الأسـرى المحررون .. رياحين نبتت بين الصخور ولكن ..؟ 

* بقلـم / عبد الناصـر عوني فروانة

                                                                                     5 يناير 2005 م

بالرغم من مرور سنوات على خروجنا من الأسر ، إلاّ  أننا لم نتحرر بَعد من السجن ، فلا زالت آثاره تعشعش في أذهاننا وتفكيرنا وتؤثر - شئنا أم أبينا -على عاداتنا وسلوكنا ، على نفسياتنا وعلاقاتنا الأسرية والإجتماعية ، ولا يلتقي إثنان عاشا التجربة من قبل إلاَّ وأن كان السجن وذكرياته ثالثهما ، فضلاً عن الاستذكار الفردي ، لذا لم يكن السجن ذا تأثير على الأسير فقط ، بل استمر ليطال سني حياته بعد الإنعتاق .

إلاَّ أننا وبالرغم من ذلك فخورون جداً بأننا قدمنا شيئاً من الواجب الوطني حتى وإن كان الثمن زهرة  شبابنا وسنوات من عمرنا خلف القضبان ، ولا يساورنا الندم ولو لبرهة واحدة ، بل نعتز بتلك التجربة رغم مرارتها ، فهي التي صقلتنا وعززت انتماءنا وغرست فينا المبادئ والسمات النبيلة ، فخرَّجت منا القائد الفذ والمناضل العنيد ، الكاتب الرائع والشاعر المبدع ، كالرياحين التي نبتت بين الصخور ، أو كالشموع التي أُضيئت في ليلٍ دامس ،  وإذا كان هنالك ما يمكن أن نعتز به حاضراً ومستقبلاً أمام أبنائنا وأحفادنا ، فهو أننا كنا يوماً مناضلين واعتقلنا من أرض المعركة دون ان نهرب أو نستسلم ، وخضنا تجارب التعذيب بصمود وشموخ أذهلا عقول وقلوب جلادينا .

 

ولم يسبق للتاريخ البشري أن سجل تجربة جماعية خلف القضبان أكثر إشراقاً من تجربة الحركة الأسيرة في سجون الإحتلال الإسرائيلي ، وهي قضية ليست مقتصرة على أرقام وأرقام ولا مجرد أسرى خلف القضبان ، إنها قضية كل بيت فلسطيني ، قضية شعب بكامله.

 

و خلال هذه المسيرة كان من الضروري الإهتمام بجيش الأسرى المحررين ، وفي الوقت الذي أثمن وأقدِّر فيه عالياً دور السلطة الوطنية الفلسطينية عامةً ، ووزارة الأسرى والمحررين ووزيرها خاصةً لما أولوه من اهتمام وقدموه من خدمات ، إلاَّ أن  هذا بتقديري غير كافٍ ، وحقيقة السلطة الوطنية لا تملك من الإمكانيات ما يسمح لها بتوفير الدعم المادي لهم بما يوفر لجميعهم حياة كريمة ، ولا يمكن لأجهزة ومؤسسات السلطة الوطنية أن تستوعب كل هذا الكم ،لا سيما واننا نتحدث عن مئات الآلاف من الأسرى المحررين وعشرات الآلاف ممن أمضوا سنوات طوال في سجون الإحتلال ،في وقت تستمر وتتصاعد فيه الإعتقالات وبالتالي يزداد أعداد الأسرى القابعين في سجون الإحتلال والذين يحظون بالأولوية من حيث توفير وصرف رواتبهم الشهرية في موعدها ، وتوفير احتياجاتهم الأساسية ، مما  يؤثر سلباً على الخدمات الجزئية المقدمة للأسرى المحررين والموازنة الخاصة بهم ....

 

إذاً ما العمل ؟؟؟ في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي علينا وعلى أرضنا وزرعنا ، و عدم قدرة السلطة الوطنية على توظيف جميعهم ، أو توفير الدعم المادي بما يكفل لهم حياة كريمة ، ولا حتى تأهيلهم بالشكل المناسب ، والسوق الفلسطينية غير مؤهلة لأن تستوعب هذا الكم الهائل من الأيدي العاملة ، والقوى الوطنية والإسلامية عاجزة هي الأخرى عن فعل شىء لهم ، و أيضاً المؤسسات الحقوقية والإنسانية ، المحلية والدولية عاجزة  على انصافهم وتعويضهم بشكل عادل ومناسب و إعادة تأهيلهم على أكمل وجه ممكن ، وفق ما تنص عليه الإتفاقيات الدولية ومنها اتفاقية مناهضة التعذيب !!!

 

فلا يخفى على أحد أن الهدف الأساسي من الإعتقال والتعذيب هو تدمير الإنسان وتحطيم شخصيته ، ولا شك بأن أيام وشهور الزنازين وسنوات غرف الموت البطيء وخيام النازية المهترئة لا يمكن أن تمر دون أن  تترك آثارها النفسية والجسدية على الأسرى ، وهذه الآثار تبقى عالقة في أذهانهم لسنوات طوال بعد التحرر كما قلت في البداية ، وهم عانوا الأمرين بعد تحررهم فبعضهم فارق الحياة نتيجة أمراض السجن والتعذيب تاركاً ورائه أسرة بدون دخل يكفل لهم لقمة العيش ، وبعضهم انهار وخارت قواه وبات غير قادر على العمل ، والبعض الآخر يعاني البطالة الدائمة وبات كالمتسول يتنقل بين المؤسسات والشركات باحثاً عن عمل ومصدر رزق بالرغم من ان الآلاف منهم يمتلكون شهادات أكاديمية ومهن متعددة وكفاءات قلما توفرت لدى غيرهم .. لهذا فمن الواجب الوطني والعربي والإسلامي ، ومن الواجب الدولي والإنساني العمل ليس على تحرير الأسرى فحسب ، بل وعلى إزالة آثار السجن وتوفير مصدر رزق لهؤلاء المحررين إذا ما رغب المجتمع العربي والدولي في أن يسود الأمن والإستقرار المنطقة .... .

 

ومن هنا أناشد الأخ أبو مازن رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الفلسطينية بوضع قضية الأسرى المحررين على سلم أولويات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية في المرحلة المقبلة ، والعمل الجاد والحثيث من أجل توفير الدعم المادي لهم من الدول الشقيقة و الصديقة واطلاق حملة عربية ودولية للتنسيق مع مراكز تأهيل ضحايا التعذيب في العالم بما يكفل لهم الضمان الصحي والتربوي وتأهيلهم صحياً وجسدياً ، مهنياً واجتماعياً ، وتأمين فرص عمل محترمة لبعضهم في الدول العربية ، ومنحهم نسبة معقولة في التوظيفات اللاحقة في وظائف السلطة الوطنية ( المدنية والعسكرية ) وبما يتناسب وتاريخهم وامكانياتهم ومؤهلاتهم أيضاً ، خاصة بعد اقرار قانون التقاعد والذي  يوفر آلاف فرص عمل ، والتجربة أثبتت أن العديد منهم كانوا جديرين بأن يتبوؤا مواقع وزارية وقيادية في السلطة الوطنية وفي عملية بناء الدولة والمؤسسات ، كما كانوا جديرين بمواقع قيادية في الثورة ومعارك التحرير ، و منهم أيضاً من استكمل تعليمه الجامعي وحصل على شهادات أكاديمية رفيعة تؤهله للعمل في أمكنة عديدة ومميزة ، ومن لم يستطع من الأسرى المحررين القيام بعمل ما ، فمن الضروري أن يُصرف له راتب كمتقاعد ، فلا خير في أمة لا تحترم مناضليها ولا تسعى لتكريمهم ... .

 

وأعتقد جازماً بأن الأخ ابو مازن سيظل مُولياً قضية الأسرى والمحررين الإهتمام الذي تستحقة وهذا ما تعهد به أول أمس حينما إلتقيت به مع وفد يمثل ذوي الأسرى وحشد من الأسرى المحررين والناشطين ، فكان الحشد كبير واللقاء حار ، والكلمات معبرة وصادقة و أكدت جميعها على حق أسرانا في الحرية وحق أسرانا المحررين بالعيش حياة كريمة ، وكم كان الأخ القائد أبو مازن  رائعاً ومؤثراً  بكلمته ، لا سيما حينما تلا وثيقة خطية بعد توقيعها أمام الحشود ، وقرأ منها " لكم أبطالنا الأسرى والأسيرات ولذويكم الصابرين ... لكم في جمعية الأسرى والمحررين ومنظمة أنصار الأسرى وجماهير شعبنا المرابط ... عهد الوفاء والإخلاص أن تبقى قضية الأسرى والمعتقلين على رأس اهتماماتنا الوطنية ، وأن نبذل كافة الجهود المطلوبة الهادفة إلى تأمين اطلاق سراحهم ، وعهداً أن تبقى قضية الأسرى ضمن ثوابتنا الوطنية التي لا يمكن تجاوزها ولن نقبل بتوقيع  أي حل سياسي لا يضمن الإفراج الشامل عنهم " .

 

عهداً أثلج صدور ذوي الأسرى الذين أكدوا دعمهم له ، كما أثلج صدورنا جميعاً ، وهذا ليس بجديد عليه فهو من الذين أولوا اهتماماً بالأسرى والمحررين ودافع عن حقوقهم ، وهو رجل إن وعد أوفى ، وسبق وأن أصدرت حكومته العديد من القرارات الهامة بهذا الصدد حينما كان رئيساً للوزراء ، ومنها زيادة مبلغ كنتينة الأسرى من مليون شيكل إلى مليون ونصف أي بزيادة 50 % شهرياً ، وربط رواتب الأسرى  بالمدة التي أمضوها داخل الأسر ليصبح الحد الأدنى للأسير الأعزب 1000 شيكل ويزيد حسب المدة التي أمضاها في السجن وهذا رفع رواتب الأسرى بشكل مميز ، كما تم اعتماد الراتب المقطوع للأسرى المحررين ولمن أمضوا أكثر من خمس سنوات وليس لديهم مصدر رزق بحد أدنى 1400 شيكل وحد أقصى 2000 شيكل ، وهذا غيض من فيض .

 

وثقتنا عالية بك يا أبى مازن وبقيادتنا الوطنية الحكيمة ... بأن تَبقى قضية الأسرى والمعتقلين والأسرى المحررين على رأس اهتمامات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية .