رسائل سرية مهربة ... تنشر حصرياً على موقع " فلسطين خلف القضبان "

   

                                                              الكاتب: محمود التعمري

       

       عندما يُمنع المرء تحت قمع قوانين العدو الجائرة، من البوح بما يريد قوله علانية وبصوت جهوري،فانه يلجأ إلى أساليبه الخاصة "السرية" لعلها تؤدي المهمة أو المُراد..وعندما تخاف الأشياء التحدث مع محيطها ،لان هنالك من يقف مشنف الآذان وكل الحواس ،فإنها هي الأخرى تلجأ لطرائقها الخاصة بها لبث ما يحتويه باطنها ..ولان الجدران والاسلاك وكل أشياء الزنزانة تتندى خجلا من بؤس حياة نَزلتها ،بعكس أولئك الذين يسجلون كل ما يصدر عنها ويحاولون منعها من التحدث مع مَن فيها ، فقد لجأت هي الأخرى إلى محاولة التخفيف من كآبة ووحدة الأسير الفلسطيني ،مستغلة بلاهة السجان ..فأرسلت إلي رسائل سرية خاصة ،تبثني فيها ما يعتمر بضميرها الحي،الذي هو بعكس ضمير السجان..

       ولما كانت الأرض سجينة مثلي ،تئن من وطأة القيد الثقيل الذي يُكبل أطرافها ،فقد لجأت هي الأخرى إلى إعلان حبها للأبناء الذين يُعانون كل أصناف الظلم والعذاب والاضطهاد والقتل والموت البطيئ في زنازين الفاشيين الجدد ..فأرسلت هي أيضا تبثهم حبها وعاطفتها وحنوها وأمومتها وشوقها للعائدين بعد طول بُعد واغتراب وإبعاد..فكانت رسالتها السرية مختزلة كل ما يحتويه قلب أم في بضعة سطور وكلمات مختصرة.

                                          000000000000

                                           

رسالة الأرض

     

        إلى الوجوه التي لم اقدر على نسيانها..إلى ابتساماتكم التي تسلحني بالإرادة والصمود والأمل..إلى عيونكم التي يظللها الأسى والبعد والحرمان..إلى خطواتكم التي تشدني وتشدكم دائما إلى الزنود..ما زلت أذكركم..  بوجوهكم.. بأسمائكم.. بملامحكم ،أذكركم،أجنة وأطفالا ،شبانا وشيوخا..اذكر الأحياء منكم والشهداء ..إن كنتم أحياء أو كنتم شهداء..إن جاء دور البعض منكم وقضى والبعض ينتظر. فدمائكم ما زالت شلالا يجبل تربتي ويرويها ،هذه التربة التي تحولت إلى لبنات في بيوت الفقراء وحجارة في أيدي الأطفال وسوف تكون لون علمنا المقبل..

       أنا ما زلت لكم  الأم والأخت والحبيبة ..فان طال ليل عذابكم وان شوه الأعداء قسماتكم ..فانتم ما زلتم الأبناء والعشاق والأحباب..فيا أيها الأبناء ..أمكم ما زالت مثلكم مكبلة حزينة تقف على أعتابها . تنتظر عودة الغياب ..فمحال أن تنام أم على أنين وعذاب، ومحال أن يبقى الاغتراب والظلم والقهر إلى الأبد..وحتما سيكون لنا لقاء لا افتراق بيننا بعده ...

       أبنائي.. أنا الأرض أمكم لا تحرموني الفرح..وأنا الأرض معشوقتكم لا تطيلوا انتظاري ..فليل الغزاة قصير ،وشمسكم أبدية خالدة..

                    فلكم الحياة والخلود.. والموت للسجان...!!!

                                           00000000000

 

                                                                          

رسالة الجدران

         

         اعرف انك تكرهني..وحقدك عليِ ليس له حدود..وانك لو تملك بارودا لجعلتني هباءَ منثورا..وحطمت أضلعي التي طالما منعت عنك رؤية الربيع..وخيوط شمس الصباح..ودفقات نسيم المساء..ورؤية تقاسيم وجه حبيبتك الفلسطينية.. فها أنا انتصب أمامك كأصنام الجاهلية،من الجهات الأربعة..وأمنعك من الفرار ..إلى حيث ستجد عالمك الذي طالما تاقت روحك للتحليق فيه..فانا التي أوجدوها لأمثالك،من اجل أن تسند راسك عليها حين تتعب من الوقوف،أو تدق عليها بحذائك أو ملعقتك حين يرفضون الاستجابة إليك..وأنا حتفك حين لا يريدون قتلك برصاصة في الجبين ،حتى لا يراك اهلك وأحبتك بكامل هيئتك الإنسانية حين تموت ،أو تلتقي رفاقك في السماء..وحتى لا تعرفك حبيبتك حين تعود إليها منتصرا حتى لو كنت جثة هامدة..!!!؟؟

     ولكني أعاهدك يا من أوقفوا نفسي عليك ..إني سأحنو عليك كما تحنو آم على وليدها..واني سأحتفظ بذكراك حين تفارقني ذات يوم إلى حيث سيكون عالمك الذي تريد..أو حين تُكتب لك الحياة وتأتي لتحطمني بمعولك من القاع.وسوف يبقى اسمك محفورا على أطرافي كما حفر السجانين أخاديدهم وعلامات بطشهم على وجهك وفوق أطرافك بقبضاتهم وعصيهم الغليظة..

       فلتعلم أن وجهك الباقي... والموت للسجان..!!!

                                         0000000000

 

رسالة الأسلاك

              

        يا من غرزت أصابعك في وجهي وفي صدري..يا من مزقتني قدماك وجعلتني أئن من الم وعذاب..يا من قهرتني بقوة صبرك واحتمالك..وأوقفتني مشدوهة متسائلة..أي كائن هذا الذي نصبوني قضبانا وأسلاك شائكة من حوله لأمنعه من الفرار ..!!

