أفكار متناثرة من رسائل سرية مهربة

بقلم / محمود التعمري

أرشيف الكاتب

حكاية من واقع الأسر-في باستيلات الصهاينة- العنب

العنب

 

لقد حمدنا الله إننا لسنا نساء.. حتى لا نحمل في أحشائنا أولادا وبنات يخرجون إلى الدنيا مشوهين,نتيجة اوحامنا على الكثير مما نتمناه ولا نحصل عليه,او نتذكرهولا نراه, أو نمصمص شفاهنا على طعمه دون أن نتذوقه.فقد كنا نسمع ونحن صغارا جداتنا وأمهاتنا ونسوة الحارة حين يجتمعن عند إحداهن, يتحدثن في امور كثيرة لم نكن نفهم معانيها,ومن ضمن ما كنا نسمعه,قولهن,"أنا توحمت على رأس جدي"أو "أنا توحمت على كبدة خاروف"أو"أنا توحمت على قطف عنب اسود"أو" أنا توحمت على رغيف خبز طابون" ,الخ..الخ من أسماء الخضار والفاكهة والحيوانات.

ويأتي حديثهن عن الوحام,نتيجة ظهور بعض الأشكال غير الطبيعية على الوجوه أو في أماكن مختلفة من أجسام أولادهن.

ووفق الرواية الشعبية,فأن هذه الأشكال تظهر, عندما تتمنى المرأة شيئا في الأيام الأولى أو الشهرين الأولين من حملها ولا تستطيع الحصول عليه,فيكون وجه الطفل أو جسده الضحية التي تدفع ثمن وحام وشهوات الأم...

بالمناسبة لنا زميل معنا,يوجد على رسغه بقعة سوداء,بحجم البيضة,كلها شعر اسود كثيف,وعندما سألناه عن ذلك قال-حسب رواية أمه له- كان عندهم تيس غنم اسود,وفي شهرها الأول من الحمل,تمنت أن يذبحوا لها هذا التيس لتأكل من لحمه وطلبت ذلك من زوجها,ولكنه زجرها وقال لها " الله لا يردك لا أنت ولا اللي في بطنك..أنا مجنون اذبح لك الثني علشان تردي نفسك..."ونتيجة حرمانها من لحم التيس,ظهرت البقعة السوداء التي تشبه شعر ذلك التيس...

 أردت من هذه المقدمة, إن أقول لكم,إننا نشتاق إلى رؤية أو تذوق بعض الأشياء التي ما زلنا محرومين منها منذ سنوات ,وخاصة الكثير من أنواع الفاكهة أو طبخة من تحت أيدي أمهاتنا ...حيث نتحدث عنها في جلساتنا التفاعلية ,لدرجة أن احد الإخوة قال - تندرا- " سمعنا أنهم طولوا قرن الموز" و "صاروا يرفعوا البطيخة بالونش من كبرها" ,فيقول أخر, " قسموا العنب بين الشباب والبنات..اللي فيه بزر للشباب واللي ما فيه للبنات..",فيعلق عليه احد الإخوة "العنب مش زاكي وطعمه حامض..وبعدين نسينا شكله. ",ثم يضحك أخر ويقول" فيه عندنا مثل بقول..اللي ما بطول العنب ,بقول عنه حامض"..إلى أن حصل قبل أيام ما لم يكن في الحسبان حين وقف احد الإخوة العاملين في النظافة على باب غرفتنا يسأل عن عددنا,وهكذا فعل مع بقية الغرف,دون أن نعرف السبب,إلى أن عاد بعد ساعة من الزمن,وهو يحمل في يديه صحنان سلمهما إلى شاويش الغرفة قائلا"على عددكم,كل واحد حبة فقط..

