أفكار متناثرة من رسائل سرية مهربة

 

بقلم / محمود التعمري

أرشيف الكاتب

 

   سجل في مفكرتك

ثورة التعليم

إن الشعور بالمسؤولية هو الخطوة الأولى نحو الانتمـاء والفعل وتحقيق الهدف، وحين تكون بحاجة إلى أمنية ما,هـدف ما ، فانك تبحث عن كل ما من شانه أن يساعدك على ذلك .. ولا يمكنـك ان تقف مكتوف الأيدي حيال مسؤولية أو مجموعه مسؤوليات تشعر أنهـا مطلوبة منك أو أنت ركنا أساسـيا من أركانها .. صحيـح إن للظروف الموضوعيـة والذاتيـة الدور الحاسم في تحقيق الأهـداف والمسؤوليات ، ولكن " إذا كانت الظـروف هي التي تخلق الإنسـان فان علينا أن نخلق ظروفا إنسانية ملائمة .."، فان ذلك لا يمنـع من البحث الدائم والمستمر عن أية وسيلة تقربـك من ذلك ..

وتتضاعف مسؤوليتـك حين تكون أنت ومن معك ضمن دائرة تحتـم عليكم أن تتمتعوا بقدر معين من شروط وصفات ومقومات الحياة الجـديدة .. نحن الآن في معتقل مغلق علينا طوال أربع وعشرون ساعة ، ولا ندري متى تنتهي محكوماتنا حتى يفتح أبوابه ونخرج منه .. إذا

بقينا أحياء..

 إن إحدى المشاكل التي تواجه المناضل في الأسـر، هي انه بحاجة دائمة إلى غـذاء روحي متميز ونوعي بحيث يشكل لديـة سلاحا آخر وأساسيا لا يقل أهمية – إن لم يكن هو الأهم – عن السلاح الناري الذي كان يحمله ويقاتل الأعداء به.. فهل يعقل أن نقاتل بدون سلاح ؟؟ ولما كنا لا نمتلك هذا السلاح الناري،فأننا مدعون لان نتسلح بسلاح آخر يقينا التراجع والهزيمة والانكسار,ويحمينا من تشويه الوعي, وكيفية امتلاك الوعي والثقافة ، وهذا لن يتحقق إلا إذا كنا قادرين على التمييز بين الغث والسمين ..بين والواقع والغيبي,بين الحقيقي والمزور.. بين الأساسي والثانوي, فماذا يعني أن تحمـل سلاحـا وأنت لا تعرف كيف يركب مخـزن الذخيـرة.؟؟ وماذا يعني أن تحمل قنبـلة دون أن تتدرب على كيفية رميـها أو فك مسمار أمانها، أو اخذ الوضع المناسب لحمايـة نفسـك من نتائجـها عند رميها ؟

 " إن المقاتل الذي لا يعرف لمـاذا يحمـل السلاح ، وضد من يحمل السلاح ، ولمصلحة من يحمل السلاح سيقـع في أخطاء مسلكية تسيء لصورة العمل الفدائي في أذهان الجماهير .." " د. جورج حبش " .

اذن ، هل نكون قادرين على امتلاك الفكر والثقافة والمعارف الحقيقيـة والوعي السياسي ، دون أن نتعلم القراءة والكتابـة والتمييز بين الحروف والكلمات والأفكار ؟؟هذا غير ممكن.. قد يستهيـن البعض بذلك, وقد يقول آخر، قد يتعلم الإنسان حيث يسمـع الآخرين، أو يسمع الأخبار، أو أن يساعده البعض على تثقيف ذاته... في بداية الاعتقال واجهتنا مشكلة أساسية وصعبة ،وهي أن بعض الأخوة الذين تم أسرهم ولم تتاح لهم الفرص- نتيجة لظروف حياتهم- أن يذهبـوا إلى المدارس ويتعلموا القراءة والكتابة,هم بحاجة الآن إلى تعلـم ذلك, وبرأيي أن هذه المسالة هي قضـية إنسانيـة ونضـالية ووطنـية.. فكيف يمكنـنا تعليـم مناضـل لا يقـرأ ولا يكتي؟دون أن تتوفر لدينا مقومات ذلك ؟؟ فلا دفاتر ولا أقلام ولا كتب تعليمية,فهذه كلها غير مسموح باقتنائـها، ويمنعـونها علينا، ولهم في ذلك أهداف كثيرة، إحداها أن نظل أميـين وجهلة وغير متعلمين.. مما يوفر للعدو أرضية خصبة للسيطرة عليـنا وتحطيم معنوياتنا وبالتالي إسقاطنا ... إذن ، ما العمل حيال حالة المناضـل" يوسف عبد الحميد " الذي عبر الحـدود ضمن دورية فدائيـة مسلحـة حيث تم أسره بعد إصابتـه بعدة رصاصات في إنحاء مختلفة من جسده كانت أخطرها رصاصة في فكـه الأيسر خرجت من أسفل جمجمـته,وما زال يعـاني من أثارها, وبعـد أن أصاب عدد من جنود الاحتلال إصابات مباشرة .. ومحكـوم بدزينـة من عشرات السنين .. وهو يلح علينا كل الوقت أن نعلمه القـراءة والكتابـة..

في البـداية كانت إدارة السجن تسمح لنا باستلاف كتاب واحد كل خمسة عشر يوما للغـرفة الواحدة ، التي نعيش فيها من 20-25 مناضل,وكانوا هم من يفرض نوعية الكتب التي علينا التعامل معها وقراءتها, وقد كانت في مجملها من النـوع القصصي والفلسفي الرخيص والأصفر..ولكن كنا مضطرين إلى قراءتها ، فكان احدنا يقـرا والبقية تستمع خاصة للقصص

والروايات ، حتى تـتاح الفرصة لأكبر عـدد من الإخوة الاضطلاع على فحـواها .. ولقد كانـوا يحضـرون لنا كل أسبوعين أنبوبة حبر رفيعة وصغـيرة مع عـدد من أوراق الرسائل المـروسة خصيصا لذلك, والتي لا يزيد عدد سطـور الواحـدة منها عن السبعة اسطر حتى نرسلـها إلى ذويـنا في الأراضي المحـتلة ، إضافة إلى أوراق رسائل خاصة للصليب الأحمـر الـدولي لمن يريد أن يرسلها لذويـه في خارج الوطـن ، وفقط المسمـوح به لكل فرد رسالة واحـدة لا غير .. وبعد ساعتيـن أو ثلاثة – حسب مزاج الحارس – يقومون باستلام الرسائل التي كتبناها مع أنبوبة الحبر ، حيث تخضع جميع رسائلنا للقراءة والفحص الأمنـي قبل إرسالها لصندوق البريد ، والويل لأية رسالة تحتوي على أية كلمات أو جمل وطنية أو نضالية أو سياسية ... فمصيرها حينذاك هو سلة المهملات ، غير ما قد تتخذه سلطة السجن من إجراءات قاسية بحق مرسلها ..

وقد كنا نلجأ أحيانا إلى تخبئة الأنبوبة .. ونحمل مسؤولية اختفائها إلى الحارس .. وهو ما كان يعرضنا للكثير من الإجراء اوالمشاكل كالمداهمات والتفتيش بطريقة لا إنسانية تصل إلى تفتيش المناطق الحساسة بالجسم ، والنقل ،ووضع البعض في الزنازين الانفرادية..الخ..الخ.وقد كان البعـض من الحراس يمد يده إلى داخل المراحيض للبحث عن الأنبـوبة المفقودة...

لقد كنا مضطرين إلى فعل ذلك من اجل أن نوفر أي وسيلة تلبي الحاجـة إلى التعلم .. أما موضوع الورق ، فقد كانت الإدارة تحضر لنا بعض الأطعمة التموينـية خاصة اللبـنة والزبدة في ورق,حيث كنا نقوم بغسله بالمـاء والصـابون ولصقه على الحائط حتى يجف ،ثم نكتب عليه الرسائل والتقارير والتعاميـم إلى عناصر التنظيـم في الأقسـام الأخرى ، أو إلى المعتقلين جميعهم وفق الظروف والمتطلبات ، والاتفاق بين قيادات المعتقلين .

أما قضية تعليم الإخوة الأميين، فقد وجدنا حلا " ثوريا " فبدأنا تطبيقه بوسيلتين:

الوسيلة الأولى :

 عن طريق قطعة صابون والمرآة الملتصقة على الحائط في الحمام، وهي من الحديد المطلـي بمادة لامعة، تظهر فيها بعض ملامح وجوهـنا إذا ما نظـرنا إليها أو وقفـنا أمامها..بحيث يقوم المعلم والمتعلم بالدخـول إلى الحـمام وكتابـة الأحـرف والكلمات على المرآة، وإجراء التطبيقات اللازمة لذلك..وهكذا كلما خلى الحمام من المستعملين.

والوسيلة الثانية :

 لقد كانوا يحضرون لنا حصيرة من القش في صـباح كل يوم، لنجلس عليـها في النهار، لأنه غير مسموح لنا فرد فراشـنا قبل العـدد المسائي الذي يبـدأ الساعة السادسة مساءا..ويعودون يأخذونها في المساء.. فكنا نستخدم أعواد القش هذه للكتابة على الورق المجفف,إما الحبر فقد كنا نصنعه من سكن السجائر ، حيث كنا نجمع سكن سجائر المدخنين ونضعه في كاس ونصب علية قليلا من الماء حتى يذوب ثم نغمس العود فيه ونكتب الأحرف والكلمـات على الورق ، حتى يكون بمقدورنا تعليم الأخوة الأميـين القراءة والكتابة ،.. لقد استطعنا، في فترة قصيرة أن نعلم عـدد من الإخـوة بهـذه الطريقة.. فقد كانت النتائج مذهلة ، إذ استطاع عدد منهم بعد زمن ليس طـويل أن يقـرأ الكتب ، ويكتب رسائل لأهله

بنفسه ،  حتى يقول لهم ،انه استطـاع أن يتعلـم وانه الآن يقرأ ويكتب وان الوقت لا يضيـع سـدى وان بإمكانـنا إذا ما صممناعلى شيء أن نحقـقه ، وان لدينا الإرادة والعـزيمة والقوة الذاتية ، بان نخيب آمال عـدونا وان نكـون أفضـل منه وارقي وأكثر علـما ومعرفة .. لأننا ببسـاطة، أصحاب حق، وأصحاب قضـية.. ومن توفر لديـه الوعي والعلم والمعرفة فلن يضيع له حق و قضية..

 

سجن المجدل_1970

 أرشيف الكاتب