وسيلة جديدة لإذلال ذوي الاسرى

التعري ضريبة تدفعها زائرات الأسرى في سجون الاحتلال

 

كتب عاطف أبو الرب - 26-7-2008 - منذ سنتين لم تزر شقيقها وقد لا تزوره حتى يخرج من السجن، هذا ما أصبحت متيقنة منه، فهي ورغم مرور عامين على اعتقال شقيقها، ورغم شوقها الشديد له إلا أن ظروفها حالت دون زيارتها له طوال تلك الفترة.

 بعد أن حزمت ( ع.م ) أمرها قررت أن تزور شقيقها، فهي لم تعد قادرة على فراقه، ويغلبها الشوق والحنين. تقدمت بطلب الحصول على تصريح أسوة بباقي المواطنين، وكان لها ما طلبت. حصلت على التصريح، وسألت عن تفاصيل السفر.

حيث حذرها من سبقها من النساء من ارتداء ملابس ذات الأزرار المعدنية، وكذلك حذروها من وضع دبابيس في المنديل، كما حذرتها النسوة من ارتداء الحلي والمصاغ، وكانت تصغي لكل هذه التعليمات وتعمل على حفظها.  لم تنم (ع.م ( تلك الليلة، وبقيت تفكر بغدها، وطوال الليل كانت تفكر بما سيحدث، استعادت كل التفاصيل التي سمعتها على مدار العامين الماضيين، فتخيلت المعبر الذي ستمر منه، وكيف ستتصرف، تخيلت المجندة وهي تنادي عليها وعلى غيرها، تخيلت في تلك الليلة الحافلة التي تقل الزوار، وتخيلت عملية الانتقال من حافلة إلى حافلة، منت نفسها بالنوم في الحافلة الإسرائيلية، فالمسافة طويلة جدا، والكل يؤكد أن النوم سيد الموقف في هذه الرحلة، لذا فالنوم في هذه الليلة ليس مهماً، فغداً نوم طويل. أزعجتها فكرة النوم، فهي لا تفضل النوم في مثل هذا السفر. حاولت أن تغمض عينيها، لكنها ما أن تغمض العيون حتى تداهمها أفكار متضاربة، فكيف لها أن تقابل شقيقها، وماذا ستقول له بعد هذا الغياب، كيف ستعتذر له عن عدم زيارته طوال الفترة الماضية، كم من الوقت يستغرقها حتى تفيض بكل ما تختزن من مشاعر الحب والشوق.

تتذكر فجأة أن الزيارة تكون من وراء حجب، تداهمها هواجس كثيرة، عندما تتذكر أنه لن يكون بمقدورها ملامسة شقيقها، وأنها لن تتمكن من الهمس بأذنيه، فوسيلتها لذلك جهاز هاتف وضع خصيصاً لكل زائر. يتكدر مزاجها، وتعصف بها أفكار سيئة. تتخطى كل هذه التخيلات، وتحاول من جديد أن تنام من جديد. بقيت على هذه الحالة حتى حان موعد الانطلاق، فحملت نفسها، وتفقدت أمرها، ها هي بطاقة الهوية، وهذا التصريح. تفقدت ملابسها، لا معادن، ولا حلي. 

 توجهت مع غيرها من الزوار من بلدتها إلى مدينة جنين، وصلت المكان المخصص لتجمع الزائرين، ووقفت مع المنتظرين، وصلت الحافلة، وبدأ الزوار بالصعود، وكان موظف الصليب الأحمر يتأكد من سلامة الأوراق، ويصدر تعليمات للزائرين. ركبت مع من ركب، وبعد اكتمال العدد غادرت الحافلة جنين باتجاه معبر الجلمة.

وما هي إلا دقائق حتى توقفت الحافلة هناك، وطالب السائق الزوار بالنزول، ودعاهم لتفقد أغراضهم. وقال فيما قال لهم، الكل يأخذ حاجته معه، لأنكم ستنتقلون إلى حافلة غير هذه الحافلة. لم تفكر كثيراً، فهي لا تحمل معها شيئا اليوم. نزلت وحاولت أن تكن أول الذين يدخلون الحاجز، فهي تواقة لأن تجد نفسها في الطرف الثاني، هي تحاول أن تطمئن نفسها بأنها في طريقها إلى اللقاء الموعود منذ عامين أو يزيد.

