الأسـرى .. بعد الأربعين ؟
من النكسة وحتى الإقتتال
أجيال متعاقبة ومعاناة متواصلة وتاريخ مبعثر وقضية تتأرجح
* بقلم : عبد الناصر عوني فروانة
5-6-2007
الخامس من حزيران عام ألف وتسعمائة وسبعة وستين يوم أسود في تاريخ الأمة العربية ، يوم أن بدأت فيه " اسرائيل " بشن هجومها العسكري ضد الجيوش العربية وخاصة مصر والأردن وسوريا ، وبعد ستة أيام فقط انتهت الحرب بانتصار لإسرائيل ، وهزيمة مذلة للجيوش العربية وصفت بالنكسة ، ونتج عن ذلك احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية وبذلك أحكمت سيطرتها وأكملت احتلالها لفلسطين التاريخية ومقدساتها ، بالإضافة لإحتلالها لشبه جزيرة سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية .
ومنذ ذلك التاريخ الأسود ارتكبت ـ ولا زالت ـ قوات الإحتلال الإسرائيلي الفظائع والجرائم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل ولم تستثنِ أحداً منه ، ومارست بحق هؤلاء أبشع ما يمكن أن يتخيله العقل البشري من إبادة وقتل جماعي وقتل بدم بارد واعاقات مستديمة ، وتشريد وقهر ، ظلم واضطهاد ، اعتقالات وتعذيب ، تهجير وهدم بيوت وابتلاع آلاف الدونمات وأخرى مُسحت أو أتلفت ما عليها من زرع وشجر ، وأقامت مئات ، والمواطن الفلسطيني أصبح ينام و يصحو على مشاهد الموت والدمار ، ويقضي جزءاً من يومه في تشييع جنازات الشهداء ، وجزءاً آخراً في التنقل بحثاً عن لقمة العيش الأساسية له ولأطفاله ، وجزءاً لا بأس به على مئات الحواجز المميتة والمذلة التي أُقيمت لتقطِِّع أوصال الوطن.. هذا هو الحال المؤلم البائس المرير للشعب الفلسطيني .
ومن رحم المعاناة وكرد طبيعي على الهزيمة النكراء وعلى الإحتلال وممارساته ، نشأت حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية ومن ثم حركات إسلامية مقاومة، وهذه المقاومة تجيزها وتشرعها كافة القوانين والأعراف الدولية، بهدف مقاومة الإحتلال وتحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة ، وحظيت فصائل المقاومة بالتفاف ودعم جماهيري ، فاتسعت رقعتها وتصاعدت عملياتها ، واستطاعت أن تلحق بالعدو الإسرائيلي خسائر بشرية ومادية فادحة ، وفي محاولة يائسة لقمع هذه الظاهرة ولجعل الجماهير الفلسطينية تنفر منها وتبتعد عنها ، لجأ الإحتلال بالإضافة لممارساته الدموية الأخرى إلى إقامة سلسلة من السجون ورثها عن الانتداب البريطاني والحكم الأردني بعد حرب حزيران وتم توسيعها عام 1970م وبظروف أكثر قسوة ، ولجأ إلى اعتقال العديد من المواطنين و الشخصيات الوطنية ، وكل من يشتبه بأن لهم علاقة بالمقاومة من قريب أو من بعيد .
وفي وقت لاحق بنى الإحتلال الإسرائيلي عدداً من السجون والمعتقلات بمواصفاته الخاصة الأكثر قمعية والأشد قسوة وحراسة ، كسجن بئر السبع ونفحة الصحراوي ومعتقل أنصار3 في النقب وسجني جلبوع و ريمون حتى وصل عدد تلك السجون والمعتقلات إلى ما يقارب من ثلاثين سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف .
