في يوم الأسير: الطفلة يافا تزرع الشموع في زنزانة والدها

 

بقلم : د. حسن عبدالله

21-4-2008

بالصدفة، ولا شئ غير الصدفة، تزامنت زيارة الطفلة يافا لوالدها عصام الذي يقبع في معتقل نفحة، مع مناسبة يوم الاسير الفلسطيني. ويافا تبلغ من العمر سبع سنوات ، لكنه مضى اكثر من نصف عمرها الطفولي دون ان يتسنى لها احتضان والدها بدفء نظراتها.


عندما اخبرتها والدتها الصحفية نجود، انها ستذهب مع عمتها في الغد الى معتقل نفحة، من اجل الزيارة ، صفق قلبها فرحاً، واخذت تركض بين حجرات المنزل تغني تارة، وترقص تارة اخرى، ثم تطلق خيالها بعيداً بعيداً لعله يختزل المسافات والزمن ويحملها في التو الى نفحة، بخاصة وان الانتظار حتى الصباح يعني تعريض الروح والجسد للجلد مرات ومرات ببطء عقارب الساعة. وبين تنقلها على جناحي خيالها الى نفحة، وبين غضبها الشديد من ثقل الزمن، تعبت يافا، فخلدت الى نوم عميق، غزته احلام، المشترك فيها قضبان واسلاك شائكة وسجانون يتجهمون غضبا.


وفي صباح يوم الزيارة .


نهضت يافا مشدودة، لا تدري كيف تتعامل مع دورة الزمن الجديدة. لقد كان صباحاً استثنائياً، لم تتناول وجبة الافطار.. لم تذهب الى المدرسة .. لم تلعب مع صديقاتها في الساحة.. لم تقرأ درس اللغة العربية .. لم تحل مسائل الحساب.. لم تمرن ذاكرتها على جدول الاثنين.. لم تتأكد ان حصيلة ضرب اثنين في خمسة يساوي عشرة .. لم تضع لها المعلمة نجمة حمراء على دفتر النسخ مكافأة على خطها الجميل  ....


يافا في صبيحة يوم الزيارة .. لم تمارس طقوس الطفولة.. بل قفزت من سريرها مذعورة، خشية ان تكون الحافلة التي تقل ذوي المعتقلين قد توجهت الى نفحة دون ان تتمكن من اللحاق بها.


يافا هذا الصباح بملامح جديدة، اختزلت الزمن.. نامت طفلة ونهضت صبية متحفزة لخوض مغامرة عناق بعينيين تخبئان قلقاً واسئلةً وغضباً ولوماً وكبرياءً، لكن تخبئان حباً وحباً وحباً.


ومن رام الله الى نفحة ، يافا الطفلة يسابق خيالها الحافلة، يقطع المسافات ، يجتاز كل الحواجز الثابته والطيارة. يافا الطفلة تسابق يافا الطفلة ويافا الفتاة الناضحة تتبارى مع يافا الناضجة، تتبارى عقلا وصبرا وحكمة وارادة .


حينما وصلت المكان ، دقت بكعب "قبقابها" بوابة المعتقل فانفتحت ، واعلن السجان اقصى درجات الاستنفار ، محاولا نزع فتيل التصعيد من كعب " قبقاب " يهدد الاستقرار ويجعل حياة القابضين على اعناق الحريات عرضة للخطر .


دقت يافا بكعب " قبقابها " البوابة الحديدية ونادت :


"
يا اهل معتقل نفحة ، يا اصدقاء عصام ، يا كل الصابرين المنتظرين ، يا طيورا مقيدة الاجنحة ، يا طيورا طليقة الاجنحة . يا اهل نفحة .. السلام عليكم في يوم الاسير .. السلام عليكم في كل يوم .. السلام عليكم صباحا ومساءً ، عصرا وظهرا ، ليلا ونهارا " .


لبى الجميع نداء صوت الصغيرة يافا ، نهضوا ، نهض المعتقل ، دبت الحركة في المكان والزمان . دست يافا يدها في جعبة حلمها واخرجت اجمل الورود والاشعار ونثرتها على رؤوس واكتاف من نسيهم تجار المرحلة .. ثم ولجت غرفة الزيارة ، رأت والدها من خلف جدار زجاجي .. فرحت ، حزنت .. هدأت ،ثارت .. هزت باصابعها الغضةالقضبان ،فمادت الارض تحت اقدام السجان ، ارتجف خوفا ، بينما اطمأن قلب عصام ، استكان للمسات اصابع غضة طرية :

سأل عصام الاسير يافا الصبية كيف الوطن ؟

قالت : منقسم ، مشتت

وسأل كيف الناس؟

-  ممزقون بين واقع مرير وحلم قديم معتق

-  كيف الارض ؟

-  يذبحها الجدار ، فتنزف في الليل والنهار

-  كيف الاطفال ؟

اجابت : يدوسون باقدامهم الصغيرة على مسامير الانقسام والتشتت ، ويمارسون اللعب بين مطبات والتواءات الفئوية والنظرات الضيقة ويرسمون باقلامهم على باب الشمس صورا مختلفة عن تلك التي يصدمون بها يوميا في الشوارع والساحات ومن خلال شاشات التلفزة

-   وماذا يرسمون أيضا ؟

 -  يرسمون وطنا جريحا ، لكنه يبتسم للغد


تغادر يافا بعد ان يأتمنها والدها على قلبه ، يوصيها :

 

" خذي قلبي ازرعيه في رام الله ، اسقه من ماء طفولتك ، حتى ينبت ويزهر فيما ومآثر جديدة ، بدل ثقافة الانا والاستهلاك والاستئثار واقصاء الاخر وتفضيل علم المجموعة الصغيرة على علم طالما تفيء بظلاله كل أبناء الوطن ". تغادر يافا نفحة ، بعد ان تزرع بدورها الشموع في زنزانة والدها ، تبدد عتمتها ، وبدل ان تستقل الحافلة التي جاءت بها الى نفحه وتعود مع الاخرين وجدت نفسها في حافلة دافئة ، لا تشبه اية حافلة اخرى .. حافلة من نوع مختلف ، يتدفق فيها دم انسان ، ويحركها نبض انسان ، ويضبط ايقاعها احساس وشفافية انسان.. انها حافلة قلب عصام .