صفقة التبادل...... الطيور تحلق على ارتفاع منخفض

بقلم عيسى قراقع

وزير شؤون الأسرى والمحررين

 19-10-2011

يستقبل الشعب الفلسطيني 450 أسيرا و أسيرة سوف يفرج عنهم وفق صفقة تبادل الأسرى التي أبرمتها حركة حماس مع حكومة اسرائيل كمرحلة أولى من صفقة قوامها الإفراج عن 1027 أسير مقابل الإفراج عن الجندي الاسرائيلي المحتجز جلعاد شاليط.

ومن سجن عوفر العسكري سيطلق عدد من الأسرى والأسيرات الى بيوتهم في الضفة الغربية والقدس ، ومن سجن النقب الصحراوي سيفرج عن عدد آخر الى قطاع غزة والى دول الشتات ، حالة عاطفية ممزوجة بالحزن والفرح والترقب والأسئلة المكتملة والناقصة، حيث داهمت الصفقة الجسد والروح، وأعادت جدول المواعيد الى البيوت الراقدة في النسيان.

على أعتاب المعركة الأممية من اجل انتزاع اعتراف بدولة فلسطين الحرة المستقلة على ارض فلسطين، وفي خضم معركة الإضراب المفتوح عن الطعام الذي يخوضه الأسرى لليوم العشرين وفي أجواء هبة جماهيرية وشعبية تتسع وتمتد وتصعد على سلالم الحرية، أعلن عن إبرام الصفقة ، ليتساوى الظاهر والباطن، الوقت والملح والجوع والإنسان.

يقرأ الناس الأسماء: أسرى سوف يتحرروا بعد طول غياب، وآخرون سيبقون في السجون الى حين، وما بين الداخل والخارج تحلق الطيور على ارتفاع منخفض، الزنزانة تقبض على عنق الهواء، توغل في طريق بلا خرائط وعناوين، ليل يصير نهارا بعد قليل، ونهار يمتلئ بالليل وبالأرق والصدى.

مشهد يتكرر في هذا الصراع، الصمود والنوم، الميت وشبه الحي، ينتشلون جسدا الى اليقظة، ويبقون آخر لا يصغي ولا يبصر ولا ينهض من دهشته الغامضة، قلب يدق، وقلب يهدأ، موعد في رام الله وآخر في غزة، وما بينهما لا أحد يفسر للأسرى كيف يرتبط إيقاع الماء بالغناء لغياب يحضر ولحضور يغيب، يتخطى العقبة الفاصلة بين الأفق والهاوية.

سيطل علينا نائل البرغوثي وفخري البرغوثي وأكرم منصور وعثمان مصلح وفؤاد الرازم وآمنة منى وقاهرة السعدي، ولن يطل علينا مروان البرغوثي وأحمد سعدات وكريم يونس وهزاع السعدي ورشدي أبو مخ وناصر أبو حميد وعباس السيد وإبراهيم حامد ولينا جربوني وثلاثة وعشرين أسيرا يقضون أكثر من ربع قرن، وسنرتبك ونرتجف بين قلوب أمهات الأسرى، وبين ذاكرة وغروب وشمس وعبور بين الصور.

ستفرح بهم ونعانقهم، هؤلاء الرجال الذين صبروا وصمدوا، وسنشم رائحة الخطوة القادمة من ملابسهم، وسنمسح عن وجوههم عتمة السنين القاسيات، وسنعتذر للباقين المعذبين في السجن، وسنحاول أن نجد سبيلا الى التأمل أكثر، رؤية وبرنامجا وإصرارا على تطويع الممكن، كي يكتمل الوعي والمواعيد بلا نقصان.

هي الحرية، السماء غير مسيجة، الأرض بلا مستوطنين ومحتلين، الانسان في المكان وفي البيت وفي الشارع وفي المدرسة، هي الحرية العصية أن تسيس أو تستخدم لهذا الفصيل أو ذاك، النشيد الجماعي، قطرات ضوء تمطر مع العائدين وقطرات ماء تشع وتشرق من خلف القضبان.

سنفرح بهم، ونسألهم عن الباقين الجوعى والمضربين، وعن المرضى والمشلولين، عمن يقضون ربع قرن من أعمارهم حالمين، وسنسمع رواية أولاد الفينيق وأخوات شقائق النعمان، سنغدق على الألوان الأربعة أصواتهم، كي تتوحد الجغرافيا وتمتلئ الهوية بالأسماء والصلوات الخمس.

يعود الأسرى من سجونهم، الى عائلاتهم، ويعود السجان الى أسئلة القلق والوجود، الأشباح تخرج من أجساد الضحايا، بعد أن اختار الجلادون طريق الحرب فوقعوا في المصيدة، وعندما تحرروا وجدوا أنفسهم عالقين بدمنا كثيرا وبفراغنا الحديدي، لا هم في الحياة ولا هم في الموت، لا السلام يصفح لهم ولا السجن يحميهم من كابوس الجريمة.

الطيور الآن تحلق على ارتفاع منخفض، السماء لا زالت عالية، دخان كثيف، معسكرات وزنازين وأقبية تحقيق، وجع وصراخ وسعال، خيال أسير يصارع بندقية ليقترب من الواقع ويصير له شباك وبحر وظل وذاكرة تعصر السحاب.

صفقة التبادل التي أنجزت بعد حصار وعدوان فسفوري وآلاف الشهداء والخراب وبرغم ما فيها من ارتجال وانتقاء وانفراد وفئوية، أرى فيها عرسا لم يكتمل، وزفافا خائفا جميلا، فضاءا يدلف كواكب على عينين مفتوحتين تنبتان في عينين مغمضتين.

صفقة التبادل أرى فيها ترميما للحلم الجماعي، وحورا ساخنا بين وحدة الوطن والحرية، ومنديلا يلوح بين الشرفات والمؤبدات المغلقة، وحتى لا أغرق في التوقعات، سأرى اليوم اليوم الزمن كله ، آملا أن لا أطيل النظر أكثر الى الساعة.