فلسطين خلف القضبان www.palestinebehindbars.org
|
سجل في مفكرتك
بين الفرحة والمأساة
ياسر شافع شاب من أصل فلسطيني كان يقيم مع أسرته في مخيمات اللجوء في لبنان التحق بالعمل الفدائي هناك،ضمن صفوف حركة فتح..
وفي إحدى المرات عبر الحدود الشمالية ضمن دورية فدائيـة مسلحة باتجاه الوطن، وقد تم أسره من قبل القوات الصهيونية بعد اشتباك مسلح, حيث صدر الحكم بحقه مدة عشرون عاما ، كان قد أمضى منها حوالي ثماني سنوات في الأسر دون أن يرى أي من أسرته طوال هذه المـدة .
وذات يوم وبينما كان يلعب الشطرنج مع احد الزملاء سمع احد الحراس ينادي عليه بالاسم.... نهض مستفسرا عن سبب ذلك.... فقال له الحارس لك زيارة، لم يصدق قول الحارس وتساءل من سيأتي لزيارتي فليس لي احد من أسرتي في فلسطـين، بعد حوالي نصف ساعة, عاد ياسر وابتسامة عريضة ترتسم على فمـه... كنا جميعا ملهوفـين لمعرفة سر هذه الزيارة ومصدرها.
- أحزروا من جاء لزيارتي ... ؟؟ ، قال لنا
-بدون لف ودوران احكي..... ، قلنا له
وقبل أن نسمع الإجابة، اخرج من جيب قميصه عدة سجـائر وناولنا إياها قائلا ، هذه سجائر مع فلتر تذوقوها بدل من " الخنتريش أبو سوسة " ثم قال " لقد جاء أبي لزيارتي بواسطة منظمة الصلـيب الأحمر من لبنان .... ولم تسمح سلطات الحكم العسكري الإسرائيـلي لامي بالحضـور معه، كانت مفاجأة لي... لم يتحـدث أبـي كثيرا ... كان يبكي معظم الوقت، طلبنا منهم السماح لنا بالمقابلة بدون "شـبك " ولكنهم رفضـوا ذلك، تمنى لو انه يستطيع احتضاني وتقبيـلي..
لقـد تمكنت من تقبيل رؤوس أصابع يديه ، لم أذق في حيـاتي طعما أروع وأحلى من طعـم أصابعه ، قال لي كل أهل المخيم يهدونك السلام وهم مشتاقون إليك ،ويسلمون على إخوانك الأسرى، وقال إن أمـي أرسلت لي معه أمانة وهـي أن يقبلني عنها وكذلك شقيقـاتي وأشقـائي ، لقـد احضر لي صورة أخي الصغير ولكنهم رفضوا إدخالها ، كم هو جمـيل هذا الشبل صاير زلمه ... على كل حال هو بسلم عليكم .
كنا مشدوهين لردة فعل ياسر على رؤيته لوالده، لم يقاطعه أحد حين كان يتحدث، فرحنا لفرحه. وعبرنا عن تضامننا معه بالتصفيق وتقديم التهاني والمباركة وعبر بعضنا عن فرحته بتقبيل ياسر.
في اليوم التالي للزيارة ، تم استدعاء ياسر إلى مكتب ضابط امن السجن, بادره الضابط بالقول " هل رأيت والدك بالأمس ؟؟؟"
فرد ياسر " رايته والحمد لله "
فقال الضابط " أما زلت مبسوط من الزيارة ؟؟؟ " فقال ياسر " أكيد بدي أكون مبسوط بعد هذه السنوات من حرماني من رؤية والدي " ....
قال الضابط " أريد أن أخبرك ان والدك قد...مــــــــــــــات....."
قال ذلك بفجاجة وتشف وحقد لا يعرف للإنسانية دربا.
رد ياسر " هل أنت جاد فيما تقول ؟، وكيف حصل ذلك ؟
وأين هو الآن ؟ هل قتلتموه ؟ ماذا جرى اخبرني ؟
قال الضابط " بعد أن خرج من زيارتك بالأمس أصيب بسكـتة قلبـية على باب السجن ، وتم نقله إلى مشفى ساروكا في بئر السبع ، وهناك مات " ثم أومأ إلى احد الحراس بإعادة ياسر إلى المهج . والمهجع هذا هو مجموعة من الغرف الصغيرة المتقابلة " إكسات " لا تتسع لأكثر من شخص واحد مع أنهم يضعون اثنان فيه .
بكاء ياسر مسموعا لنا جميعا في القسم، انزعجنا لذلك كثيرا، الكل يسال ماذا جرى ؟؟
الموقف صعب للغاية، نحن مصرون أن نعرف الحقيقة، بعد أن هدأ ياسر قليلا، حدثنا عن مقابلته لضابط الأمن وعن خبر وفاة والده بكينا جميعا... نزل الخبر على رؤوسنا كالصاعقة يا لهذه الفرحة التي لم تكتمل . بالأمس فرحنا واليوم نبكي حزنا على والد زميلنا .... إنها
مأساة حقيقية .
ولكن المأساة الكبرى ، هي ما جرى بعد ذلك ، وبالتحديد في الليلة التالية,عند الساعة الحادية عشر ليلا طلب ياسر من زميلـه في "الأكس"المقابل له,أن يطلب له الممرض،لأنه شعر بألم حاد في صدره, حيث قام الإخـوة بالمناداة على الحارس والطلب منه إحضار الممرض
بسرعة, كان الحارس من القادمـين الجـدد الذين تم إحضارهم إلى فلسطين من إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي ... وكانت لغته العبرية تشكو من فقر حال.
كان ممتلئ الجسم وقصير القامة ، ومشيته بطيئة بطريقة تستفز كل المشاعر في مثل هذا الموقف . مضى وقت طـويل .. ساعة ... ساعتان .. ثلاثة ... أربعة ..دون أن يأتي احد ، كنا نضرب الأبواب بالأحـذية ونصرخ جميعنا بأصوات عاليـة,مطالبـين بإحضار الممرض، الذي جاء أخيـرا, متكاسلا ، وبعد أن احضروا المفاتيح من الإدارة ، واحضروا قوة من الشرطة كاحتياط امني وفق شريعتهم عند فتح الأبواب ليلا . وأخيرا فتحوا الباب .. حيث لم نعد نسمع صـوت ياسر.ننادي عليه دون فائدة .
خرج الممرض وضابط الأمـن .. ثـم عادوا بعد دقائق .. حيث اخرجوا ياسر محمولا على بطانية... ولكنه يا للهول.. ويا للوعة والحسرة.. جثة هامدة... التحق ياسر بوالـده ..في اقل من ثمان وأربعـون ساعة .. فإلى جنات الخلد يا شهيدنا البطل .. ونقسم أن نظل نحبك..
ونترحم عليك وعلى والدك لأنك كنت وطنيا من الطراز الأول .....
محمود تعمري
من / افكار متناثرة من رسائل سرية مهربة
سجن بئر السبع 1981