قرية كسر القيد... اشتهاء الحرية للأشجار
بقلم عيسى قراقع
وزير شؤون الأسرى والمحررين
11-2-2013
شهد العامان الأخيران مواجهات شبه أسطورية وملحمية بين الأسرى وقوانين وإجراءات إدارة سجون الاحتلال، تمثلت بتصدي الأسرى للاعتقال الإداري التعسفي، ومواجهة سياسة الانقضاض المحمومة على حقوقهم الإنسانية والمعيشية، وسجلوا في ساحاتهم الخلفية نقاط انتصار مدهشة، ليستعيد الأسرى هيبتهم وصورتهم كجنود حرية لا يركعون ولا يخضعون.
والآن وبين سبعة عشر سجنا ومعسكرا داخل إسرائيل، تتسع وتضيق وتشتد قسوة، وفي تلك المسافات المغلقة بالحديد وبالعتمة ورائحة الموت، يدخل الأسير الفلسطيني ابن القدس سامر العيساوي الشهر السابع من الإضراب المفتوح عن الطعام إلى جانب زميله الاسير أيمن الشراونة، ويستعيد الأسيران جعفر عز الدين وطارق قعدان زمام مواجهة الاعتقال الإداري مرة أخرى وهم يصرخون: والله لو سقطت شعور رؤوسنا وتكسرت أسناننا لما نظرنا إلى الأسفل، ولو خلعت أكتافنا لما نظرنا إلى الوراء.
في تلك المسافات التي لم يطئها مسؤول أممي، حيث الموت يقترب من الأجساد المحطمة، وفي ظل صمت يشبه صمت الجريمة، كانت المبادرة لإقامة قرية كسر القيد في قرية عانين قضاء جنين، زفاف طبيعي يعبر عن اشتياق الحرية للأشجار، وارتواء الأرض بأبنائها مطرا حرا، حين تتفتح السماء ويتنفس الحصى بالماء.
كنا هناك، نريد نهاية،إما موت خرافي مدهش، وإما الاندماج بروح المكان حتى نقهر موتا كثيرا بموت أقل، ويخلع الأسرى حياتهم على الغيوم وأعالي الشجر، ويرانا من لا يرانا هنا شمال البحر في جنوب الضباب.
حواجز عسكرية، قنابل غاز، والباب مفتوح للورد والفراشات والصور، وانفجارات تحت أقدامنا وألف سجان يعلنون الاستعداد لاعتقال الأمل حتى لا يلمع بين أصابعنا ضوء يحك الليل ويشتهينا مشتعلين، أن يرى جنود الاحتلال علمنا فوق البرج والدبابة، أن يراقبونا في ساحة السجن نروي أحلامنا الآتية على النائمين، أن يقرأوا أسماءنا عالية على غصون الأشجار، أن نمتد خارجين من قيودنا من باب الشمس إلى باب الكرامة إلى باب المناطير حتى باب كسر القيد، هذا يعني أنهم عندما صعدوا إلينا وجدوا أن تلالنا عالية، وأننا نملك صفات الحضور كما نملك صفات الرياح.
المستحيل في إضراب الأسرى المفتوح عن الطعام، هو المستحيل الذي وحد حروف الهجاء بأجسامهم وانتصروا على الصدى، تحرروا ووضعوا حمامة فوق الكنيسة، وشمس فوق القدس، وأصلحوا وقفة الأشجار لاستقبال طيور لن تهاجر بعد اليوم.
إضراب الأسرى هو ضد اللون الجديد، لون الرماد والذل والاهانات الهادفة إلى تهشيم واقع الأسرى وتحويلهم إلى ذرات مصهوري الوعي، خاضعين لاملاءات الجلاد وتعاليم حكومته التي ترى أن السيطرة على الثائر الاسير تعني سيطرة على المكان وأجنحة الحرية و نداء الصلاة.
في قرية كسر القيد قال الأسرى أن الإسرائيليين تأخروا كثيرا في رحلتهم إلى النسيان، لا زالت ذاكرتهم محترقة بهم وبنا، ويرون تحت كل حجر فراغ في أسطورتهم وامتلاء بأسطورتنا.
هناك، شكر سامر العيساوي يده لأنها ظلت معه طوال هذه الفترة الطويلة من الإضراب ولم تسقط، وهناك شكر جعفر عز الدين عينيه، لأنهما لم تنطفئا خلال الهبوط التدريجي للوزن وانكماش اللحم والعظم والصوت، وهناك أم تحتضن صورة ولدها تصرخ في وجه الحرب الخامسة أن تتوقف، وأغنية تأكل من الليل قليلا، ليلبي نداء العسل شهوة الغزلان.
إضراب الأسرى شوش الصورة الجميلة للجنرالات الإسرائيليين كمنتصرين دائما، كلما اشتاقوا للحرب اشتاقت حرية الفلسطينيين لأعالي الأشجار، فلم تعد القوة تنفع الآن، لأن هذه القوة الكبيرة تركتهم غير نظيفين أمام ابتسامة أسير أعزل يبتهج كلما أصغى للروح السومرية في أزهار اللوز.
وعندما أسقطت إسرائيل هيبة ومكانة الأمم المتحدة باستهتارها بميثاقه وقراراته وولت ظهرها للشرعية الدولية، تألق في دمنا صوت الأحرار الذي لجأوا إلينا دفاعا عن وجودهم ولغتهم الإنسانية.
العالم يقرأ الآن أبجدية إضرابات الأمعاء، ليبدأ بتدوين الأسطورة الفلسطينية، ويسال كل المؤلفين والمؤرخين عن طبيعة النهاية ، بعد أن أغلقت مناهج الثقافة الإسرائيلية كل النوافذ على الأقلام والفراشات وما هو إنساني في فقه التاريخ وعلوم الكلام.
العالم الآن يضع النتيجة ويقول: أنهم اكتشفوا أن المأساة تزداد كل يوم عند الإسرائيليين ، بينما تهدأ موسيقى الوطن والجسد عند الفلسطينيين، وقالوا: أن الفلسطيني يقترب أكثر لزراعة الشجر مكان الجدار، يصدح النشيد الوطني، الشمس نراها تتدلى هناك ... تسقي الأرض بالحليب.