الأسيرة الفلسطينية أسماء عبد الرازق :

أم خلف القضبان والتهمة: زوجة مطلوب

سلواد - فلسطين - جريدة الحياة العربية - استراليا - الثلاثاء 9/9/ 2003م

بقلم: ربيحة علان علان

* * * * * * * *

ضوء صغير أشعلته "أسماء" في غرفتها؛ وجلست تكمل استعدادها لامتحان الغد، اليوم هو الأحد الثاني من شباط (2003)؛ امتحانان فقط بقيا وتحصل هذه الأم الشابة ذات الخمسة وعشرين ربيعا على بكلوريوس في التاريخ والعلوم السياسية من جامعة بيرزيت؛ الجامعة التي تخرج منها زوجها "إبراهيم مرعي"؛ الغائب عن البيت منذ مدة طويلة بسبب مطاردة جيش الاحتلال الصهيوني له. أطفالها نيام - "علي" ذو الخمس سنوات و"سلمى" ذات الثلاث سنوات وجدتهم المقيمة معهم في ذات البيت المتواضع؛ الجميل بما تغدق عليه أسماء من محبة واعتناء. الضوء صغير؛ بالكاد يكفي للدراسة؛ والليل انتصف وازداد؛ والجو ماطر شديد البرودة، اقتربت الساعة من الواحدة والنصف ليلا وأسماء منشغلة في استعدادها لامتحان الغد، عند ذاك؛ كانت ثلاثة عشر دورية عسكرية صهيونية على الأقل قد اقتحمت بلدة "سلواد" معلنة فيها منع التجول ومحكمة طوقا عسكريا مشددا حول بيت أسماء. ثلاثة عشر دورية عسكرية تطوق أم شابة وطفلين مع جدتهم كبيرة السن ضعيفة السمع. وفور إحكام جنود الاحتلال لطوقهم على الأم وأطفالها قاموا بتكسير زجاج الشرفة "البرندة" مقتحمين البيت عنوة ومحتجزين الطفلين وجدتهم في غرفة بينما احتجزوا أسماء دون أطفالها في غرفة أخرى لتخضع للتحقيق تحت ضغط نفسي رهيب استمر من الساعة الواحدة والنصف ليلا وحتى الحادية عشرة ظهرا، خرجت بعد ذاك مكبلة اليدين إلى إحدى دوريات الاحتلال لتنقل أسيرة وكل تهمتها أنها زوجة شاب تطارده القوات الصهيونية، كما تم أسر أشقاء زوجها الثلاثة كعقاب لشقيقهم المطارد.

والدة أسماء وأشقاؤها وشقيقاتها يسكنون في نفس الحيّ، وبينما استيقظت والدة أسماء لأداء صلاة الفجر؛ فوجئت بأصوات الجنود وتطويقهم لبيت ابنتها، فحاولت الوصول لابنتها فصدها الجنود بتهديدها بالقتل إن خرجت من بيتها، ولما أوشكوا على نقل أسماء إلى المعتقل وبينما أخذ شقيق أسماء يلبسها الحذاء الشتوي في قدميها وهي مكبلة اليدين؛ كانت والدتها تصرخ لحال ابنتها؛ فنادت أسماء أمها قائلة:" صلي على النبي يا إمي" مظهرة شجاعة وصمود وثبات. ولم يكن ضابط القوة الصهيونية ليفوت الفرصة ليضغط على أعصاب الأم وابنتها فقال لوالدة أسماء :" أسماء خلاص ايئسنا منها، بدنا انطلعها" ويقصد الضابط الصهيوني بـ "نطلعها" أي نبعدها خارج فلسطين، فقالت الأم : وولادها ؟؟؟ قال : أولادها عندك بيظلوا هون ..

خرجت الدوريات العسكرية الصهيونية من بلدة سلواد عند الظهر فتوجه الأهل لاحتضان طفلي أسماء فوجدوا الجنود الصهاينة وقد عاثوا في بيتها خرابا، فلم يبق الجنود شيئا إلا وأفسدوه..

