرفاء .. الذين عرفوك..أنت لم  تكونِ  الا نتاج للمسيرة الكفاحية الكاملة لهذا الشعب  العظيم .. من ثورة القسام وحركة القوميين  العرب.. وحركة فتح العظيمة .. والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، حينما كان الفدائيين يحكمون  قطاع غزة ليلاً والصهاينة نهاراً .. وتستمر المسيرة .. لترتفع راية حركة  الجهاد ..  وصولاً  للانتفاضة الشعبية العارمة عام 1987 .. التي انطلقت في خضمها حركة حماس التي رفعت  راية الوطن فاستبشرنا خيراً ..

 

فلا زال يصن في أذني كلمات الشيخ الفاضل الشهيد المؤسس لحركة  حماس .. أحمد  ياسين.. وهو يقول على التلفاز الآن قد أدركنا أن صراعنا مع العدو هو صراعاً  وطنياً .. وليس   صراعاً على الدين  .

 وتستمر المسيرة يا أم  سعد  حتى يومنا  هذا  وأنت في  هذا الخضم  العظيم  الأم  الماجدة  التي تداولت حكايات شعبنا بعملية كفاحية متكاملة لا يمكن لنا أن نفصل تتابعها ..  فصولها  وعبيرها .. ونختزل بعضنا البعض .. هكذا كنت يا ماجدة ،عظيمة كبيرة متكاملة .. أما للبواسل  والعظام .. معطاءة بزخم .. لهذا  ستظلي خالدة يا أمي ليس في وجداني فحسب ، بل في وجدان كل من عرفك .

أمي أيتها الخالدة لماذا  تكونين رائعة حين  تأتين ؟؟ رائعة حتى وأنت ترتدين  ثياب  الغياب ؟

 

  أم سعد اعلمي يقينا أنني  الملم  فيك احتراقي... فانت  احتراقي ؟؟ لا أدري يا يمن  كنت أماً  لكل  سجناء الحرية مع أعظم نساء الارض .. من أم  مروان  عواد .. الى أم جبر وشاح ... أم  جبر هل تعرفونها.. ؟ هذه القديسة التي لو خيرتموني .. اقسم لكم لاخترتها بدلا منكم كلكم  قائداً  حكيما حنوناً لهذا الشعب.. ومن أراد أن  يدرك هذه الحقيقة فليذهب الى حجرها في مخيم البريج .. لعله يتعلم من هذه  المراة النادرة ان الوطن حاضراً باصرارها وعنادها ورقتها ..

 

لا أدري وأنا أستحضر فيك هذا المجد يا أمي يا " أم سعد " ، سامضي بقية  عمري بعيداً  بعيداً .. وانت بعمري حواسي لا رفاة .. أصرخ بكل أوجاع الارض آه آه .. نعم آه آه ... يا  دمع  الحجر.. يا أميرة الرماد المستتب .. هل سنغلق أجسادنا .. وستبقى الدائرة  منقوصة لم  تكتمل .. ؟!!

  سأبقى يا خالدة أشحذ الهمم  بذكرى  استقبالك على شبك الزيارة حين  يلتقي فمي بفمك  العذب.. لأستقبل كبسولة ( *كما اصطلح على تسميتها في قاموس الأسرى  ) لأبادلك  الحب  والقبلة بكبسولة أخرى ..

 

 كانت أعذب قبلة.. فيها الحنين والثقافة والاسماء السرية ، فيها النضال والإصرار .. فيها الوطن محمولاً بالخوف  والجرأة .. في القيد .. رغماً عن أنف  الجلاد الصهيوني .

  صبحة .. اعلمي يا غالية انني سافصل القلب عن شرفة السفر .. وأشحذ ضفائر الحزن في  رحلتي القادمة .. استلهم فيك اصراراً واعداً .. وأنت تحملي بين  ثناياك سلتك  البلاستيكية.. لتنقلي العتاد الى الرفاق الثوار في رفح ... والى جباليا الصمود .. لكي  يوجع الابطال  العدو.. وكنت خير من عمل ساعي بريد للثوار في  انتفاضتهم الاولى الصادقة العظيمة ، بل وفي بعض الأحيان أكثر من ساعي بريد بكثير .