وكان لها ما ارادت فقد سبقها للتفتيش عدد قليل جداً من الزائرين.  سمعت التعليمات وهي تحط خطواتها الأولى داخل المعبر، سمعت صوتا يقول< حط كل شيء معاك على جنب، ادخل من الباب، وقف ارفع ايديك، وقف لا تتحرك، تعال هنا على المكانة، إذا معاك فلوس ولا شيء آخر حطهم على جنب، وضعت محفظتها جانباً ودخلت بسرعة، صوت صفير ناعم لم تكترث له، وكان الأمر لا يعنيها، ارتفعت حدة الصوت، وتحول إلى صراخ وقف.. وقف.. وقف، ولأن المنادي ينادي بصيغة المذكر، لم تفكر أنها المقصود، كما أن الموقف جعلها مرتبكة جداً. لحظات قليلة جداً، أدركت أنها المقصود، توقفت فأمرها الصوت بتفقد أمرها، والعودة مرة ثانية للمكانة، فتكرر نفس الصوت. الصوت الذي لم تر مصدره أمرها الوقوف جانباً، ودعا آخر للدخول، الناس يمرون دون أن تصدر الماكنة أي صوت، بدأت تفكر في سر الصوت الذي تصدره الماكنة، ولم يسعفها تفكيرها من معرفة السر. 

 عاد المتحدث وقال بنت، مرة، ادخلي على الغرفة، لم تعرف أين الغرفة، فصارت التوجيهات تصلها عبر مكبر صوت، باب أصم ليس به من شكل الأبواب التي تألفها أي معلم، اتبعت التعليمات، دفعت الباب بقوة، وشعرت أنه يغلبها، لكنها أمام إلحاح المنادي، تمكنت من دفع الباب.

ثلاثة مقاعد حديدية، تملأ الغرفة، وهي ليست غرفة بالمعنى المألوف. كانت امرأة قد سبقتها لهذه الغرفة.

 صمت مخيف، لم تحاول الحديث، وخافت أن تجلس على الكرسي، حتى بادرتها المرأة وقالت لها اجلسي، في البداية شعرت بوخز وتردد، لكنها نظرت صوب الكرسي، وجلست ولم تتحدث. بعد أن هدأت قليلاً من الموقف، نظرت صوت من سبقتها، وسألت لماذا هي هنا، فعرفت أن السبب نفس الماكنة اللعينة، التي تصدر أصوات صفير. حاولت أن تستجمع نفسها لمواجهة الموقف، وحاولت أن تعرف من زميلتها في هذا الظرف، سبل التصرف، فتبين لها أن من سبق لا يعرف شيئا عن أسرار هذه الرحلة. قررت أن تسلم أمرها لله وبدأت بالدعاء.  مع مرور الوقت زاد عدد المتواجدات داخل هذه الغرفة الصماء، وتبين لها أن المرحلة القادمة هي الأخطر.

عرفت ممن جئن بعدها أن على كل من تواجد هنا الدخول بشكل فردي لغرفة ثانية، وخلع الملابس بشكل شبه نهائي، وذلك بحجة الفحص، وليتأكد الاحتلال أن الصوت الذي تصدره الماكنة، غير ناتج عن مواد ممنوعة، ومتفجرات. بدأت الدنيا تعصف بها، وصارت الأفكار تتزاحم في مخيلتها، وأدركت أنها أمام موقف جلل. وللخروج من أزمة التفكير والصراع، قررت أن تكون اول من يدخل لهذه الغرفة، وعاهدت الله أن لا تخلع ملابسها، فكيف لها أن تخلع ملابسها أمام الاحتلال، ـ وما سر هذا الإجراء، وهي التي حرصت ألا تحمل معها أي معدن، فخلعت حليها، وارتدت ملابس لا يوجد بها أي معدن، حتى منديل الرأس اختارته من النوع الذي لا يوجد به معادن، ولا دبابيس. وبالفعل كانت أول من دخل تلك الغرفة.  غرفة جدرانها صماء، بها منفذ وحيد من زجاج سميك جداً، حتى لا تكاد ترى من يتواجد في الطرف الثاني.

خوف شديد سيطر عليها، ولكنها قررت أن لا تبدو كذلك.  هنا الرحلة بدأت تأخذ شكلا ًآخر، صارت تسمع تعليمات فقط < سكر الباب..  مش هيك.. شد أيدك على الباب... وقف كويس.. اطلع هنا... شو اسمك... وين رايح.. اسمع شوي بحكيلك بتساوي.. اشلح منديلك... بقول اشلح منديلك.. هذا اللي على رأٍسك اشلح... شو أنت ما بتسمع.. أنت ما بتفهم... أنا بحكي عربي... يا الله بدنا نخلص< استجمعت قواها كما تقول، وقالت بصوت مرتعش، أنا ما بشلح منديلي، عندها تحول الصوت الذي يصدر التعليمات، وصار صراخاً.

