فلسطين خلف القضبان

www.palestinebehindbars.org

 

 

   

"فلسطين" تجمع شهاداتٍ حية عن أسرى قُتلوا لذرائع اسرائيلية كاذبة

بعد تسعةٍ وثلاثين عاماً على إعدام "أسير"...خيوط الجريمة تتكشّف!!

محررون استهدفوا: (إسرائيل) حاولت تصفيتنا جسدياً من "تحت الطاولة"

قطاوي: عرفنا أن سميح سيقتل بعد أن نادى عليه الضابط:"أنت لساتك عايش؟!"

شهود عيان: قُتل بالقرب من "جميزة" "أبو صرار" قبل 39 عاماً

عائلة حسب الله: جادون في رفع القضية في محكمة الجنايات الدولية

 

غزة / تحقيق- هدى بارود:

أحاديث كثيرة تدور في ساحة "الفورة" لقسم (بت) في سجن غزة المركزي (السرايا)، وصمت لا يخلو من الترقب والألم، فمن يستطيع التحدث بعد جولة طويلة في "المسلخ" الذي يطلق على غرف التحقيق الإسرائيلية، لا يقوى على التحرك خطوة واثنتين وراء أصحابه الذين يرفضون الكلام، خوفاً من ظهور ثغرات صنعها التحقيق بين أسنانهم.

سميح سعيد أبو حسب الله، الشاب الطويل، أسمر البشرة، واسع العينين، كان واحداً من الأسرى الذين منعتهم جولات التحقيق في "المسلخ" من التحدث والتحرك بسرعة وسط مجموعة من رفاقه في ساحة صغيرة تطل على باب غرف التحقيق في الطابق العلوي في ذات السجن، حيث أَوقفَ تحركه البطيء كبقية زملائه صوتٌ عربي "مكسر"، لضابط إسرائيلي يدعى أبو سالم، ينادي من باب بحدة، " سميح حسب الله إنتي هون، لساتك عايش ..... تعا .. تعا"....تجمد سميح في مكانه، وهو لا يدري ماذا يكيد له الضابط "أبو سالم"!!.

المشهد السابق كان مشهداً حقيقياً حدث قبل نحو أربعة عقود لأسير فلسطيني قتل في الثامنة عشرة من عمره حين كان معتقلاً في سجن غزة المركزي....حيث فتحت "فلسطين" الدفاتر القديمة" لجرائم الجلاد الإسرائيلي التي ارتكبها بحق أسرى فلسطينيين تم إعدامهم من قبل قوات الاحتلال العسكرية والأجهزة الأمنية، كممارسةٍ فعلية خارج نطاق القانون، وذلك بعد أن كشف الباحث المختص بشؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة مؤخراً عن جريمة إعدام للأسير سميح حسب الله الذي اعتقل بتهمة تنفيذه عمليات ضد الدوريات الإسرائيلية، وحيازة أسلحة وقتل جنود....جمعنا أطراف الحكاية من كل جوانبها، واتجهنا إلى كل من له علاقة بالجريمة....فكانت هذه القصة بكل تفاصيلها:

تسلسل القصة

وحتى نضع القراء في صورةٍ مبدئية مختصرة لما جرى للأسير المذكور حسب أقاربه والشهود، أنه بعد أن اقتادَ الجنود سميح إلى خارج "الفورة" باتجاه الطابق السفلي من "المسلخ"، والذي كان مخصصاً لخيول الإنجليز في بداية بنائه، فقد بقي "أبو سالم"، الضابط الإسرائيلي قصير القامة..أسمر البشرة..حليق الشوارب ينظر إلى سميح إلى أن دخل قسم التحقيق، حينها تحرك يهوي على إحدى قدميه هابطاً باتجاه الطابق السفلي.

كُبّل سميح الذي يرتدي ملابس السجن الزرقاء بالسلاسل، وأغمضت عيناه، ونقل في دبابةٍ مصفحة إلى مخيم النصيرات وسط قطاع غزة...وصلت الدبابة إلى منزل سميح الكائن في "الكلبوش" -حي يقع في مخيم النصيرات-، ودخل الجنود المنزل الذي لم تكن فيه سوى والدته تضع قدراً من المفتول فوق النار، في (حوش) بيتها المكتظ بأشجار "الأسكدنية"، ذلك أن أمه زارته في السجن قبل وفاته بيوم واحد، وتلقت وعود بالإفراج القريب عنه، مما جعلها تصنع المفتول، فرحاً بالإفراج المنتظر عن ابنها... "المفتول" الذي حرمته هذه الأم على نفسها حتى موتها.

دخل الجنود البيت، وحبسوا أمه في واحدة من غرف بيتها الثلاث، واقتادوا سميح مكسر الأسنان ومنزوع الأظافر، في أرجاء المنزل، ثم حملوه مرة أخرى ( بالقوة) داخل الدبابة.

ونقل سميح من بيت أهله يوم الاثنين 12/10/1970 باتجاه الغرب، إلى منطقة نائية في مخيم النصيرات آنذاك، تميزها شجرة جميز قديمة يعلو ارتفاعها طابقين في بناية سكنية، وتحيط بها أشجار الصبار التي تشكل حاجزاً بينها وبين البيوت المتفرقة حولها، وحانت لحظة النهاية، عندما قُذف بسميح خارج الدبابة بالقرب من جميزة "أبو صرار"، ليطلقوا النار باتجاه رأسه، فأردوه قتيلاً.

أبلغ الناس والد سميح بأن ابنه قُتل، واستدعاه الحاكم العسكري في غزة لاستلام جثته، وكان تقرير الوفاة يشير إلى إصابات مباشرة في الرأس من الأمام، وتهتك في الجمجمة، في حين ادعى جيش الاحتلال الإسرائيلي قتله أثناء محاولته الهرب، وبعد استشهاده مباشرة، أضربت مدارس مخيم النصيرات لشهر كامل، أما الإسرائيليون فقد ادعوا وقتها، محاولته الهرب أثناء إعادة تمثيل مشاهد من اعترافاته، رغم عدم اعترافه بشيء، حسب زملائه في السجن آنذاك.

رفاق وجيران

التقت "فلسطين" بعددٍ من شهود العيان على مقتل سميح، في مخيم النصيرات، والأسرى المحررين من رفاقه في سجن غزة المركزي، الذين أدلوا بشهاداتهم الحية.

واتهم الأسير المحرر علي القطّاوي، زميل الأسير الشهيد في سجن غزة المركزي، جنود الاحتلال الإسرائيلي، والضابط أبو سالم، "بتصفية" سميح، وقتله عمداً، بعد مناداته للأسير باستغراب " أنت لساتك عايش"؟!.

وقال القطاوي لـ " فلسطين": "بعد أن نادى أبو سالم على سميح بطريقة تؤكد استغرابه من وجوده حيا، عرفنا أنه سيقتل، خاصة بعد هجوم الجنود عليه واقتياده باتجاه غرف التحقيق"، لافتاً أن زملاء سميح في سجن غزة المركزي، أرجعوا اغتياله بعد تعرفه على أحد عملاء اليهود المتخفين بين الأسرى، ينقل الأخبار للجنود، وينشر الفتنة".

أما الأسير المحرر جلال عزيزة، فقد قال:" افتقدنا سميح، وسألنا عنه كثيرا، ولم نحصل على إجابة رسمية، عدا الكلام الذي تناقله عمال النظافة في السجن".

عبد الناصر أبو كويك، جار سميح في مخيم النصيرات، كان شاهداً على اغتياله، رغم عدم رؤيته لمشهد قتله مباشرة، فقد قال:"حاصرَ اليهود منطقة جميزة "أبو صرار"، التي لم تكن عامرة بالسكان وقتها، تبعناهم أنا وبعض من الصبية وكان عمري 10 سنوات وقتها، لم أرهم يقتلوه، ولكن سمعت صوت إطلاق النار، وبعدها علمنا مباشرة بوفاته".

ذهبنا إلى موقع شجرة الجميز التي لم تعد موجودة، حيث التقى أبو عادل أبو صرارّ، الذي قتل سميح بالقرب من بيته، أخبر فلسطين أنه لم يشاهد الحادث بأم عينه، ولكن عرف أن مقاوماً فلسطينيا من أبناء الجبهة الشعبية، قتل بالقرب من منزله، وسط تجمع للجنود الإسرائيليين الذين حاصروا المنطقة، قبل سماع إطلاق النار.

دولاب التصفية

وكان عدد آخر من الأسرى تعرضوا لمحاولات اغتيال، خلصتهم منها معجزات قدرية، السجين المحرر أحمد بارود، نقل من سجن غزة المركزي، إلى شاطئ خانيونس، مقيداً في يد جندي إسرائيلي، داخل جيب مصفح، وما إن وصل إلى شاطئ البحر، فك الجندي القيد الذي يربطهما، وترك "الكلبش" في يد بارود، وطلب منه الذهاب لقضاء الحاجة، فشعر أنهم يكيدون له شيئاً وقبل أن ينفذوا ما أرادوه، إلا أن ما أنقذه هو أنه جاء اتصال مباشر على "المخشير" يبلغه بخبر مهم في المنطقة.

ويضيف بارود الذي نفذّ عمليات فدائية استهدفت دوريات إسرائيلية: "(إسرائيل) استهدفت ذوي الأحكام العالية، وعمدت إلى تصفيتهم خارج السجن، خاصة وأنها دولة تدعي الديمقراطية، وترفض إنزال حكم الإعدام بالأسرى، لذلك تلجأ له، من تحت الطاولة"،.

المدرسات أنقذوني

بالعودة إلى الأسير المحرر علي القطاوي، فإنه هو الآخر كان قد تعرّض لمحاولة اغتيال، أنجته منها صرخات المدرسات في مدرسة فتيات في مخيم البريج، التي كان من المقرر أن يُصفى بجوارها.

ويقول القطاوي:" أخذني الجنود من الزنزانة مع بداية النهار، ظننتُ وقتها أن لي زيارة من الصليب الأحمر، أو أن مدير السجن طلبني، ولكن لما أخرجوني خارج السجن، وربطوا يدي في جيب عسكري مكشوف، إلا أن وصلوا إلى بيارة زيتون عند مقبرة البريج، أيقنت وقتها أنهم يخططون لقتلي".

بعد وصولهم إلى منطقة خالية من السكان، فك الجنود الإسرائيليون وثاق القطاوي، ودفعوه إلى الخارج قائلين " هي المغازي هونيك.. يلا روح"، يتابع " أدركت أنهم يحاولون قتلي، وبعد دفعهم الشديد لي لأنزل من الجيب العسكري، فأمسكت بأخشاب طولية كانت على الجيب كحماية، وبدأت بالصراخ".

ولحسن حظ القطاوي، سمعت مجموعة من المدرسات في مدرسة الفتيات بالقرب من البيارة يحضرن لبداية الدوام الدراسي، صراخ الأسير، وتعرفت عليه إحداهن، فصرخت المدرسات، وخرج الناس، وهرب الجنود بالأسير إلى السجن.

ويضيف:" تمسّكت بالجيب لأني أعرف مصيري لو نزلت منه، ووثقت بكلامهم، ولم تعجبهم فعلتي، ففي طريق العودة انهالوا عليَّ بالضرب واللكمات إلى أن أدخلوني الزنزانة".

ورفع قبل ذلك أبو أنور أبو عتيق ( شيبوب)، وعلي القطاوي، قضايا تدين الاحتلال الإسرائيلي في محاولة اغتيالهم، حيث يقول "الأخير":"رفعنا شكاوى بالتصفية غير القانونية، على الاحتلال الإسرائيلي، مع يقيننا بعدم جدواها"، معرباً عن أسفه من أن الصليب الأحمر لا يمتلك القدرة على محاكمة (إسرائيل)، "ورفعنا القضايا من باب إظهار السلوك الإسرائيلي المعادي للأسرى في السجون لا أكثر".

جرائم حرب

وفي حادثةٍ مشابهة، يرويها جبر وشاح، نائب مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة، اقتادت فيها قوات إسرائيلية أبو أنور عتيق ( شيبوب)، إلى مخيم النصيرات لقتله، وفي سوق النصيرات حيث يحتشد الناس، كشف شيبوب عن وجهه، وبدأ بالصراخ، " أنا شيبوب، واليهود رح يقتلوني، اتصلوا بالصليب".

عرفَ الناس الأسير من لونه الأسود الداكن، ونبهوا الصليب الأحمر الذي نشر " سياراته" في مخيم النصيرات بحثاً عن الجنود الإسرائيليين والأسير، رجع الجيش الإسرائيلي بعدها بشيبوب إلى الأسر وفشلت محاولتهم في قتله.

وفي السياق ذاته أكد وشاح على أن القتل المتعمد المتبع في السجون الإسرائيلية، هو " جرائم حرب"، يجب محاسبة الاحتلال الإسرائيلي عليها، قائلاً:"إن قتل (إسرائيل) للأسرى بطرقٍ مختلفة ومتعددة، جريمة حرب يجب أن ترفع فيها قضايا تجرم الجناة، والقتل بهذه الطريقة دون إبلاغ الصليب الأحمر باعتقالهم، هو مخالفة للقوانين الدولية، ولا يمكن التهاون فيها".

ووصفَ وشاح عمليات القتل المتعمد بـ "عمليات خارج نطاق القانون"، مشيراً إلى اعتماد (إسرائيل) عليها منذ عام 67م، حيث أودت بحياة ما يقارب الـ 200 أسير.