ومنذ " نكسة " حزيران عام سبعة وستين ولغاية اليوم ، أي بعد مرور أربعين عاماً لم تتوقف الاعتقالات ، ولكن خطها البياني سار بشكل متعرج ، إلاَّ أنها لم تقتصر على فئة أو شريحة محددة ، فاستهدفت كل ما هو فلسطيني بدءاً من الطفل ذوى الثانية عشر من عمره والشاب و الفتاة ومروراً بالمرأة الحامل والطبيب، بالمحامي والعامل ، بالطالب والنائب والوزير ، وصولاً للشيخ العجوز ذوى الخامسة والسبعين عاماً ، وليس انتهاءاً بالمعاق جسدياً ونفسياً و مرضى القلب والسرطان ..
الأسـرى بالأرقـام
وبالأرقام وحسب تقديراتنا اعتقلت قوات الإحتلال منذ العام 1967 وحتى الآن قرابة سبعمائة ألف مواطن بالإضافة لآلاف المواطنين العرب ، منهم قرابة ستمائة وثلاثين ألف منذ حزيران 1967 وحتى آيار 1994 ( بمعدل 1950 شهرياً ) ، لكن نسبة الإعتقالات انخفضت بشكل ملحوظ بعد قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية في آيار 1994 وحتى اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000، وإعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في بعض المناطق الفلسطينية ، إلى قرابة عشرة آلاف مواطن ( بمعدل 160 شهرياً ) ، لكنها عادت وارتفعت بشكل كبير خلال انتفاضة الأقصى ( 28 سبتمبر 2000 – 28 مايو 2007 ) حيث سُجل خلالها اعتقال ستين ألف مواطن ( بمعدل 750 شهرياً ) لاسيما من الضفة الغربية حيث يتواجد في بعض مناطقها الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر والبعض الآخر يمكنه اجتياحها في أي وقت ، في حين أنهى وجوده العسكري في قطاع غزة أواخرعام 2005 ، لذلك فإن الغالبية العظمى من المعتقلين الموجودين الآن ( 85.1 % ) هم من الضفة الغربية .
و يوجد الآن قرابة ( 10500 ) أسير في سجون الإحتلال منهم 310 طفلاً و116 أسيرة ، ومن هؤلاء ( 65 ) أسيراً أمضوا أكثر من عشرين عاماً ولا زالوا في الأسر وأقدمهم الأسير سعيد العتبة المعتقل منذ ثلاثين عاماً .
وخلال العقود الأربعة الماضية لم تتوقف الإعتقالات ، كما لم يطرأ أي تحسن جوهري على طبيعة السجون وظروفها أو طبيعة معاملة السجانين للسجناء والمعتقلين وفق ما تنص عليه كافة المواثيق الدولية وخاصة اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بمعاملة الأسرى أو تلك الخاصة بمعاملة الأشخاص المدنيين وقت الحرب ، بل بالعكس كلما بني سجن جديد تجده أكثر قسوة من سابقيه ، ومع مرور السنين تتصاعد الهجمة الشرسة ضد الأسرى لتطال حياتهم الخاصة و تمس بكرامة وشرف الأسير وأهله .
لكن هذا كله لم ولن يساهم في تحقيق أهداف الإحتلال المرجوة من وراء الإعتقالات والمتمثلة في القضاء على وطنية الأسرى وثوريتهم ، وتحويلهم إلى عالة على ذويهم وشعبهم ، فالشعب الفلسطيني لم يعد يخيفه الإعتقال ولا كثرة السجون ، وللدلالة على ذلك فإن عشرات الآلاف من الفلسطينيين اعتقلوا عدة مرات .
الأسـرى .. معاناة متواصلة
أربعون عاماً مضت على " النكسة " وإحتلال اسرائيل لباقي فلسطين ، والإعتقالات لا زالت مستمرة .. وقضية الأسرى تكبر وجرح يتسع شرخاً ، وأرقام تتصاعد وتتفاقم ، وتجارب وحكايات تتراكم ، وأطفال تكبر في السجون ، وأمهات تلد وشيوخ وشبان تتوفى خلف القضبان .
