أم شادي الطوس: استيقظي ،عاد الغائبون من ضوء الأمس

 

بقلم عيسى قراقع

وزير شؤون الأسرى والمحررين

11-11-2013

 

قبل الإفراج عن أسرى الدفعة الثانية بعدة أيام، سقطت أم شادي زوجة الاسير محمد الطوس المحكوم بالمؤبد منذ عام 1985 مغشية عليها بعد أن أصيبت بجلطة دماغية حادة، ولازالت في غيبوبتها تنتظر من يوقظها على وقع فرس عائدة.

 

جاءتها الأخبار المتناثرة أن زوجها قد يفرج عنه مع سائر قدامى الأسرى بعد قضاء 29 عاما في سجون الاحتلال، لم تحتمل أم شادي الفرحة القادمة مثلما لم تحتمل ألم الفراق السابق، سافرت بعيدا صامتة، تناقش روحها عن شكل الوقت عندما يدق على باب الدار.

 

لازالت أم شادي ترقد في المستشفى الأهلي في الخليل نتيجة تعرضها لنزيف حاد في الدماغ وفي وضع صحي صعب للغاية، لم تشارك في استقبال زملاء زوجها وأبناء مجموعته الذين حرروا: زياد ومصطفى غنيمات، ربما خشية من عبء ذاكرتها الثقيلة أو عدم قدرتها على رفع بهجتها إلى قمة الغيم.

 

كانت الأم والأب معا طيلة غياب زوجها، حضنت الأولاد ورممت الغياب الموجع وقررت أن تتشبث بالأمل وتسابق الزمن وهي ترنو إلى أولادها وقد كبروا مزدهرين قادرين على إسقاط العدم، وكسر خيبة السجان العاجز عن منع وردة أن تنمو في شقوق جدار.

 

حاول الأطباء إيقاظها من غيبوبتها العميقة، وحاول الحلم أن يشرح لها انه أصبح واقعيا، وان فزع المؤبد والسجن قد تلاشى الآن، ولتسمع صوت الناس وضجيج الحرية تملأ كل مكان، لكن أم شادي ظلت نائمة ، أتعبها الانتظار تاركة لحواسها الخمس أن تطمئن أكثر على الرابط في العلاقة بين الأمس والغد.

 

في آخر الليل ، وفي أول المطر ، وعند لمعان الزيت، طل الأسرى علينا واحدا واحدا ، ولم يكن محمد الطوس بينهم، انكسر التوقع وانكسرت زوجته معا، فاض فينا الحب والحسرة، وهرع الفرح إلينا مصحوبا بالخوف والقلق ، دبت الحياة وغابت الحياة، كأن الأسطورة تلازمنا وتلح علينا أن نبقى واقفين متأهبين بين الموت والحياة.

 

الاسير محمد الطوس أطلق عليه الأسرى الفلسطينيون بالشهيد الحيّ، حيث ترتقي حكايته الى الأسطورة عندما خرج من تلك المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال عام 1985 حيا بعد أن اعتقدت حكومة اسرائيل أنها قضت على كافة مجموعته الفدائية التي نصبت لها كمينا عسكريا محكما في منطقة جبل الخليل.

 

أسطورة الطوس البطولية لم يصدقها أحد حتى فرقة الموت التي صبت كل رصاصها وقنابلها على السيارة التي كان يستقلها مع أفراد مجموعته والذين جميعهم سقطوا شهداء وهم محمد حسن سعيد ومحمود عدوان ومحمود النجار وعلي خلايلة.

 

وكانت مذبحة بدم بارد لمجموعة فدائية طوردت سنوات طويلة، وكبدت الاحتلال خسائر كبيرة، لم ينج منها سوى محمد الطوس ( أبو شادي) ، الذي قيدوه مصابا وجريحا ، ينزف الدماء من كل أنحاء جسمه، نزيفا على نزيف، وانهالوا عليه ضربا موحشا، فهم لا يريدونه حيا بل قتيلا مثل كافة زملائه وكان هذا هو هدفهم وقرارهم.

 

الأخبار التي شاعت وهزت المنطقة في تلك الفترة انتشرت بسرعة بان مجموعة جبل الخليل قد استشهدت، وتلقت  زوجته أم شادي وابنه الطفل شادي الخبر بصدمة وذهول، وبدأوا يطالبون كافة الجهات الدولية والإنسانية من اجل استلام جثمان محمد الطوس، ومعرفة مصيره ومصير أبناء مجموعته.

 

حكومة اسرائيل وجهازها الأمني افتخروا بهذا الانجاز الكبير، وخرجت وسائل الإعلام الاسرائيلية بالأنباء عن القضاء على أخطر مجموعة فدائية في منطقة جبل الخليل، كانت تعمل بأوامر و تعليمات من الشهيد خليل الوزير أبو جهاد، ولم يدرك العالم أن حكومة اسرائيل تتستر على جريمة وعملية إعدام بدم بارد بحق مناضلين قامت بتصفيتهم بطريقة بشعة وخارج نطاق القضاء.

 

نظرت إلى أم شادي وتمنيت أن تفتح عينيها قليلا لترانا، أن تنزع الأسلاك الطبية وتجلس، وترى قدرة الروح الإبداعية للفلسطينيين على الاختراق، أن تقف وتصافح العائدين من ضوء الأمس ، وتعلن شفاء ذاكرتها من القيد والنسيان.

 

أم شادي بكل ما فيها من وجع وقوة، المنكبة منذ زمن طويل على ترتيب مواعيدها القاسية مع أمنياتها القادمات، المشبعة باليقين بان الذي يجلس خلف شبك الزيارة سيعود قريبا، وان كل شيء على ما هو عليه في المكان، الشجر ورائحة النعنع وخطى الأولاد وضحكات البنات.

 

أم شادي وبمساعدة المؤسسات المجتمعية والقوى الوطنية استطاعت أن تتحدى المحتلين وتبني المنزل على أنقاض الدمار، ليسارع جيش الاحتلال بإعادة هدمه مرة أخرى، كأنه لا يريد أن يصدق أن لأبي شادي أثرا، ولا يريد أن يصدق أن هذا الرجل لا زال ينتظر العودة الى البيت والعائلة.

 

التحدي للموت والسجن لا زال يتحرك في قلب أم شادي وابنها ، وقد توقعت أن يعود الى منزله الذي أصرت أن تبنيه رغم كل بطش المحتلين، وليعود زوجها حتى يضع إكليلا من الورد على قبور زملائه الشهداء ويتنفس عميقا وطويلا من هواء قريته الجميلة التي تنتظره على أحر من الجمر، ينتظره ابنه شادي الذي كبر وتخرج من الجامعة وحفظ درس الحياة.

 

مسيرة شعب في امرأة فلسطينية تتحدى مهندسو الظلام، تمشي في الجبل والسهل وتتفقد أعضاء الأرض وسلامة القلب، تلملم الحجارة وتبني البيت الذي نسفوه، تسقي الدوالي ولا تنام.

 

أم شادي: استيقظي، عاد الغائبون من ضوء الأمس، تحركي، البعيد هو هذا القريب، وليس للأرض سوى أم  واحدة هو أنت، وليس لمحمد الطوس سوى صوت واحد هو صوتك، أعطيته عمرك كي يمتلئ بك عند اللقاء.

 

استيقظي: لا زالت الأرض تتسع لأحلامك، اخرجي من الصدى وانظري كيف تفتح أبواب الحديد، ويعود أولادك من الجامعات كما يعود الشجر من السحاب، ذاكرتك صاحية، ولكن نومك عميق.