وأضاف:"تختلف أشكال القتل المتعمد في سجون الاحتلال، فمنها ما يكون تصفيةً مباشرة، بإطلاق الرصاص، ومنها ما يكون بالإهمال الطبي حتى الموت، وثالثة بالعزل الانفرادي لأشهر طويلة داخل غرف لا يتجاوز ارتفاعها المئة متر، ولا يستطيع الأسير رفع رأسه بها، ومن ثم قتله مشنوقاً، وادّعاء انتحاره".

وتابع حديثه:"القتل بحجة محاولة الهرب، ليست بطريقة جديدة على الاحتلال، فهو إما ينفذها في آخر مراحل التحقيق، وبعد اعتراف الأسير، إذ يطلب منه تمثيل المشهد، وخلال تمثيله يصفى، بحجة الهرب، وأحيانا يحدث الإعدام أثناء نقل الأسرى، بعد تخفيف الحراسة حولهم، والادعاء بأنهم يحاولون الفرار".

وأشار إلى أن تمثيل الأسرى لعملياتهم جزءً من التحقيق، قائلا:"وافق الكثير من الأسرى النزول مع الجنود بحجة التمثيل، لمعرفتهم بأنها مرحلة إجرائية لازمة للتحقيق، يرتدي فيها الأسير ملابسه العادية، ويمثل أمام كاميرا تصوير، طريقة تنفيذه لعمله الفدائي"، معلقا " لذلك لم يتوقع الأسرى الغدر بهم وقتلهم".

ردّات فعل في "الفريزر"

ومن جهته أكد الباحث في شؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة كل ما نشره حول مقتل الأسير سميح أبو حسب الله، قائلاً:"(إسرائيل) لم تمارس القتل العمد فقط، ولكن اتبعت أشكال أخرى للتخلص من الأسرى الفلسطينيين، وأنا أتحمل ما نشرته عن مقتل سميح أبو حسب الله".  وأضاف فروانة في حديثه مع " فلسطين":" لم يُوثِق الحدث حال وقوعه، ولكني أملك شهادات حية عليه، والجاني ما زال على قيد الحياة"، مشيراً إلى أنه أثار قصة حسب الله لفتح ملفات الأسرى الشهداء جميعهم في سجون الاحتلال.

واعتبر أن التعامل مع "ردّات" الفعل لهكذا قضايا سرعان ما تبرد، وتصبح " فريزر"، مطالبا بالانتقال من رد الفعل إلى عمل ممنهج وصحيح، يقود إلى نتائج إيجابية، قائلا " يجب أن ننتقل إلى العمل الممنهج، ولا نتوقف عند الأرقام، بل نتجاوزها لنصل إلى القصص الحقيقية والخبايا الواقعية وراء هذه الجرائم".

وتحفظّ فروانة على أسماء الشهود اللذين توصل لهم في بحثه عن أدلته حول القتل العمد لسميح حسب الله، قائلا " الشهود بحاجة لمن يحميهم ويضمهم إلى حاضنة قانونية تدافع عنهم، وهذا ما لا تستطيع الصحافة فعله".

اللي ما بصيب بدوش

ومن خلال زيارةٍ قامت بها "فلسطين" إلى عائلة أبو حسب الله، فقد تبين أنها تعزم على رفع دعوى في محكمة الجنايات الدولية، للتحقيق في مقتل ابنهم، ومحاسبةِ الجناة، حيث أكدوا بأنهم لا يعرفون سوى ما دار في محيط منزلهم عندما جاء الجنود بسميح إلى البيت...وتقول الصحفية علا حسب الله، ابنة أخ الأسير سميح التي أخذت على عاتقها الاهتمام بالقضية فقالت لـ " فلسطين":" جرائم الحرب لا تسقط بالتقادم، رغم معرفتي بطول حبال الموضوع، وصعوبة الحصول على نتائج".

وتضيف:"العيار اللي "ما بصيب بدوش"، ولعل وعسى أن تثمر محاولاتنا في تحريك الرأي العام الفلسطيني، لمحاكمة الاحتلال على جرائمه التي لا تتوقف".

ويبقى التساؤل قائماً حول نجاح محاولات العائلة والباحثين المختصين في إثبات مقتل سميح المتعمد، وفتح ملف عمليات التصفية التي تعرّض لها الفلسطينيون في السبعينات من هذا القرن، رغم تخوف العائلة والشهود من إنكار الجيش الإسرائيلي، وإخفائه للحادثة.

المصدر / صحيفة " فلسطين " 25-10-2009

 

- فروانة يكشف عن جريمة إعدام لأحد الأسرى في سجن غزة المركزي  12-10-2009