أفكار متناثرة من رسائل سرية مهربة

 بقلم / محمود التعمري

أرشيف الكاتب

سجل في مفكرتك

التحقيق

زمن التحقيق , هو الزمن الأصعب, في حياة المناضل بعد لحظة الاعتقال, فعليه تتوقف كل علاقات وارتباطات وسلوكيات المستقبل.وفقط كلمات, قليلة, مختصرة,عادية,تحدد كل شئ....... نعم   أو  لا

اعرف   أو  لا  اعرف

عملت   أو   لم  اعمل

رأيت   أو  لم   أرى

صحيح   أو  غير  صحيح

أو هزة من الرأس

أعلى   أو  أسفل

يمنة  ويسرا

تصوروا ما أسهل نطقها أو فعلها ,وهي لا تؤلم فاعلها,ولكنها تحدد مصيره ومستقبله..وقد يتوقف عليها مصير ومستقبل عددا أخر من المناضلين أو ممن كانوا معه-إذا ما وجد احد أخر-.

وكل ذلك يتوقف على ما يمتلكه المناضل من وعي وثقافة ورصيد نضالي وتجربة حياتية ..لأن الوعي والثقافة والمعرفة ,هما السلاح الأقوى والأشد فعلا في الصمود والتحدي وتحصين المناضل بسياج لا يستطيع العدو أن يعبره إلى الداخل أو الوصول إليه أو اختراقه, أو تحطيمه- لان المناضل أو الحزب أو المنظمة أو أي مؤسسة قلعة لا تقتحم إلا من الداخل-.

لذا فان المسئولية عظيمة وكبيرة وتحملها لن يكون سهلا ي ظل ظروف القهر واختلال موازين القوى,بين قطبين,احدهما يمتلك كل أسلحة لبطش والتعذيب والقتل ..والأخر لا يمتلك غير إرادة القرار والنطق بكلمات بسيطة عادية وبدون تفاصيل أو مقدمات..ولكنها متحدية وصاعقة ومدوية..قد يقولها وهو بتسما أو وهو عابسا ومتجهما أو كما يقولون في الأمثال الشعبية,- وجهه لا يضحك لرغيف الساخن- أمام كل ما تتفتق عنه العقلية الفاشية الصهيونية تجاه شعبنا واتجاه ناضلينا وقضيتنا,وخاصة حين يلجئون إلى أساليب ووسائل للتعذيب تتعدى المناضل ذاته,لتطال أسرته أو احد أفرادها ,كوسيلة للضغط النفسي والتخويف والإرباك,معتقدين ن ذلك سيؤدي إلى انهيار المناضل وسقوطه,وبالتالي إعطاء كل ما لديه من معلومات اعترافات,تحت هذه الذريعة أو تلك..

ما جعلني أسوق كل هذا ,هو ما حصل حقيقة مع احد المناضلين الذين اعتقلوا لى خلفية مقاومة الاحتلال بوسائل عسكرية...وهو شاب لم يتعدى العشرين من العمر ..

حين عجز المحققون عن استلاب أية معلومات أو اعترافات عن أفعاله أو أفعال رفاقه وإخوته,بعد فترة طويلة من استخدام كل أساليب التعذيب والترهيب النفسي والجسدي ,وحين لم تنفع معه كل وسائل الترغيب بسفريات وزواج وأموال وفارهات ونساء وجواز سفر يجول به كل بقاع العالم لتلبية كل ما يشتهي ويطيب من أصناف المغريات ..خاصة بعد إن يكون قد ( غطس ) في بلاد المن والسلوى ,وبحيرات الحليب والعسل.. 