أربعون عاماً مضت والأسرى مستهدفون من إدارات مصلحة السجون المتعاقبة فهي تحدد لهم النوم وساعاته ، كمية الهواء وساعات التعرض للشمس ، كمية الغذاء وقيمته ، تحدد لكل منهم ماذا ومتى يقرأ ، ومتى وكيف يمكن أن يرى أهله ، كما تحدد لهم طبيعة العلاج وتوقيته ، ولون الملابس ونوعيتها و ... إلخ .
أربعون عاماً مضت تعالت خلالها أصوات لخفقات قلوب أدماها الحرمان والقهر، وذُرفت فيها دموع الحزن من عيون أمهات وزوجات وأطفال الأسرى لتغرق الأرض وتصنع أنهاراً وتروي عشباً أخضراً نبت وترعرع بين شقوق الصخور .
أربعون عاماً مضت تعمدت " إسرائيل " خلالها بمعاقبة ذوي الأسرى و الشهداء ، فاعتقلت أمهاتهم وزوجاتهم وهدمت بيوت عائلاتهم ، وعاقبت الإنسان بعد موته فاحتجزت المئات من جثامين الشهداء في مقابر الأرقام ، وحرمت ذويهم من إكرامهم ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية.
أربعون عاماً مضت وقوات الإحتلال مستمرة في توسيع سجونها ومعتقلاتها ، مستمرة في انتهاكاتها الفاضحة لحقوق الإنسان الفلسطيني الأسير ضاربة بعرض الحائط اتفاقيات جنيف وكل المواثيق الدولية بعرض الحائط مستغلة الصمت العربي الرسمي والتخاذل الدولي .
أربعون عاماً مضت نجح خلالها الشعب الفلسطيني من أسر عددٍ من الجنود الصهاينة ومبادلتهم بآلاف الأسرى الفلسطينيين والعرب ، وحاول مراراً أسر واختطاف آخرين ... لكنه فشل في تحويل ذلك ليصبح ظاهرة مستمرة ، وبالتالي فشل من الحد من عدد السنوات التي يمكن أن يمضيها الأسرى داخل سجون الإحتلال ، كما وفشل في تبييض السجون ولو مرة واحدة ، ولهذا هناك أسرى معتقلون منذ أكثر من ربع قرن .
أربعون عاماً مضت والقدس لا زالت محتلة ، وأبناؤها الأسرى لا زالوا مهمشين ، فاستثنتهم صفقات التبادل المختلفة وتجاهلتهم الإتفاقيات العديدة ، والأمر نفسه ينطبق على الأسرى من المناطق التي أُحتلت عام 1948 .
الأسـرى .. تاريخ مبعثر وقضية تتأرجح
أربعون عاماً مضت ، فشل خلالها الشعب الفلسطيني بمؤسساته المختلفة في امتلاك سجلٍ كاملٍ لمجمل أو معظم حالات الإعتقال ، أو سجلٍ دقيقٍ لشهداء الحركة الوطنية الأسيرة ، كما فشل ولحتى اللحظة في اعتماد خطة استراتيجية تعتمد على العمل التراكمي التكاملي لتوثيق تاريخ الحركة الأسيرة ، هذا التاريخ الذي حمل في طياته آلاف التجارب والقصص والحكايات ومئات من معارك الأمعاء الخاوية والخطوات النضالية ، وجزء منه أسير في ذاكرة الأسرى المحررين القدامى ، الذي أخشى برحيلهم عن الدنيا أن يرحل معهم جزءٌ من ذاك التاريخ الهام.