        أنا أغير اثوابي في العام مرات ومرات وأنت ما زلت تحتفظ بهندامك منذ أعوام..فأي إنسان أنت..؟؟

    ما زلت اذكرها،لحظات لقاؤك بأمك وأبيك وطفلك الصغير..حين ارتجفت شفتاك شوقا تتمنى تقبيل طفلك المحبوب ولم تقدر،فوقعت شفتاك عليَ،لأنني انتصبت بقامتي المشدودة بينك وبينهم..ومنعتك من وضع أناملك بين خصلات شعره المنفوش..

     آه كم أخافتني وجعلتني اهتز رعبا نظراتك الحيرى يومها.. خجلت من نفسي وتندت أسلاكي الغليظة،ولم يخجل سجانك الذي كان يشد طفلك من ياقته ليبعده عنك، حتى لا ترى قسمات وجهه البريء.. ولكي لا تسمعه وهو يقول لك بابا ...!!!

تحرقني الشمس التي تتمنى رؤيتها..والريح تهزني كأرجوحة طفل على غصن شجرة ..فوداعا لأنهم سيغيرون أثوابي ..ولسوف أظل أتذكر وجهك وأصابعك التي طلما وضعتها بين مفاصلي حين كنت تشدني احتجاجا على السجان..فانا اخجل ..

                   أما السجان فلا يخجل.. فالموت للسجان..!!

                               00000000000

رسالة سرية في جيب السجان

 

          إن أكثر ما يثير السجان ويشيط غضبه،هو أن تسخر منه حين يعذبك، وتهزأ من قوة ضرباته حين يضربك،فكل لكمة من يده أو ضربة من دنكيته،ليست سوى تذكيرا له بمدى خطورتك عليه وأهميتك ضده واختلافك الكلي عنه..فأنت تمثل كل الأشياء الجميلة في الحياة ،وغورا لا يمكنه سبره أو الوصول إليه..وتذكر دائما انه يرهبك ويخافك،وانه ضعيف أمام قوة احتمالك وصمودك وصلابتك وقدرتك على وضع أصابعك في حدقتي عينيه دائما..!!

         ولما كان السجان يخاف من التحدث معنا –بل هو ممنوع من ذلك- قررت أن أضع رسالة سرية في جيب سترته بطريقتي الخاصة لكي أقول له من هو السجان في قاموسنا..فكتبت له كلمات مختصرة...

        لقد ولدت أيها السجان إنسانا كبقية البشر..لك قسمات وسمات وفواصل حياة،حتى لو كنت لقيطا ، وقد يكون لك أهل يعملون لك عيد ميلاد.. أو تكون لك زوجة وأولاد..ولكنهم سرعان ما طبعوا فوق قشرة دماغك كل الكلمات والمصطلحات البذيئة التي احتواها قاموسهم..وسرعان ما حولوك إلى أداة إرهاب ،تحمل أقفالا ومفاتيح ،وغازات وعصيا ودروع..وجعلوا منك أداة حاقدة لا تعرف غير الضرب والقتل وتكسير العظام..وكائنا يرتجف خوفا وفزعا كلما صدرت أنة من هنا أو نأمة من هناك..دائم التطلع حواليه كالأبله المعتوه ...

       ما أحقرك أيها السجان،وما أبشع قسمات وجهك..ففي كل مرة تقع فيها عيناي عليك –وما أكثر المرات- اشعر بحاجتي إلى التقيؤ ..أدير وجهي عنك وابتعد قدر ما تتسع زنزانتي الابتعاد..انك كيان قذر لأنك تسرق حريتي ..ارضي وبيتي..هويتي وحياتي..إن لك رائحة ليست كبقية البشر، رائحة نتنة..ملوثة..موبوءة ..انك جيفة..فأي رائحة تنبعث من جيفة..؟؟هذي هي رائحتك أيها السجان..فأي كائن أنت حين تُوجه غازاتك السامة لمريض بالقلب ..أو تضرب بدنكيتك..رأس اعزل مكبل بالسلاسل...أو تُغلق فتحة باب الزنزانة على مريض بأزمة صدرية حادة..؟؟؟

      أنت لست إنسانا وليس لك ملامح البشر..وأنت لا تملك عنوانا ولا بيتا ولا وطن..ولا تترك في النفس غير اثر لشبح متآكل موبوء،يبصق الناس عليه كلما رأوه..وليس لك عقلا تفكر به ،ولست أكثر من مأجور يزحف في نهاية كل شهر ليقبض ثمن ارتكاب الجريمة ووحشية وحوش الغابة..

      فيا أيها السجان أنا لا أخافك ولا ارهب من ضرباتك التي لا تهز شعرة من جسدي..وكل غازاتك لا تُسقط دمعة من مأقية ..فلتضرب ما شئت ،لأنني سأظل أتحداك في عقر سجنك..لان لدي طول كالعمالقة،وقوة كالرواسي تتحطم عليها كل أحقادك ونظرياتك الهمجية..!!

     وغدا حين يزحف الأحرار ،ليحطموا أقفالك وهراويك ودروعك وأسوار سجنك..ستقف حينذاك مأخوذا فاقدا للرشد،مخبول العقل،ولن تجد من ينتشلك من تحت نعال أطفالنا..وستموت حيث لن تجد مكانا تُرمى فيه غير مزابل التاريخ..

                        فالحياة لي ..والموت لك أيها السجان...!!!

                                0000000000

                                                          سجن بئر السبع

                                                              /أيار  - 1981

أرشيف الرسائل المهربة للكاتب الأسير المحرر محمود التعمري