الرياضي الأسير زكريا عيسى... كرة في مرمى الموت

 

بقلم عيسى قراقع

وزير الأسرى والمحررين

 22-8-2011

وقع الأسير الفلسطيني زكريا داود عيسى في ساحة المرض، السرطان ينخر جسده لحماً وعظماً وذاكره، وبدأ جسمه الرياضي يذوب شيئاً فشيئاً، يحلّق في سقف مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي الذي نقل إليه متأخراً بعد استفحال المرض عنده، محاولاً أن يفلت من لسعات الملح في دمه ويثقب المدى.

لاعب كرة القدم المعروف في التسعينات، النشط والذي سجّل أهدافاً بطولية في ملاعب فلسطين وأمام الفرق الدولية، واصل اللعب في ساحات السجون منذ 9 سنوات، يلقي الكرة هنا وهناك، تصطدم بهذا الجدار وذاك، ترتطم بالأبواب الموصدة أو تعلق على الأسلاك الشائكة، لا يرى جماهيراً ولا يسمع تصفيقاً أو صدى.

ويركل كرة الحرية أكثر وأكثر، لعلها تخترق الشباك وتهز مرمى الفضاء فيتّسع الصوت ضد الظلم والحصار، ويخرج الشبح من الزنزانة روحاً تستعيد جسدا...

زكريا عيسى يركل الوجع من وريدٍ إلى وريد، يشتبك مع الوقت ريثما يقرع جرس قلبه على ريحٍ، أو تضيء نجوم النسيان ظلام السجون مستنداً على ذراعين وكوكبين وخطوتين في اليقين.

لا زال يجري، يسدد كرته سريعةً ساخنةً تهزّ القضبان، يحتار الجلادون من قدرة الأسرى على السفر في التأويل نحلةً أو سحابةً أو صهيلاً لا يقع عن فرسٍ، ويعودوا سالمين...

 

زكريا عيسى يركل الكرة الآن في ملعب الموت، يقشّر السموم، يتحرّك يميناً ويساراً وأماماً وينادي، صمتٌ من كل الجهات، هدوءٌ في كل القرارات، والأسرى المرضى يختنقون ولا يتنفسون سوى رائحة الغياب...

 

زكريا عيسى يحرّك الكرة بين كريات دمه الحمراء والبيضاء، وبعضلاته المفتولة وشرايينه المتدفّقة يمرّ، يدقّ بحذائه حديد السجن ويطير كالأزرق في السماء.

لا زال يلعب... يستقطع الوقت المتبقي من النهاية، يقذف بالأسماء المحشورة مع الدم على ذاكرة

عليها أن تتذكّر: من مات في الحرب مقتولاً، ومن مات في السلام أسيراً مريضاً مشدوه العينين.

 

زكريا يركل الكرة في مرمى الموت، لا يهذي بل يصرخ متمرداً على الصدأ ودود الفراغ، يصكّ البرق ويحكّ بأظافره صخرةً تنام على ينبوعٍ تحت دوالي قريته عندما يسيل المساء عنباً ويجتمع في عيد الخضر كل الاولياء.

 

وينام جميلاً جميلاً، يوقظ دمه كي يحتسي حبّة الدواء، ويواصل الحلم على ارتفاع جبلين وبحرين بين القدس وبيت لحم صارخاً بالفجر: هيا، اعطني الإشارة والبشارة لأولد على درب الحليب والأنبياء

 

زكريا... لو كنت معك، لأطلقت كل الطيور التي تحلّق فيك كي يتسع نشيدك لصوت الهديل.

 

زكريا... لو كنت معك، لمسحت العرق عن جبينك وغسلت به وجه القمر، ورفعت يدك رايةً أعلى من السعال، وأقرب إلى باب بيتك والأولاد.

 

زكريا... لو كنت معك، لسجّلت كل ما تحرّك فيك من قشعريرة ونبضات كهربائية، وأطلقتها على وتر الأغاني، متلألئاً كالآيات وممتلئاً كالفيضانات.

زكريا... لو كنت معك، لأبرزت كوشانك وتاريخ ميلادك محفوراً على شجرة تنمو فيك، لأجدد صباك وتقواك على مرأى من السجّانين، وأصب الماء كثيراً على كل الجهات والكلمات.

 

زكريا ..لو كنت معك، لحملتك على دعاء أمك الشهيدة وقلت: اللهم ألبسه العافية، وأعطه من الحرية ما تمنى، واجعل من خلفه نورا، ومن أمامه نورا، فإن كان في السجن مظلوما فأخرجه، وإن كان في القيد مغلولاً فحرره، إنك على كل شيء قدير.