بعد كل ذلك ,تأتي ثلة من الجنود يقودهم احد ضباط التحقيق ليخرجونه مقيد اليدين والقدمين,ورأسه مدخل في كيس من قماش الكتان, ذو رائحة نتنة,وبين الزنزانة وغرفة التحقيق,يستمر التعذيب ولكن,بوسيلة أخرى اسمها الترهيب بالكلب,وقد دربوه خصيصا على كيفية إرهاب المناضلين,حيث كان يقفز على ظهر المناضل ويمسك بأية قطعة قماش تستر جسده –إن وجدت- مشمشما قدميه وساقيه العاريتين. بعد رحلة العذاب هذه,ادخلوه في غرفة عارية من كل شئ بما في ذلك الأخلاق والضمير والإنسانية...أجلسوه على كرسي أعرج صغير ,لا ظهر له ولا مسند,رفعوا الكيس عن رأسه ووجهه,فأدرك انه أمام وجبة ساخنة جديدة من الاستجواب والتعذيب, فهو أمام ثلاثة من المحققين ,وعدد من العساكر الضخام,وشخص اسود البشرة,طويل القامة ,عريض المنكبين,يلبس قميصا ضيقا بلا أكمام,وبنطالا قصيرا, افتح قليلا من بشرته,يتكأ على الحائط بطريقة سوقية كإحدى المومسان اللواتي يقفن على جوانب الطرقات من اجل التقاط صيد ثمين يقع في حبائلهن بغية الاستيلاء على ما في جيوبه من مال أو بعض الحلي في أصابع يديه,مقابل بيع رخيص لا جسادهن.

_هل فكرت بما طلبناه منك بالأمس؟خاطبه احد المحققين.

_ليست لدي أي فكرة عما طلبتموه مني..رد عليه.

_أصحابك والسلاح والعمليات التي قمتم بها وقتل أولئك الذين تقولون عنهم عملاء.

_لا اعرف شيئا وليس لدي أي كلام أقوله.

_ بعد قليل أنت ستقول كل شئ,ولن تترك أي معلومة إلا وتترجى حتى تقولها لنا.. ولا داعي لكل هذا العناد ..وكمان ما في داعي للضرب والتعذيب..فنحن نعرف كيف تفكرون,انتم العرب والمسلمين..وما هو الشئ الذي تخافون منه وعليه..وتنهارون أمامه..وتموتون من اجله..ثم أومأ لبعض الجنود برأسه ,حيث ساد صمت ارهب من من صمت القبور.. أفكار كثيرة تزاحمت في رأس المناضل..ماذا يقصد بكلامه؟ على ماذا يعتمد حين يقول ذلك؟هل سيحاول إخافتي بإطلاق نار من مسدس أو بندقية ؟هل سيحاولون قتلي كما فعلوا مع(.......) حين أخذوه إلى خلاء وقتلوه بحجة انه حاول الفرار؟

هل سيطلق أيدي جنوده هؤلاء في جسدي ليأخذ كل واحد منهم وجبته اليومية كما يفعلون كل يوم؟ هل سيحاولون اغتصابي حيث هددني بذلك من قبل ؟؟؟ أسئلة كثيرة تراكمت وتزاحمت ودارت في مخيلته خلال لحظات قليلة, دون أن يجد لها أي مستقر.. إلى أن دفعوا أمامه بفتاة مغطاة الوجه والرأس..وتلبس قميصا مزق من كتفيه,وقد فقد نصف أزراره,وبنطال مفتوح من بين أرجله.. لم يشأ المناضل أن ينظر إلى الفتاة الملقاة على الأرض,إلا حين أمر احد الجلادين برفع الغطاء عن رأسها ووجهها..وحين نطقت بكلام وجهته إلى المحققين(انتم كلاب مسعورة..  مجرمين.. قتله ..لصوص..انتم نازيين..أخي اقوي منكم..وحذاؤه تاج على رؤوسكم...).

التفت المناضل إليها ,ونطق باسمها (...أختي.. حبيبتي..لا تخافي), ولكن سرعان ما امتدت قدم من تحت الطاولة إلى المقعد الأعرج الذي أجلسوه عليه,لتزيحه ويسقط المناضل على ظهره حيث سارع احد الجنود بوضع قدمه على صدره.. تقدم الأسود النتن من الفتاة وأخذها بين يديه,ضاغطا بها على صدره,ومحاولا أن يقبلها.

 طلب احد المحققين من الجنود أن يجلسوه على الكرسي إياه,ثم وجه حديثه إليه قائلا(" هذه أختك..وأنت تحبها كثيرا..إذن أنت أمام الأمر الواقع,إما تعترف بكل شئ,كما قلت لك,وإما أن تكون أختك صيد لذيذ وعروس حلوة لهذا العبد الأسود وسوف يقوم باغتصابها..وستحمل منه بولد اسود يختلف عنكم وهذا محرج كتير الكم بين الناس.. ولن يتزوجها احد بعد ذلك..وستكون أنت المسئول عن مصيرها ومستقبلها .." ).

