عندما توقف الزمن في تلك الليلة
*بقلم الأسيرة المحررة المبعدة
آمنة منى
23-1-2012
كنا قد انتقلنا حديثا من سجن الرملة الى سجن الشارون, لم يمر سوى خمسة أيام على وجودنا في هذا السجن الجديد .. الغريب, وفي الليل مرضت احدى الأسيرات ولم نعرف ماذا أصابها وطلبنا حضور الممرض الى القسم, وبعد طول انتظار حضر الممرض وألقى عليها نظرة من الشباك, دون فحصها وقرر أنها "بخير" ثم خرج من القسم, لكن الأسيرة مريضة جدا ويبدو عليها ارتفاع درجة الحرارة والتعب والاعياء حاولنا مداواتها ذاتيا لكننا لم ننجح.
وأنا كممثلة للقسم ومسؤولة عن الأسيرات وسلامتهن واجب علي الاعتناء بها والاهتمام لصحتها فهي أمانة في عنقي, طلبت حضور الضابط المناوب للقسم للتفاهم معه بشأن الأسيرة المريضة وضرورة علاجها أو حتى فحصها لمعرفة علتها واستمر الحال ساعات طويلة ووضع الأسيرة يزداد سوءا وبعد طول مباحثات وجدال واقناع وكل ما يحتاجه السجين الفلسطيني للخروج الى العيادة بالسجن الاسرائيلي أثناء الليل, وبعد طلب الأوامر من المسؤولين المتواجدين في بيوتهم تقرر الحصول على أمر باخراج الأسيرة المريضة الى العيادة.
حضرت قوة كبيرة من السجانين والضباط الى القسم مدججين بكامل العتاد من خوذ وهراوات وستر واقية وغاز مدمع وصاعق للكهرباء وبعد كل هذا الأمر تقرر فتح باب الغرفة المتواجدة فيها الأسيرة المريضة لكن .. بشروط: أن لا تقف أي أسيرة من داخل القسم على الأبواب المغلقة في الغرف الأخرى وأن يعم الهدوء القسم وأن تتجمع الأسيرات المتواجدات مع نفس الأسيرة المريضة في جهة واحدة ودون حراك.
بالرغم من أن الوضع والطلب مجحف قررنا الانصياع لهذه الأوامر التعسفية فحياة الأسيرة المريضة وصحتها أهم من أي شيء, وبالفعل دخلت القوة القسم ومن ثم الى الغرفة وطلب من الأسيرة مرافقتهم مشيا على الأقدام ودون مساعدة من أحد وهي لا تقوى على الحراك فكما يقال مجنون يحكي وعاقل يسمع, كان الأمر مضحك مبكي, فاعترضت على هذا الوضع وطلبت أن أرافقها وأساعدها بالنهوض والمشي أنا أو أي أسيرة أخرى فكان الرفض قاطعا لكن ما العمل؟؟ هل تذهب الأسيرة المرضة زحفا الى العيادة ناهيك أنها مقيدة اليدين والرجلين أو أن نتركها لتشتد حالتها صعوبة والله أعلم أي حال سيحل بها .
