في الذكرى الـ21 لإستشهاد الأسير ابراهيم الراعي
نيسـان الشـهداء .. وحكاية أبى المنتصـر
بقلم / عبد الناصـر عوني فروانـة
نيسان 2004
للشهداء فينا مكانةً ، وعلى رؤوسنا تيجاناً , ولسلوكنا نماذجاً ، ولمستقبلنا قناديلاً ، فهم من ضحوا بحياتهم من أجلنا ومن أجل مستقبلنا ومستقبل أطفالنا ، فكانوا ولا زالوا منغرسين في أفئدتنا ، وإذا كانت الشهادة هي أعظم أشكال التضحية ، فإن الشهادة خلف القضبان يضاف لها عظمة خاصة .
وفي نيسان قدمت الحركة الوطنية الأسيرة العديد من الأسرى شهداءً ، وأذكر منهم الأسير خليل سلامة الرشايدة من بيت لحم ، والأسير سليم أبو صبيح من الخليل والذي استشهد في سجن جنيد بنابلس بعد أن أمضى اثنتي عشرة سنة ، والأسير الشهيد خليل أبو خديجة من رام الله ، والأسيرين ( جمال قبلان ، محمد أبو جامع ) خاطفي الباص رقم 300 واللذين تم اعتقالهما ومن ثم أعدما ، والأسير محمود فريتخ من نابلس واستشهد في سجن جنيد، والأسير طارق الحموري من الخليل ، والأسير ابراهيم الراعي من قلقيلية ، والأسير عبد الصمد حريزات من يطا واستشهد جراء التعذيب في معتقل المسكوبية ، والأسير معزوز أبو دلال من نابلس ، والأسير محمد الدهامين من الخليل ، والأسير بهاء الشرقاوي من بلدة الزبابدة في جنين حيث أنه اعتقل وقيدت يداه ثم أطلق عليه النار، والأسير حازم قبها " أبو جندل " من جنين والذي تم اعتقاله ومن ثم أعدم بدم بارد في ساحة المخيم في عام 2002 م ، فجميع هؤلاء استشهدوا في نيسان وقد لا يكون آخر من استشهدوا في شهر نيسان داخل السجون الإسرائيلية هو الشهيد الأسير سليمان محمد درايجة من الطيبة في المناطق التي أحتلت عام 1948 والذي استشهد في نيسان 2006 في سجن شارون ، فقد يشهد نيسان الحالي " لا سمح الله " استشهاد آخرين طالما بقيت الأوضاع في السجون على حالها المأساوية .
وقائمة شهداء الحركة الأسيرة ستستمر وتطول طالما بقيَّ الإحتلال جاثماً فوق أرضنا والسجون لا تزال قائمة بظروفها القاسية و الآلاف يقبعون خلف قضبانها ، ولا يزال التعذيب مشّرع في زنازينها والرعاية الطبية منعدمة في غرفها ، وبالمناسبة هذا كله أدى الى استشهاد ( 195 ) أسيراً منذ العام 1967 ولغاية يومنا هذا كان آخرهم الشهيد الأسير فضل شاهين الذي استشهد بتاريخ 29-2-2008 .
وأسرانا ورغم هذا كله شامخون ، وشهدائنا في قبورهم أحياء ، يمنحونا يومياً جرعات وجرعات من الصمود والتحدي والأمل في مستقبل مشرق .