وأي واحد بياكل حبتين بيحرم زميله..ديروا بالكم.."انشددنا جميعنا إلى ما قيل واقبلنا من كل فج عميق لنرى.. حيث كانت المفاجأة..إن الحديث يدورعن " حب عنب مفروط" ..اخذ شاويش الغرفة يلف علينا بالعنب بعد إن طلب منا إن لا يأخذ الواحد أكثر من حبة فقط..كان لون العنب جميل ..اخضر..وحبته مكتنزة.. وقفت في وسط الغرفة وقلت "يا شباب قبل أن تأكلوها ,متعوا نظركم بهذه النعمة التي جاءتنا من السماء ..وأضفت..اللي كانوا بيتوحموا على العنب يتطمنوا إن اوحامهم لن يطلع في وجه او قفى حدا...",ضجوا جميعا بالضحك ,ثم تناولوا الوجبة الطيبة دون رحمة أو شفقة,على الحبة المسكينة التي تمزقت بين أضراسنا.

ولكن كيف لهذه القضية إن تمر دون أن نعرف مصدرها ,وكيف وصلت إلينا من خلف الأسوار.. بعد سنوات من حرماننا منها.....؟!!!!!ومن اجل ذلك قمنا بإجراء كل الأساليب الاستخبراتية والمخابراتية وجمع المعلومات, إلى أن وصلنا إلى الحقيقة..

عندنا في السجن, قائدا سيا سيا كبيرا,ومناضلا فذا طلائعيا,من إخوتنا ورفاقنا في هضبة الجولان السورية المحتلة..هو الشيخ النائب في مجلس الشعب السوري, كمال صالح كنج-أبو صالح-.. المعتقل من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني, بتهمة مقاومة الاحتلال, وتنظيم مناضلين آخرين من أبناء الطائفة الدرزية,وبتهمة إجراء اتصالات مع قيادته في دمشق..وباعتباره احد الرموز الوطنية في المنطقة,مع انه يتمتع بالحصانة البرلمانية وفق القانون الدولي.. كان رجلا له مكانته وحضوره واحترامه,عند كل الذين عايشوه عن قرب... وكان محبوبا من الجميع ,لما يتمتع به من وطنية وغيرة على المصلحة العامة.. وكان يدفع دائماً باتجاه وحدة الحركة الوطنية الأسيرة,من اجل الحفاظ على ديمومتها ومن اجل تطوير نضالاتها ,بهدف تحقيق حياة أفضل للأسرى والمعتقلين.....

أما قصة العنب، فقد توصلنا إلى أن المدعو "جبر داهش معدي"-عضو كنيست-, -البرلمان الإسرائيلي- وهو من قيادات الطائفة الدرزية في "دولة الكيان الصهيوني",قد قام بزيارة المناضل أبو صالح في السجن- كفار يونا- بيت ليد-, واحضر معه كمية قليلة من العنب...ولكن المناضل أبو صالح أبى على نفسه إن يستأثر بالعنب وحده,بينما إخوته ورفاقه الأسرى الآخرين محرومين منه منذ سنوات...حينها نادى على احد الإخوة العاملين في الساحة طالباً منه معرفة عدد الإخوة السجناء في الأقسام الثلاثة المكونة للسجن,ثم أعطاه كيس العنب,لفرطه وتوزيعه على الأسرى بالتساوي,آخذا منه حبة واحدة فقط كالبقية,قائلا لهم .." لن آكلها إلا بعد أن تخبروني أن الجميع تذوق العنب.."وفعلا هكذا كان ..واجزم أن المناضل المطران ايلاريون كبوتشي المعتقل عندنا في السجن أيضا,قد تذوق حبة العنب كالبقية... أليست هذه هي صفات وسمات المناضلين الحقيقيين ,أمثال الرفيق,أبو صالح...؟؟ أريد إن أخبركم, إنني أرى الرفيق أبو صالح كل يوم,مع انه معزول في زنزانة انفرادية...وقد سمع أكثر من مرة ,يؤنب الحراس الدروز العاملين في شرطة حرس مصلحة السجون الصهيونية..على غلاظتهم وقسوتهم وفاشيتهم ضدنا نحن الأسرى... كل المحبة والتقدير لشيخنا الكبير,الرفيق أبو صالح..الذي متعنا بتذوق العنب بعد سنوات....

 

من/أفكار متناثرة من رسائل سرية مهربة

سجن:كفار يونا-بيت ليد

-1972-

 أرشيف الكاتب