 

  كم  يستفيض الكلام  يا أم سعد .. كم  يرسو  الزمرد  في  عينيك  ويحنو..هي نعم  يا حبيبتي  موائد عشق .. لأن خطاك دائماً كانت ولا زالت خطا الاوطان التى أرادوا بيعها فرفضناهم .. وانا هنا لم  أشأ أن يوقظني الحزن.. حين  تخفيك الورود  وبراكين  لهوها  يا أم سعد  .

 

  ها آنذا أعلن يا أم سعد لكل من  يقرأني بأنني لا أكتب خاطرة .. بل أسطر  بدقة ما يجيش  في صميمي بوعي الرجال الواعدين .. بكل ما امتلكت من بحر الوطن من عطاء وخبرة ودراية  للكثير الكثير مما يجري ..لا أحاجج أحداً .. ولكن من أراد . . فأنا ذاكرتي لم تخونني لحظة لا  في العلب الحجرية وزنازين القهر الصهيونية .. مع الحبيب  الاخ  زكريا  التلمس .. من أكثر  من  يعرفون أم سعد... أومع شهيد العزة والكرامة الشيخ عبد العزيز الرنتيسي ونحن نشترك  في  التمثيل  الاعتقالي  لسجن غزة المركزي أواخر عام 1989  .. وشواهد الانتماء.. الانتماء النظيف لا تحصيها لا باستيلات العدو الصهيوني .. ولا أرض الفعل في كل حواري وأزقة  قطاع غزة كخصم  لكل الاشقاء .. وكند للاعداء الصهاينة .. فحاشى وكلا من  مدح  الذات  هنا..

 

 لهذا كله أصرخ فيكم من أعلى منابر العطاء .. استحلفكم بالله  وبالوطن وبدماء الشهداء وبأم  سعد التي لن  تجدوا سنتيمتر في جسدها إلا توجع من ضربات الصهاينة .. وها هي قد رحلت  الى ربها .. ان تعيدوا الوطن الي نصابه .. وان  تحذروا  أولاً من  أنفسكم .. واجهزة  عدوكم الامنية انتم أخبر بها .. وان لا تبحثوا  لهروبكم  عن مخارج  واهية ... فكفاكم خراباً  ... !

   لا  تقتليني يا أم سعد ... أرجوكِ.. لئلا يختلج الناي في غربتي.. لئلا يتعاقب علىَّ الغزاة .. لئلا تفر الذكريات من  قطاف الاغاني ... فأنا وأنت في محياك وفي مماتك .. كلانا يا غالية  يلهب وحشته  بهذه  الذكريات.

   لك  ولكل  الشهداء الابرار  البقاء في جنات النعيم

 إبنك  سعدي  عمار

2-4-2008

 

اضغط هنا لقراءة مقال للكاتب سعدي عمار بعد رحيلها مباشرة بعنوان " صبحة الأم ..الماجدة "

 

* " الكبسولة " هي لفظ مشتق من الكلمة الإنجليزية (capsule) أي الوعاء البلاستيكي أما كبسولات الأسرى فهي أوعية من النايلون الملفوفة جيداً ، تغطى بها مادة مكتوبة، على ورق شفاف وبخط صغير جداً ، ويتم إغلاقها جيداً بالتسخين ، وتستخدم لنقل المادة المكتوبة من سجن لآخر أو من السجن إلى خارج السجن وتحتوي على مواد ذات مضامين نضالية مختلفة وأمنية وذلك حفاظاً على السرية وتلعب الكبسولات دوراً مهماً، للتواصل ونقل المعلومات بين الأسرى داخل السجون، ومع تنظيماتهم وقياداتهم ورفاقهم في الخارج  .

 

سعدي عمار ... فلسطيني  وكان يقيم مع عائلته في قطاع غزة ويعتبر أحد مناضلي الثورة الفلسطينية ومن قيادات الإنتفاضة الأولى المميزين واعتقل عدة مرات وأمضى سنوات في سجون الإحتلال الإسرائيلي ، وأبعد قسريا أوائل التسعينيات ويقيم الآن في النرويج ، ولقد توفت والدته بتاريخ 25 فبراير الماضي دون أن يتمكن من رؤيتها ووداعها وكتب آنذاك مقالته" صبحة الأم ..الماجدة "  " صبحة الأم الماجدة " وها هو اليوم يكتب بعد أربعين يوما على رحيلها  .

 

مع الإحترام والتقدير

عبد الناصر فروانة