وللشهداء أسمائهم والتي هي تيجانٌ على رؤوسنا وقصصٌ وحكايات نستوحي منها دروساً لتشكل لنا بوصلة سلوكنا وتضيء لنا طريقنا وإحدى هذه القصص هي قصة استشهاد الأسير ابراهيم محمود زيد الراعي " أبو المنتصر " الذي يعتبر أحد شهداء الحركة الأسيرة في شهر نيسان .. فمن هو الشهيد الأسير ابراهيم الراعي وما هي قصته ؟
ولد أبو المنتصر عام 1960 م في مدينة قلقيلية وكبر وترعرع في كنف عائلة أصيلة لم تبخل في تقديم أبنائها قرابين لحرية الوطن واستقلاله وأرضعته أمه حليباً ممزوجاً بحب الوطن ومقدساته وبالرفض لكل أشكال الذل والإحتلال ، فكبر وكبرت معه القضية فانغرست به وتعمق بها من خلال مطالعته ودراسته للعديد من الكتب والدراسات وبدأت ملامح الرجولة والبطولة ترتسم على شخصيته وفي العام 1978 م اعتقلته المخابرات الإسرائييلية ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشر من عمره بعد ، وخاض أول تجربةٍ في التحقيق والتي استغرقت أربعة شهور وبالرغم من أنها الأولى إلا انه انتصر فيها ،وحكم عليه بالسجن خمس سنوات على تهم لم يعترف بها ، وكانت هذه السنوات الخمس محطةً للإعداد والبناء والتثقيف الذاتي فكان السجن له جامعةً تنقل بين فصولها وقرأ العديد من الكتب والدراسات والتجارب الثورية ومع الوقت أصبح أحد أبرز المثقفين في سجن نابلس القديم ويقدم المحاضرات ويدير الجلسات ، بل امتاز أيضاً بالكتابة حيث امتلك قلماً سيالاً يتسم بالسلاسة وترابط الأفكار والتحليل والكلمات الثورية المعبرة والمنتقاة ومع مرور الشهور والسنوات أصبح إبراهيم إسماً ذو مكانةٍ مميزةٍ بين رفاقه .
وفي أوائل الثمانينات وفي خطوة يائسة من قبل الإحتلال لتلميع صورة روابط القرى المهترئة والتي شكلها كبديل عن م . ت . ف أقدم على الإفراج عن بضع عشرات من الأسرى فكان إسم إبراهيم من ضمنهم ولم يكن قد أمضى سنوات حكمه ، وخلال الحفل الذي أقيم خصيصاً لذك والذي ضم قيادات روابط القرى ورجال الحكم العسكري الإسرائيلي وشخصيات رخيصة وعميلة ، لم يتجرع إبراهيم المشهد ولم يقبل بحريته على حساب تعزيز مكانة روابط القرى العميلة وتلميع صورتهم القبيحة فوقف وبكل جرأةٍ ومبدئية أمام جموع الحاضرين يلقي كلمة الأسرى والمفترض أن يتحرروا ، و مما قاله بأن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم وأن م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ... فما كان من سلطات الإحتلال إلا أن أعادته للسجن.. فعاد مرفوع الرأس ليكمل فترة حكمه .
أكملها وأطلق سراحه وانخرط في النضال مباشرة في ساحة النضال الأرحب وكان شعلةً من العطاء وتميز بقدرته العالية على التأثير والإستقطاب ومن ثم إلتحق بجامعة النجاح الوطنية فكان الطالب الملتزم والمتفوق والقائد النشط والمحرض وفي 29 يناير سنة 1986م ، اعتقل الشهيد بتهمة نشاطه المميز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأطرها الجماهيرية والطلابية وصلته المباشرة بمجموعة اتهمت بقتل جنود اسرائيليين ، فخاض تجربة التحقيق الثانية بإرادةٍ أقوى خاصة بعدما تشرب جيداً كتاب فلسفة المواجهة وراء القضبان وصقلت شخصيته أكثر فأكثر فعجز الشاباك كالمرة الأولى في انتزاع أي سرٍ منه وحافظ على الصمت المقدس وأثبت أن الإنسان يمتلك طاقةً كبيرةً إذا ما كان متسلحاً بقضيةٍ ومبادئٍ وقناعةٍ بحتمية الإنتصار كما أثبت أن المناضل يستحيل فك عقدة لسانه اذا ما صمم وأراد مهما كانت حجم الضغوط النفسية والجسدية والأساليب الوحشية واللاإنسانية التي تستخدمها قوات الإحتلال ضده ، وكالسابق وكما يحصل مع المئات من المناضلين لفقت التهم له وحكم عيه بالسجن سبع سنوات ونصف.
لم يعرف الهدوء أو الإستكانة خلال فترة سجنه ولم يحد السجن من عطائه ونضاله و لم يستسلم للواقع ولم يسمح لحدود السجن الجغرافية وقضبانه الحديدية بأن تحدد مساحة نضاله وعطائه فكان حاضراً بإستمرار بين صفوف رفاقه خارج الأسر يراسلهم ويخاطبهم ، يوجههم ويقودهم في نفس الوقت... وكانت المخابرات الإسرائيلية تدرك جيداً خطورته كما كانت تدرك بأن بداخله أسراراً وأسراراً ولو أفشى عنها لاستطاعت اعتقال العشرات من رفاقه و تدمير وتفكيك مجموعات عديدة وحل ألغاز العديد من العمليات التي نفذت ضدها .