شو أنت هنا مش أنت اللي بتقول شو بدك، اشلح وإلا بنجيب الشرطة. هذه النبرة، أعطتها قوة وصارت تقول بصوت عال أنا ما بدي أشلح، وجيبوا الشرطة، بدأ الصراخ والتهديد وغير ذلك من أساليب بث الرعب في النفوس، وإجبار المرأة على خلع ملابسها دون كلمة، وذلك من خلال التهديد بقيام الشرطة بإجبارها على خلع الملابس، وهذا غير جيد. وأمام ما يجري، رفعت المرأة منديلها، وأنزلته عن رأسها، واعتقدت أن الأمر انتهى، لكن الاحتلال لا يقف عند حد. حيث جاء الأمر الثاني اشلح القميص، بسرعة، واشلح كل شيء، ولما تخلص بنقول لك تلبس من جديد.

هنا عادت وحملت منديلها، ووضعته على رأسها، وقالت جيبوا الشرطة، أنا ما بديش أزور، وما بديش أشلح، لكن هذا لم يرق للجنود داخل الغرفة الزجاجية، حيث استدعت المجندة أفرادا من الشرطة الرجال، وذلك في رسالة تخويف للفتاة، وتبعتها بتهديد إذا ما بتشلح رح نجبرك على ذلك، وما فيش ترجعي لبيتك إلا إذا سويت مثل ما بدنا. لم تخف هذه المرأة حجم الخوف الذي انتابها، ولم تنف أنها تمنت أن الأرض تنشق وتبتلعها، بدلاً من أن توافق على طلبات الشرطة، ولكن قررت الاستمرار في المواجهة. بعد نقاش، أخرجت من الغرفة، وذلك لإدخال أخريات. نقلت لغرفة ثانية، وتركت واقفة، دون أن يسألها أحد.

لم تعد تدري ماذا يجري في الخارج.  في هذه الغرفة بدأت مواجهة نفسية، وصارت شيئاً فشيئاً تدرك أن الموقف يتحول لصالحها ولكن مخاوفها لم تتبدد. فصار أفراد الشرطة يفتحون الباب عليها، ويسألونها ما بدك تزوري، فإن قالت لا، يسألونها ما بدك تروحي البيت، تقول نعم، فيقولون لها إذا لم توافقي على التفتيش لن تروحي البيت، سوف تذهبين السجن. تحاول أن تقنعهم، وما أن تبدأ الحديث حتى يغلقون الغرفة، ويغادرون المكان، ويقول الواحد منهم كلمة < فكري منيح<. هذه الحالة استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، حضرت بعدها مجندة برفقة أفراد الشرطة، وساروا بها في المعبر، وهم يحاولون ترهيبها، وتخويفها، وكلما حاولت الحديث، صدر صوت واحد ( هسسسسسس)  وبعد حراك داخل المعبر، وجدت نفسها عند المخرج، وناولتها مجندة بطاقة الهوية، وقالت لها ما فيش زيارة، روح البيت، وممنوع تزور مرة ثانية.

فهمت وإلا ما فهمت ،  تبددت مخاوفها من ذلك الموقف، ولكن كل أحلامها في اللقاء طارت أدراج الرياح، لن تزور أخاها، ويبدو أنها لن تزوره أبداً، هكذا هددوها، وبدأت الأفكار تتزاحم، ماذا لو وافقت؟ لماذا لم أر إلى أين يمضون؟ لماذا لم أتمكن من إقناع الجنود؟ ماذا سيقول أخي؟ هل سيغضب علي لأنني لم اف بوعده بأنني سأزوره؟ هل سيعذرني؟ بقيت في هذه الحالة تمشي خارج المعبر، سائقو السيارات ينادون على الركاب، فيما هي تمضي وكأنها خارج المكان، لم تعد تسمع إلا الأصوات التي خرجت منها، تهديدات بإجبارها على خلع ملابسها، وتسأل نفسها عما جرى، وهل خرجت بسلام، فتعود تؤنب ضميرها، بأنها سبب في عدم زيارة شقيقها في السجن. وفي خضم هذه الحالة تذكرت أن حمالة الصدر التي ترتديها، بها مشبك صغير جداً من المعدن، فلعنت ذلك المشبك، وأفاقت على صوت أحد السائقين وهو يناديها وطلب منها أن تركب لأنها آخر راكب. ركبت السيارة وعادت إلى جنين، ومنها إلى بلدتها، ولا تزال تفكر في أمر تلك الزيارة التي لم تتم.

المصدر / صحيفة الحياة الجديدة الفلسطينية السبت 26-7-2008

 

اضغط هنا موضوع ذات صلة / اسرئيل " حولت قضية زيارات الأسرى من حق مشروع إلى " لفتات إنسانية " وتواصل منعها لزيارة أهالي الأسرى كعقاب جماعي وفردي