الاسير نزار التميمي يعلن وفاة الساعة
بقلم عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين
19-7-2012
قبل تسعة عشر عاما اعتقل نزار التميمي وكان يحمل على يده ساعة من البلاستيك وتوقفت الساعة عند الواحدة بعد منتصف الليل عندما داهمه جنود الاحتلال وكبلوه وضربوه واعتقلوه واقتادوه إلى الدهشة الواقعة بين السجن وطلوع الفجر.
احتفظت إدارة السجن بالساعة في كيس وقاية محكم إلى جانب أغراضه الشخصية الأخرى كالملابس والهوية والحزام وغيرها في ما يسمى الأمانات التي يسترجعها الاسير حين الإفراج عنه حيا أو شهيدا.
في سجن عوفر العسكري وبعد تسعة عشر عاما وبتاريخ 18/11/2011 حرر الاسير نزار التميمي في صفقة شاليط ، واستعاد أماناته التي كاد ينساها في خضم حياة السجن وانشغالاته في إيجاد معادلة حسابية واضحة لحكم المؤبد في الزمن العبري لحكومة إسرائيل، حيث يبلى الوقت والجسد وتشيخ الروح.
تحسس نزار الكيس البلاستيكي الصغير الذي تسلمه مع الأمانات، هناك شيء صلب في داخله، تفاجأ نزار أن الذي يوجد في داخل الكيس هي ساعته التي كانت على معصمه ليلة اعتقاله، وعندما مسكها بيده ذابت الساعة وتناثرت غبارا وكأنها أعلنت وفاتها بعد صبر وصمود طويل.
ساعة نزار المخنوقة فقدت الأوكسجين ، ظلت محشورة لا يدق تحتها وريد ولا ينبض عرق ولا يقلب عقاربها أي أصبع آدمي، مهجورة هذه الساعة لا أحد يعيرها انتباها لتدله على بزوغ الصباح وحلول المساء.
ذاكرة نزار صعدت مع ذرات الساعة التي تحطم جسدها وصارت هباءا، بدأ المكان يتضح، رائحة الليل وفزع والدته وهي تبكي وتلطم ابنها عندما رأت الجنود يوقظونه من نومه ليعتقلوه، توفيت والدته قبل وفاة الساعة خلال وجود نزار بالأسر، ويبدو أن هناك علاقة بين دقات ساعة نزار ، ودقات قلب الأم.
الذاكرة التي بدأت تخرج من الباب الحديدي تأخذه الآن إلى خطواته الأولى في الطريق إلى المدرسة ومراقبة الربيع وزفاف الأمطار وغزل البنات، كأن السجن كان خيالا أو حلما طويلا، وأن شيئا بعيدا بدأ يعود.
يقال أن الوقت لا يموت، ولكن زمن السجن أقرب إلى الموت منه إلى الحياة وعندما يستيقظ الموتى يموت السجن في الوقت وتتهيج الذاكرة لتوقظ دم المكان.
ساعة نزار لم تتحرك خلال اعتقاله، همدت وسكتت وتخلت عن تتبع الزمن، هناك ساعة أخرى تدق بثلاثة أو أربعة من العقارب الفولاذية يوميا لتعلن إحصاء الأسرى، أو مواعيد الخروج إلى الساحة المسيجة، أو قدوم فرقة نحشون القمعية للتفتيش والتكسير والعبث بمحتويات الأسرى.
وقت السجن لا ينتمي إلى مكان، البرش الحديدي والغرفة المكتظة والزنزانة الضيقة ، ضجيج الأبواب وصراخ السجانين ، لا بداية ولا نهاية، لا ملائكة يزورون المكان ليبشروا بأي غدٍ قادم، لا فراشة تعلن عيد ميلاد زهرة، لا ريح يحمل رائحة البحر والسمكة، كل شيء بعيد وجاف ، وكأن السجن صراخ الوداع.
ساعة نزار التميمي لم تجب على أسئلته البدائية: ماذا سأفعل بعد المؤبد، ماذا فعلت قبل المؤبد، ماذا سأهدي عروستي يوم الزفاف، كلام نزار تخلى عن علامات الاستفهام وفضول الأسئلة، لأنه لا أسماء بالسجن بل أرقام، لا ملابس ملونة تشبه الطبيعة والفصول الأربعة، ولا أحد يدعوك في السجن لتحتفل معه بعيد ميلاده أو زيارة شجرة، لا امرأة تأتيك بقافية أخرى ردا على قصيدة، كل شيء ناقص والجسد كالساعة ينصهر في الصدى والحديد.
ساعة نزار توفيت منذ أن دخل السجن، لأنه صار مشغولا بملاحقة شبحه في زمن مواز، تكفيه حبة أسبرين وكأس ماء للشفاء من أي مرض، تكفيه دمعة صامته على زميله الذي سقط مقهورا قبل أن يخرج رسائله إلى أولاده، تكفيه موجة عالية من الانتباه كي يستوعب الفرق بين السلام والحرب والجنود المتروكين خلف المفاوضات، تكفيه أن لا صورة له ليرى نفسه في الأغنية خارج الجنون.
في معسكر عوفر ذابت ساعة نزار البلاستيكية ، ولم يعرف أنه فقيد أم وليد، وأنه ليس هو ، فالوقت كان بالسجن صفر، لم يكن حيا ولا ميتا، ليبدأ بالتذكر كما يتذكر الموتى وما ينسون ، العناصر الأولى ذابت في داخله كما الساعة، وعليه أن يكون الآن ما سوف يكون.