أربعون عاماً مضت وأجيال الأسرى المتعاقبة تضحي بسنوات أعمارهم وزهرات شبابهم وتقدم الغالي والنفيس من أجل فلسطين كل فلسطين باعتبارها قضية عربية اسلامية مقدسة ، وتناضل من أجل تشييد مجتمع فلسطيني يسوده المحبة والتسامح والتكافل الإجتماعي والوحدة الوطنية ، باعتبارهم جزء لا يتجزأ من شعبهم ، وقضيتهم تقف على سلم أولوياته و تعتبر قضية مركزية بالنسبة لشعبهم الفلسطيني ، لكنها أحياناً تهبط بضعة درجات ، و تُستبعد من على أجندة فصائله وقادته السياسيين ومؤسساته الحقوقية والإنسانية ، وأحياناً أخرى تغيب بالكامل من اهتمامات الأمتين العربية والإسلامية .
الأسـرى .. و الإقتتـال الداخلي
أربعون عاماً مضت ، كان يعتبر خلالها الشعب الفلسطيني الإقتتال الفلسطيني – الفلسطيني خطاً أحمراً ، لكن وللأسف لم يعد كذلك ليصبح خطاً أبيضاً أو خط مشاة ، وبالتالي فان ما حدث في قطاع غزة ، كان مؤلماً لعموم الشعب الفلسطيني ، والذي نأمل أن يكون عابراً ولن يتكرر ، لكنه بكل الأحوال أثر سلباً على الأسرى ومعنوياتهم وفاقم من معاناتهم ، فهم لم يضحوا من أجل وطن يتشاجر فيه الإخوة ويتقاتل فيه المقاتلون .
كما وأن زحمة الأحداث المؤلمة والبحث عن الأمن الشخصي المفقود أنست الشارع الفلسطيني أسراه ، و أزاحت قضيتهم من على سلم أولوياته ، ولم تعد تحظى بالاهتمام المطلوب ، فغابت الفعاليات الرسمية والشعبية المميزة ، وابتعد أمل تحررهم الى أبعد الحدود .
فاستغلت قوات الإحتلال تلك الأحداث وصَّعدت من حملتها الدموية ضد الأسرى ومنجزاتهم ، فبالأمس القريب اعتدت على الأسرى في عوفر بالضرب المبرح والغاز المسيل للدموع ، مستخدمة الكلاب البوليسية ، وتبعه اعتداء على الأسيرات في سجن هشارون وعلى الأسرى في النقب الصحراوي ، وتبعه اعتداء على الأسرى في سجني جلبوع وهداريم ، وقد تشهد الأيام المقبلة اعتداءات مشابه على الأسرى في سجون أخرى كنفحة وعسقلان .
وللأسف التحرك المساند المتضامن لم يكن بمستوى جزء بسيط من الأحداث وتلك الإعتداءات ، باستثناء أهالي الأسرى وبعض النشطاء الذين واصلوا فعالياتهم واعتصاماتهم الإسبوعية أمام بعض مقرات الصليب الأحمر في الضفة والقطاع ، وهذا مؤشر خطير يدفعني للخشية في أن تصبح تلك الأخبار عادية وغير مؤثرة ، كما أخشى أن تصبح قضية الأسرى ليست قضية موسمية يستذكرها البعض مجبراً وقتما فرضت نفسها ، ووقتما هو بحاجة لها ولدعمها ، فحسب ، بل أخشى أيضاً أن تصبح قضية خاصة محدودة الإهتمام ، والتأثير ، مقتصرة على ذويهم ودائرتهم الإجتماعية الضيقة وبعض النشطاء المخلصين .
والمطلوب وعلى وجه السرعة التحرك لإعادة الاعتبار لقضيتهم ، باعتبارها قضية وطنية وعربية وإسلامية، وإحيائها بالشكل الذي تستحقه .
الشعب الفلسطيني سيبقى صامداً
وبالرغم مما تعرض وسيتعرض له الشعب الفلسطيني ، سيبقى صامداً و رافضاً لكل الحلول الإستسلامية و الإنهزامية ، مقاوم لكل مشاريع التوطين ، متمسك بحق العودة ، ومستمر في نضاله ومقاومته للإحتلال ومصمم على تحقيق أهدافه وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف .