وقف على قبر والديه واخذ ينادي: أبي... أمي ، لقد عدت من السجن

 

بقلم عيسى قراقع

وزير شؤون الأسرى والمحررين

9-1-2012

 

وصل الساعة الثالثة فجرا الى مخيم الفوار، حيث تم الإفراج عن الدفعة الثانية من صفقة التبادل في وقت متأخر من الليل عمدا، لم يذهب الى البيت بل الى المقبرة، وقف فوق ضريح والديه وأخذ ينادي باكيا: أبي ، أمي ، لقد عدت من السجن، تدلى القمر في تلك الليلة وبكى نورا، واجتمعت السحابات وقررت أن يكون هذا الصباح مطرا أحمر الماء.

 

صوت ينادي ببحة قفزت من ستة أعوام قضاها في السجن، أطلق الظلمة من صدره وسخونة الحنين الى البيت والهواء وحضن الأم الدافئ وطلة الأب وهو يستقبل المهنئين، صوته المدوي في ساحة المقبرة دق أجواء الفراغ الذي احتل المنزل وفناء الدار ولا أحد سواه في هذا الصمت الجنائزي الثقيل.

 

الأسير نعمان أبو ربيع  يبحث عن والديه اللذين توفيا في أقل من عام من الإفراج عنه، لم ينتظر الموت قليلا، لم يبق على احد منهما، رحلا حسرة وقهرا ومرضا وانتظارا وانفجرا في الغياب، صراخه المشحون أيقظ الأموات، تحركت الشواهد، فتحت القبور، فالموت يسمع، والموت يئن تحت التراب.

 

الأسير نعمان لم يجد أحدا يزغرد في حوش البيت، لا نسوة يهنئن أمه المريضة والكفيفة الصابرة، وهي التي قالت: سأرى الدنيا عندما أرى أولادي، سأحضنهم في حضني حتى تسيل السماء حليبا،وأحميهم بضلوعي حتى ينسحب الخوف والبرد والظلمة من عيني.

 

أفرج عن نعمان وبقي شقيقه صلاح الدين في السجن، يدٌ واحدة أطلقت وأخرى ظلت مقيدة، برش فارغ وآخر ممتلئ، سجون تطفح بالبشر المحاطين بآلاف الجنود المتربصين ببنادقهم فوق أبراج سجن النقب، أسرى يعالجون حاجياتهم الإنسانية بالغناء وليس بالبكاء، لهم أسئلتهم المركبة وغرائزهم التي لقحت الليل والصحراء بما يفوق المعجزات.

 

كان لأمه في قلبه متسع، أمدته بالصبر والمعنويات في الظلمات، وكانت تقول لكل الناس: انتظر رجالا لن يتأخروا عن مواعيدهم، سيرافقونني الى البئر وآخر الحلم، فالحياة مع الأمل ممكنة، والحياة ليست أكثر من لقاء وردي تقع في المسافة بين الدنيا والآخرة.

 

الكل يعرف أم خالد والدة الأسيرين نعمان وصلاح، المرأة المعتكفة ودائما أمام مقر الصليب الأحمر كالمسيح، تسابق القيامة كي يقوم الأسرى من عذاباتهم، وتقوم هي

كزهرة عباد الشمس، توقظ الليل على إيقاع العائدين من الفجر دليلا على تقلب الفصول وصحة وجع التراب في القلب.

 

عندما زرت بيتهم في مخيم الفوار وجدت أم خالد قد هدّها التعب، فقدت النظر وأصيبت بالشلل، لم تستطع زيارة ولديها، تعيش بحاستها العاشرة تحدق في السماء، وبعد وفاتها زرت زوجها أبو خالد، فوجدته صامتا يتصرف كفاقد لكل شيء، وبعد شهر توفي هو الآخر فعدت الى البيت، فلم أجد سوى شبحا يدمر مفاصل الكون.

 

السجن والموت لا يفصلهما سوى حلم يصعد وآخر يتعثر وما بينهما رواية شعب لازال على الصليب مؤمنا أن الموت تليه الحياة، يتجدد هذا الشعب ويقشر لحمه بين الجنازات والأعراس، يرسل أرواحه لتضيء شجرة الميلاد تارة، ويعلن صلاة الجماعة فوق جبل الطور تارة أخرى ، ويستمر النداء.

 

ينادي على والديه ثم ينادي، فجر يفوح برائحة الخبز، يستيقظ الحالمون ويمشون في ماء أحلامهم صوب الصوت ويقولون له: كفى، لن تجد والديك في انتظارك، فالزمن أخذهما قبل نشيد الختام، ولكنهما الآن يحلقان في سمائك، وكل ما تحت الأرض وما فوقها يجري في ندائك .

 

الأمهات الأمهات، الآباء الآباء، المحمولون في الباصات الى السجون والمعسكرات، العائدون من السجون الى الموت والحسرات، المحشورون بين الوضوح والغموض، المقتولون على سيف الأمنيات، عند السياج يخبئون أقدارهم في الكلمات، وبعد الجدار يرحلون في شبق الذكريات.