الشهداء يعودون الآن ...

 

بقلم عيسى قراقع

وزير شؤون الأسرى والمحررين

1-6-2012

 

واحد وتسعون شهيدا يعودون الآن من الغياب القسري، يخرجون من سجون المقابر السرية ويتحررون من النسيان، يلملمون عظامهم وذكرياتهم ويكتملون في عرسهم الذي تأخر منذ أن خرجوا وتمزقوا في زفاف الكون.

 

الشهداء يعودون الآن، يحملون على الأكتاف كطيور استعادت غنائها وأجنحتها وواصلت الطيران، وفي كل مدينة ومخيم وقرية سماء وصلاة، ولأول مرة يلتقي المكان والزمان في توقيت الشهداء بلقاء الموت مع الحياة.

 

حملوا أسماءهم وتركوا الأرقام الباهتة خلفهم على السياج، نفضوا التراب صاعدين إلى شواهدهم وحدائقهم بين الورد والآيات وصوت الآذان.

 

فلسطين الآن تتسع، أرواح ترتدي ملابسها الأولى، يفتحون الوصايا وقد اختلط الرذاذ بدموعنا ونحن نقرأ: شهيد مات في عيد ميلاده، وآخر قبل الفجر وبعد الصرخة، دون أن تودعه أمه، وشهيد قال لطفله سأعود بالحلوى، واختفى في السحاب.

 

الشهداء يعودون، تحرروا من المؤبد، استدعوا البعيد إلى القريب، وجعلوا ما ليس مرئيا، مرئيا، تحركوا من صورهم عن الجدار ومشوا في الشوارع كأن الموت لم يوجعهم، بل أوجع الأحياء المنتظرين، وأوجع دولة لا زالت تخاف ممن تحت التراب، وتبقى خائفة لمن صاروا حلما لمن بعدهم في الحياة.

 

خرجوا من أجسادهم وتذكروا كل شيء: إعدامهم بعد الاعتقال، سرقة أعضاءهم والمتاجرة بها، دفنهم على مسافة قريبة من الأرض معرضة لنهش الحيوانات الضارة والانجراف في سيول الشتاء، إخفاء الجريمة بتذويب اجسامهم سنوات طويلة كي تتحلل الحقيقة وتموت في ذرات.

 

الشهداء يعودون الآن، يرممون غدنا الآتي ، وليس في توابيتهم سوى مصحف، وقميص مزقته الرصاصات، وصوت نداء محشور وصرخة منهوبة هامت وحامت وقامت إلى لا مستقر.

 

يعرفوننا واحدا واحدا، هنا كنا قبل الجدار، وهنا صرنا بعد الجدار، هنا قرية مسحت بالجرافة، وأرض خطفتها مستوطنة وهنا سقط الحلم تحت جنازير الدبابة وهناك دم يشع فوق شجرة مباركة تحتها ماء وفوقها ماء.

 

ماتوا ولم ينفتح الباب، بقوا مع الموت وحيدين، لم ينقذهم القانون الدولي ولا شريعة السماء وحقوق الإنسان، ويا لها من مفارقة، اليوم نعلن موتهم من جديد، ويا له من حب يزف النعي للنعي، نقدم التهنئة بمن ولدوا في هذه الساعات، ونقدم العزاء لمن ماتوا في هذه الساعات.

 

الشهداء يعودون، الضحية تلملم دمها وتشير إلى قراصنة يعاقبون الموتى بعد الموت، يسرقون أعضاء أجسادهم، ويحرمونهم من قبر لائق ومن قراءة الفاتحة، ويشيرون إلى من تبقى خلفهم محتجزين في العتمة القاسية، يدقون فينا وجع الذاكرة.

 

الشهداء يعودون الآن، وقد تألموا طويلا في حفرهم الفردية والجماعية، حاولوا كثيرا أن يرفعوا أجسادهم إلى مستوى الانتباه، قاوموا الأبدية الخالية من المطر والضوء والملائكة حتى لا تنقص أجسادهم وتفر ملامحهم من الصور.

 

الشهداء يعودون إلى وطنهم والى الجنازة المهيبة، ملح وورد وزغاريد في مشهد يجسد رواية الفلسطيني الذي يعود ميتا ويعود حيا إلى هنا، إلى الأرض التي طفحت بالشهداء، ليلقون سؤال الحياة على الأحياء الباقين المأسورين في غموض المسافات، نحتفل بالميت لأن الموت تليه حياة، وراء الموت قاتل وسجان ومن أعدم القتيل بقرار رسمي ، وخبأ الجريمة ودفن صوت الضحية ليخفي البراهين ورائحة الحنين في ليل المقابر المسيجة بالظلام.

 

السماء في رام الله انخفضت احتراما لكرامة الشهداء، عناق بين البشر وأرواحهم لأول مرة في ساحة المقاطعة حيث يركض ضريح أبو عمار، صارت الحياة هي وعي الموت والتحرر من قيود الزمن، وتبدأ الصلاة.