هذه حال لا يمكن مجاراتها أو السكوت عليها فقررت الاعتراض واحتد الأمر الى الصراخ ما بيني وبين الضابط المسؤول... وما هي الا لحظات حتى تضاعفت القوة وبدل الاهتمام بالأسيرة المريضة, توجهت القوة الى غرفتي وفتحوا الباب,, غرفتي صغيرة جدا لا تتسع الا لاثنين, لكنها بقدرة قادر أصبحت كبيرة لتحتوي أكثر من عشرين سجانا وسجانة وبثوان قليلة تم سحبي بالقوة من زنزانتي الى الخارج حاولت السؤال والاستفسار عن السبب أو الى أين !! لكن لمن لا يعلم تفاصيل السجن في تلك اللحظات ينعدم الكلام ولا تجد من يسمع أو من يجيب أو من يفسر, لحظات كنت فيها بالخارج أحدهم يدفعني والأخر يعرقلني حتى وصلت الى غرفة عزل بقسم أخر ,, دخلت الغرفة الباردة جدا والقذرة جدا والمظلمة, انتظرت لأعرف السبب وبعد حوالي نصف ساعة وعندما فقدت الأمل لمعرفة سبب عزلي ولأنني طالبت بفرشة للنوم عليها وغطاء حضر ضابط برفقة سجانين ... فتح الباب .. ودون سؤال أو جواب مسكني من شعري وبدأ يسحبني من زاوية الى زاوية ولا زلت أتسأل لماذا؟ وانهال علي بالضرب المبرح على وجهي ورأسي وجسدي,, فقدت الوعي من شدة الضرب وأنا أتسأل لماذا؟ واستمر في ضربي وتعذيبي وسؤالي الوحيد لماذا؟ ماذا اقترفت من خطأ ليفعل بي كل هذا؟ ما الذنب الذي أذنبته؟ واستمر الحال ساعة كاملة, لم أشعر بها بجسدي من شدة الضرب .. تمزق شعري.. سال الدم من جبيني .. ألم بكل مكان ولا جواب .. حذاؤه يمر فوق جسدي .. على وجهي ورأسي ولا جواب وبعد انتهاء هذه الجولة أعطى الأوامر ليقوموا (بشبحي) بالسرير أي تربيط اليدين والرجلين بالقيود ومن ثم ربطهما الى السرير, لم أر شيئا ولم أشعر الا بالظلم والظلم.
لن أنس هذه الضربات وهذا الألم, لن أنسى وقعها على جسدي، لن أنس صوتها وكل شيء, لن أنس القدمين تدوسان على رأسي وجسمي, لن أنس الألم والوجع والظلم الذي لا يعادل شيئا على ذنب لم أقترفه, قيدني الى السرير وأنا منهكة القوى لا حول ولا قوة لي, وبعد لحظات استعدت وعيي من هذه الصدمة حاولت فهم ما يجري, لم أسمع الا الألم ولم أفهم الا الظلم... ألم شديد بكل جسدي, ضعف ووجع ومرت ساعات وأنا أتألم من الوجع والبرد فالبرد مؤلم جدا وأنا لا أستطيع الحراك, يداي ورجلاي وظهري، ألم عنيف يخترق كل جسدي وما من مجيب, لم ينفعني الصراخ والمناداة حتى دموعي تجمدت وأنا لا أستطيع الحراك.
ومرت أربع وعشرون ساعة كاملة وعيناي تتنتظر فتح الباب ليفكوا قيودي علّي أرتاح ولو لدقيقة واحدة, لكن الكارثة كانت عندما فتحوا الباب ليتفقدوا ويتأكدوا أنني لم أحرر نفسي من القيود, فطلبت الذهاب الى المرحاض ولم أكن أعرف أن طلبي مضحك فقد ضحكوا جدا من هذا الطلب وأخبروني أن الوضع الطبيعي للأسير (المشبوح) هو أن يقضي حاجته في ملابسه, لم أعرف ولم يسبق علي موقف مماثل, لكن ما العمل؟
اضطررت لقضاء حاجتي في ملابسي وعيناي تنتظر قدومهم فقد تجمد كل شيء بي الا بصري وأذناي التي تترقب سماع خطو أقدامهم لعلهم يرحموني ويفكو قيودي واستمر هذا الوضع ساعات وساعات وكل دقيقة تمر وكأنها دهر, الزمن توقف وكذلك الحياة لم يعد هناك وجود للبشر, انتهت الانسانية, لا عدل ولا شفقة ولا كلام, لا شيء الا الوجع.. الوحوش من حولي والسلاسل تقتلني, ورائحة الذل قبيحة ... ولا مجيب ... توقف الزمن ولم يعد يمشي حتى الوقت تآمر معهم, لم يمر سريعا كلحظات الفرح ... ثلاثون ساعة مرت وكأنها ثلاثون يوما أو ثلاثون شهرا أو ثلاثون سنة, سكنت فيها كل الكائنات ولم يعد وجود للحياة أو الروح كنت أنا الوحيدة التي تتنفس وتتألم في هذه الساعات ومات ما دون ذلك ... و... و..
- آمنة منى
اعتقلت في يناير عام 2001 وكانت تقضي حكما بالسجن المؤبد وتحرر في اطار صفقة التبادل في اكتوبر 2011 وأبعدت الى تركيا
مقال / آمنة منى .. غزة بانتظارك .. بقلم/عبد الناصر فروانة 17-10-2011