" ولا يهمك يا خوي..أنا فداك يا بطل..حياتي رخيصة من أجلك..ما تخاف ..اصمد.. اصمد"قالت ذلك وهي تصرخ وتوجه اللكمات إلى صدر الأسود,الذي يحاول احتضانها.

" ماذا تريدون من أختي؟؟هل كانت مقاتله؟هل كانت فدائية؟هل حملت السلاح؟ هل أطلقت النار على عملائكم؟قال ذلك بينما جنديان يضغطان على كتفيه إلى أسفل..ثم وجه حديثه إلى شقيقته.."ولا يهمك لا تخافي,كوني قوية..وإذا حاولوا اغتصابك,كما يقولون, ستنجبين طفلا سوف نعلمه كي يكون فدائيا ضدهم,وسيزداد الشعب الفلسطيني بمولود جديد.."قال ذلك,وهو يبتسم,مما أوقع الجلادين في حالة من الارتباك والهستيريا ,(أي حيوان أنت ؟ ألا تخاف على أختك من الاغتصاب؟أليس لديك شرفا تدافع عنه؟هل هي رخيصة عليك إلى هذه الدرجة؟ أين شهامتك ورجولتك؟أين إسلامك وغيرتك العربية ؟ ماذا سيقول عنك النبي محمد إذا علم بحالة شقيقتك ؟ ألا تخاف الله في عرضك ؟

فأين حفاظكم على الأرض والعرض كما تقولون ؟؟تحدث أكثر من واحد منهم في نفس الوقت

بين مهدد ومستجد وناصح ...ولكن بلغة طغت عليها العصبية والنرفزة وفقد الأعصاب.. وبلغة عربية مكسرة غير مفهومة,ثم صرخ كبيرهم- الذي علمهم السحر- بالجنود قائلا " خذوها (....),(بنت...)،وافعلوا بها ما تشاءون..فهي هدية لكم من هذا الكلب أخوها".

سحب الجنود شقيقته إلى خارج غرفة التحقيق,وهي تصرخ في وجوههم مقاومة لعنفهم وعنصريتهم اللامحدودة,موجهة كلامها لشقيقها " ولا يهمك يا خوي..فداك.. الله واكبر عليهم.. الله معك..الله واكبر...".

وهنا بدأت وجبة جديدة من التعذيب والضرب والشبح وطقطقة العظام تحت إشراف ضباط التحقيق الذين استمروا في التهديد والوعيد وتبيان الثواب عند الله إذا ما أدلى باعترافاته,وإعطاء كل ما لديه من معلومات..وهون على أخته العذاب الذي تلاقيه ألان من قبل الجنود .. وخاصة - العبد الأسود -..ولكن بدون فائدة....

" لن يفعلوا أكثر مما يفعلونه في كل يوم...وأختي طلبت مني أن اصمد ,وسوف أكون عند حسن ظنها...لن اعترف..فليشربوا بحر غزة...!!!!!".. قال ذلك في داخله وهو شامخ بنشوة الانتصار عليهم ..ولولا خوفه من أن يتعرض لمزيد من التعذيب لجلجلت ضحكته في كل أركان المعمورة,ولأسمع شقيقته ذروة انتصاره وإياها على هؤلاء الجلادين المجرمين...

وقد علم فيما بعد - أي بعد انتهاء فترة التحقيق – إنهم قد أطلقوا سراح شقيقته بعد مسرحية الضغط النفسي ومحاولات كسر الإرادة وقرار الصمود دون أن تمس بأي أذى ودون أن يكسروا فيها شموخ المرأة الفلسطينية المناضلة ,التي تعرف كيف تنتصر وكيف تستفز بداخلها كل مكونات الوطن والشعب والقضية.. كانت عظيمة في صمودها..وعظيمة في انتماءها..وعظيمة في وطنيتها.. شامخة كشموخ زيتون بلادنا ,وجبال بلادنا,وثوريي بلادنا..

فلها كل التحية والمجد, أينما وجدت ...لأنها جذرت فينا الصبر والصمود وحب الوطن...وكسرت في نفوسنا ,حاجز الخوف والرهبة والارتعاد من اسم الجلاد..أو غرفة التحقيق....

 

( من / أفكار متناثرة من رسائل سرية مهربة)

-سجن المجدل-عسقلان-

- 1971-

 

أرشيف الكاتب