أسماء لا تريد أن تموت
عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين
30-7-2012
الأسرى المرضى ، رهائن السجن والمرض والإهمال والانتظار المفتوح على الأبد، يذوبون في أجسدهم رويدا رويدا، يقرأون حتفهم سطرا سطرا ويصمدون في المؤقت والمؤجل إلى حين يحلقون طيورا أو يهمدون في أوجاعهم ساكنين.
الملف الأكثر سخونة ووجعا في الساحة الاعتقالية، المضمد بالعذاب والتوتر والمشتبك مع الموت في كل لحظة، وهو صراع مع حياة غير طبيعية لا تتعدى المسافة بين كرسي الإعاقة وبربيش يمتد من كيس بلاستيكي يتدلى عبر شق في البطن لقضاء الحاجة عند الاسير المشلول منصور موقدة ، وهو صراع بين نبضات جهاز المنظم في صدر رياض العمور وعضلات قلبه التالفة.
الأسرى المرضى، يخترقون مواعيد الموت ويبقون أحياءا إلى ما يستطيعون إلى ذلك سبيلا، يخترقون الجاذبية والكلام بالمسكنات والهمس، يتنفسون في أجسادهم ، ويتحركون على عكازاتهم وعرباتهم ويقولون: أيها العالم اشهد لازلنا على قيد الحياة مستيقظين نمشي في ماء أحلامنا حتى يستجيب الفجر إلى صوتنا اليتيم.
أسماء لا تريد أن تموت : ناهض الأقرع المبتورة ساقه اليمنى والخائف على اليسرى من الضياع، وخالد الشاويش المشلول المعبأ بالمسكنات التي صارت إحدى هبات العزاء، وعلاء الدين حسونة المفتوح القلب البطيء النبضات يفتش عن شباك وهواء.
إن السجن يفتت حتى الجبال، فيصبح أعلى، ويصبح أوطأ، وما بينهما يجري الصدأ في العظم مرضا وقهرا، وتجري المفاوضات قطرة قطرة ثلاثين عاما ، فلا تصطاد غير غيبوبة سرطانية عند الأسيرين طارق عاصي وحازم مقداد أو زبد.
أسماء لا تريد أن تموت: المعاق أشرف أبو دريع المضمور العضلات، لا يحس ولا يشعر سوى بقبضة سجان يرتدي زي طبيب ومبضع الظلام، ووسم مسودة المدهوس أربع مرات على يد مستوطن، متعثرا ببقايا حديقة جسده الخالية من التراب.
أراهم الآن في الطابق الرابع من مستشفى سجن الرملة الإسرائيلي، ينتشرون في زنازين ضيقة، يجسون قلوبهم ويلملمون لحم سيقانهم، تتدلى البرابيش في أوردتهم، رائحة يود وصوت عجلات المقعد محمد أبو لبدة يبحث عن عودة إلى غزة خارج حديث القيامة .
أجساد محطمة ومصابة ومحشوة بالرماد، تضخم بالقلب عند محمود سلمان، وانسداد في الشرايين كانسداد السجن على الحياة، ولا بد من جوع للشفاء، يقول الاسير أكرم الريخاوي، ويطول الجوع وينشف الملح في جسد الشهيد زهير لبادة وهو يصرخ في الموت بكل قواه: انتظرني، خذ كل شيء سوى الاسم.
لم يصلهم احد، وإن وصل فلا يستطيع ضخ دم في الشرايين ووقف نزيف في المعدة، يعجز عن استئصال ورم سرطاني في الحلق، أو زراعة كلى وإعادة النظر لمن فقد البصر، لا يجد غير كتل لحمية مفتتة، تقلبها يد جلاد فتشتعل كي يتسع القبر عميقا دون آيات أو قراءة الفاتحة.
أسماء لا تريد أن تموت : السرطان في السجن يمشي على أربع : معتصم رداد المصاب بسرطان بالأمعاء، وأحمد سمارة المصاب بسرطان في الغدد، وفواز بعارة المصاب بسرطان في الدماغ، ورأفت تركمان المصاب بسرطان في الحلق، وعامر بحر المصاب بسرطان في الأمعاء، نقص في الوزن، وهبوط في السماء، يتأخر العلاج فيكتفون بالإشارة.
نعرف المكان إن عرفنا الأسماء الرباعية وأبرزنا الكوشان، لا سيما أن التاريخ يبدأ بالأسماء ، ومن لا يحفظ أسماء الأسرى لا يحفظ أسماء الشجر والطيور التي يتجمع غناؤها في أسماءنا.
الصرع والسعال وهيجان الجسد والأيدي المبتورة، الأمراض الغامضة، فيروسات وعفن وجراثيم وجلطات وإصابات، فلا تصدق كيف تبعثروا وتمزقوا ، ولا شيء يثبت أنهم الفدائيون الأصحاء المكتملون في الصورة.
أسماء لا تريد أن تموت ، يسعون لمعرفة ما لا يعرفون ، ذاكرة دمرها السجن عند جهاد أبو هنية ومناضل شرقاوي وكرم عيسى وعمر الأطرش، لا سمع ولا بصر عند رامي الديك ومحمد براش وإياد نصار، لا ساق فوق الساق ، لا ينبلج الليل من النهار، لا سلالم للصعود مع الحالمين.
الأسرى حكايتنا، مبادؤنا التي كانت، ثورتنا التي انطلقت ، الانفجار قرب البيت، الشهيد الذي حملناه ، الأسير الذي خطفوه، القصة التي نرويها في الليل، البكاء الذي نسكبه على وجه القمر، أعلامنا المرسومة بالزيت والمهيجة بالأناشيد ، وحدة اللغة والجغرافيا من رفح إلى القدس، ، ولا يحتاج الأسرى سوى أن نتقاسم معهم ذلك الغياب ونتصالح مع أنفسنا.
أسماء لا تريد أن تموت، صراخها صدى، كأن القادم صف توابيت ، إباحية إسرائيلية حولت السجون إلى مقاصل للإعدام البطيء، واستهتار بالثقافة والقوانين الإنسانية وبحقوق الأحياء والشهداء، ويستفحل المرض ، لا هدنة بين الحي والميت في دولة إسرائيل غير الانتظار أو النسيان.