وبعد حوالي عام ونصف وبالتحديد في منتصف عام 1987م ، نقل أبو المنتصر للتحقيق في سجن المسكوبية بالقدس لعلاقته بإحدى المجموعات والفعاليات خارج المعتقل واستمر التحقيق معه لعدة شهور وخلالها اعتقلت المخابرات الإسرائيلية أخته من أجل الضغط عليه لكنه ظل صامداً ولم يدلي بأية أسرارٍ وبعدها نقل إلى سجن نابلس للتحقيق أيضاً وخرج كالعادة من المعركة منتصراً وفي بداية عام 1988م نقل إلى سجن ايالون المخصص للعزل ليوضع في زنزانةٍ انفراديةٍ و يُمارس ضده أبشع أساليب التعذيب الجسدي والنفسي.
وفي الحادي عشر من نيسان من عام 1988 كان الموعد مع الشهادة ، ولم تسمح سلطات الإحتلال سوى لخمسة عشر شخصاً فقط من أهله بالمشاركة في جنازته ليلاً واستطاع أفراد العائلة الكشف عن الجثمان ووجدوا علامات الضرب المبرح في الرأس وفي أنحاء مختلفةٍ من الجسم ودماء نازفة من الأذن وجرح في الخاصرة وبقع زرقاء متورمة في الرأس ..
فمات إبراهيم جسداً لكنه حياً فينا ونموذجاً يُحتذى لكل الثوار الأحرار في الصمود الإسطورى والنضال المتواصل فعاش مناضلاً عنيداً معطاءاً ، أسيراً شامخاً صامداً ، منتصراً في كل المعارك التي خاضها ، ومات كالأشجار وقوفاً .
ويحضرني هنا ما حفره الشهيد على جدران زنزانته في معتقل المسكوبية عام 1987م " رفاقي ، قد يشنقوني وهذا ممكن وإن شنقوني فلن يميتوني ، فسأبقى حياً أتحداهم ولن أموت ، وتذكروني سأبقى حياً وفي قلوبكم نبضات " .
نعم سيبقى حياً في قلوبنا بطلٌ من أبطال فلسطين قاتل في ساحات المعارك المختلفة وحتى السجن لم يرهبه ، وأصبح أحد المعالم البارزة في الصمود لينضم للقافلة الطويلة في هذا المضمار و ليلتحق بالشهيد فريز طشطوش والشهيد محمد الخواجا والشهيد عون العرعيروالشهيد خليل ابو خديجة و..إلخ وإلتحق بقافلة الصمود من بعده الشهيد خالد الشيخ علي والشهيد عطية الزعانين والشهيد مصطفى العكاوي و...
هذا هو أبا المنتصر الذي كُتبت له الأناشيد والأشعار والقصائد ، وحملت العديد من العمليات العسكرية اسمه وزينت الشوارع والمواقع المختلفة داخل الأسر وخارجه بإسمه وصوره وتغنى بإسمه المقاتلين ، وصدق حينما قال " لن يميتوني " لأنه لا زال وسيبقى حياً فينا وأصبح اسمه رمزاً للصمود ودعوةً لشحن المناضلين عموماً ولرفاقه في الجبهة الشعبية خصوصاً " أُصمد أُصمد يارفيق مثل الراعي في التحقيق " .
ومما كُتب عنه قصيدةٌ بعنوان " نشيد الصمود " للأسير محمود الغرباوي في سجن نفحة عام 1990 م وسأورد جزءاً منها .
أبا المنتصر
هزمت الجنود
وداخ المحقق في الفكرة العاقرة
وصّيرت سجانك الوغد قفلاً وقيداً
ولم تتسع كل هذه الزنازين للمنتصر
وهل يُسحق الجرمق
بزنزانة
بقبر
بنقالة الموت والفكرة العاقرة !
أبا المنتصر
ما اتسع السجن والقبر
للشفة الصامتة
وللقبضة الصارمة
ولكنه اتسع القلب فينا
والفكرة الخالدة
( الجرمق : هو أعلى جبل في فلسطين)
لكم المجد والوفاء ومنا العهد والوفاء