الأسير أكرم منصور: أيها الناس إقرأوا هذه الوصية

 

 

 

بقلم : عيسى قراقع

وزير الأسرى والمحررين

5-4-2011

 

بعد ثلاثة وثلاثين عاماً في السجن، وعندما بدأ جسده العملاق يذوب سنة وراء سنة، وبعد أن دخل حالة من الغيبوبة استمرت ستة وتسعين ساعة واكتشف أنه لا زال حياً، كتب وصيته إلى الشعب الفلسطيني يطلب فيها في حال وفاته أن يهتموا بتوفير حياة كريمة ومحترمة لشقيقته لأنه يشعر انه بين الحياة والموت.

 

هذه آخر كلمات الأسير أكرم منصور سكان مدينة قلقيلية ثالث أقدم الأسرى في سجون الإحتلال والذي يعاني من ورم في الدماغ منذ عدة سنوات، بدأ جسمه يذوب ويصاب بالدوخة في كثير من الأحيان، وقد وقع مغشياً عليه مؤخراً على أرض سجن عسقلان، بعد أن إشتد عليه المرض، وفشلت كل النداءات والصرخات والإجراءات القانونية في الإفراج عنه، كي يعيش قليلاً هنا ويرى الحياة بعد أن نسيها تماماً.

 

الأسير أكرم منصور المهجور بين القضبان والجدران، والذي يتعرض مع مئات الاسرى المرضى إلى سياسة الإهمال الطبي المتعمدة من قبل إدارة السجون، بدأ قلبه يجف ويخفت، وهو يرى أن الحرب قد طالت في ساحة السجون، وأن الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي وكل مبادىء وقيم حقوق الإنسان وأعراف القانون الدولي لم تستطع أن تضع هدنة بين الأسير والسجان، ولم تستطع أن ترسل طبيباً أو شاهداً أو حلماً قصيراً يطمئنه أنه لا زال هناك وقت للسلام الإنساني كي يصمد ولا يسقط بلا رجاء.

 

هي وصية الآلاف الذين روضّوا الليل وأضاءوا الغيوم في الغياب، وصية من تجاوزوا الربع قرن من أعمارهم ينتعلون رياحاً سوداء ويضيئون نجوما في السراب، وصية من حفروا الزمن بإراداتهم حتى يظلوا كاملي التكوين هويةً وإسماً ولغةً، ولا ينسوا صوت الماء.

 

سألني اكرم في رسالة الوصية من تركني كي أقع عن حصاني بعد ثلاثة وثلاثين عاماً وحيداً، لم أجد كتفاً أتكيء عليه، ولا أفقاً يدلني على الطريق إلى العافية؟؟؟ ومن تركني لكل هذا الفراغ الذي يتسع ؟؟؟ ليس أمامي سوى باب ولا خلفي سوى وجع لم يعد يكفيني لأكمل رحلتي، فيختلط في واقعنا بكاء الحيّ على الميت، وبكاء الميت على الحيّ، فلا ندري هل نحن في الدنيا أم في القيامة...

 

يتكاثر المرض كما يتكاثر السجانون والقوانين الجائرة، دم صامت يسيل من الماضي إلى الحاضر في جسد، كأن السجن كمين للذاكرة وللروح وللمكان، يلتبس القول عن أسرى حركة تحرر وطني وأسرى يُسحقون من النصوص ومن الكائنات، ينتصر النسيان ولا ينجو أحد.

 

حرروا جسدي يقول أكرم منصور، هناك وقت للموت وهناك وقت للحياة، هناك وقت للحرب ووقت للسلام، لكننا لا هنا ولا هناك، لا نعرف عن قدوم الغد، ولا يشير الأمس بأننا جزءٌ من الأمس، فمن نحن في هذا الواقع اللغز، وما جدوى أن يأتي الربيع أو يرحل الصيف، ونحن نزداد إبتعاداً كلما مرت الفصول كما تمر الجنازات.

هي وصية الليل إلى النهار، المأسورون ظلماً، صغاراً وكباراً ونساءاً، المطحونون تحت الجنازير وفي ظلام الزنازين، المرسومون على اللوحات، الصادقون في معابدهم، المحتفلون بالأرض الجريحة بملح أجسادهم، المنتظرون أن يفيضوا كالبحر وينتشروا كالهواء.

 

هي وصية شهداء ظلوا هناك تحوطهم سورة الفاتحة ، وآخرون يحاورون الملائكة كي تؤجل فيهم وجع الوريد لعلها تتضح الطريق الى السماء، وهم أسرى يحمون النشيد من الانكسار، لا يغيرون اقوالهم ان تغيرت الوجوه وتقلبت صروف الزمان، يدخلون القدس صباحا، ويؤدون الصلوات الخمس مساءا، ويعودون الى دمهم مكتملين.      

 

الاسير أكرم منصور مزدحم بالدخان، يعرف كل السجانيين وكل السجون ويعرفنا اسما اسما، وزارة وزارة، مسؤولا مسؤولا،مؤسسة مؤسسة، يعرف ماذا فعلنا و لم نفعل ، من يدق  معه على الجدران و من لم يدق ،ومن ينتظر و ما بدلوا من     عمره تبديلا.

 

وهو لا يريد أكثر من عنفوان في الموت، وحرية في الزفاف، وأن كل وقته لم يكن صفرا عندما يسمع ايقاع قلبه واضحا واضحا، وعاليا عاليا، فلا يطول الليل   ولا يستمتع الجلاد بما يضمر العدم من الم وبرد وصمت وقمع تحت جنح الظلام.

 

أكرم منصور لائحة اتهام طويلة، تكشف كم فينا من جروح وويلات ومصائر مجهولة، وهو كتاب يقتفي أثار أسرانا في دروبهم الشائكة او في قبورهم المفتوحة، وما بين الذهاب و الاياب علينا أن نفتح كل باب ونقرأ الوصية، ونتامل كيف يذوب الضوء في الماء، ويشع كشمس تقوم عند الفجر كي تصل النهاية في البداية.  

 

أيها الناس أقرأوا هذه الوصية، لتعرفوا كم في السجون من حراك، وكم نحن ضحايا وموتى في آن واحد، لكم أبناء و بنات يدعسون بالقهر و المرض         والنسيان، ولكم جنود ظلوا وراءكم مقيدين خلف حدود الصدى، يعيشون على الامنيات، فاقدحوا الحلم من صوت او حجر ولا تقفوا على الحياد.   

 

أيها الناس اقرأوا هذه الوصية، لأن المسافة بين الموت و الحياة لا تحتاج الى تأمل، ولكن المسافة بين السجن و الموت تحتاج الى موقف حتى لا يتشابهان، وحتى لا يكبر السجن كما يكبر الورم في رأس أكرم منصور الذي أرسلناه قديما كي يعود جديدا حرا معنا، وطليقا في براري البلاد.