عند عصر اليوم ذاته؛ عادت القوة الصهيونية لتقتحم بلدة سلواد ولتسيطر على بيت أسماء مرة أخرى لتزيد في عقاب "أسماء" وهذه المرّة عن طريق التضييق على أهلها، فمن منزل أسماء أمر الجنود "سلفتها" أن تتصل بأهل أسماء لتطلب منهم المجيء لبيت أسماء لتحضير ملابس مناسبة لأسماء لأنها خرجت في جو ماطر عاصف بجلبابها الذي ارتدته على عجل فور شعورها بدخول غرباء إلى البيت، وتم خداع أهل أسماء بادعاء الجنود أن أسماء معهم وأنها هنا لترى طفليها، فما كان من والدتها وشقيقاتها إلا وأسرعن نحو بيت أسماء وأما شقيقها "حمزة" فجاء مسرعا يحمل طفلي أسماء لتراهم، وعند ذاك شغل الجنود الصهاينة شقيقة أسماء وسلفتها بإعداد حقيبة الملابس؛ وانفرد الضابط بوالدة أسماء مجريا تحقيقا معها احتوى كل معاني الإرهاب لهذه الأم بتهديدها بإبعاد أبنائها إلى خارج فلسطين ومحملا الأم ذنبا بعودتها إلى فلسطين بعد سنوات من الهجرة في الخارج، وخلال ذلك كله كان الجيش الصهيوني قد اعتقل شقيق أسماء "حمزة" مستغلين مجيئه بالطفلين واقتادوه إلى بيته وأخذوا يجرون تفتيشا دقيقا حتى عثروا على جواز سفره الأردني ثم حملوه إلى معتقل المسكوبية في القدس؛ بقي هناك مدة سبعة وعشرين يوما خضع خلالها لصنوف الإرهاب النفسي والجسدي ثم أُبعد إلى الأردن، وحمزة ذو الواحد والثلاثين عاما وأب لطفلين ولد أحداهما أثناء خضوع حمزة للتحقيق في سجن المسكوبية؛ لا يمتلك الصهاينة أي سبب لإدانته؛ حتى وجود جواز سفر أردني بحوزته لم يكن مشكلة لحمزة الذي يتنقل يوميّا في البلاد أثناء عمله ويمر بحواجز عسكرية صهيونية عديدة لم يوقف خلالها لا بسبب الجواز الأردني ولا لأي سبب آخر؛ وإبعاده إلى الأردن جاء كخطوة عقابية لشقيقته الأسيرة "أسماء"، ولم يكن حمزة الوحيد الذي تعرض لهذا العقاب؛ فقد قامت السلطة الصهيونية بمنع الشقيق الأكبر لأسماء وهو "عبد الجليل" من العودة إلى فلسطين أثناء تنقله بين فلسطين وأمريكا؛ بالرغم من كون " عبد الجليل" يحمل جواز سفر أمريكي، ولا يوجد أي لائحة اتهام ضد "عبد الجليل " تفسر منعه من العودة، وذنبه الوحيد لدى الجانب الصهيوني هو مرافقته لأخته أسماء أثناء تنقلها من سلواد إلى أريحا لزيارة زوجها الذي كان معتقل في سجون السلطة الفلسطينية في أيام " أوسلو" الجميلة..

وكانت عائلة أسماء (قبل زواجها ) قد عادت من خارج فلسطين لتستقر في منزلها القديم في بلدة سلواد، وهذا شأن العديد من الأسر الفلسطينية التي اضطرها الوضع الاقتصادي الصعب إلى البحث عن فرصة عمل في أي مكان، وشأن العديد من أسر سلواد التي فقدت رجالها تحت الشمس وهم يتسللون للحصول على لقمة العيش في الكويت فقدت هذه العائلة أحد رجالها تحت الشمس في تلك الحادثة التي سطّرها غسان كنفاني في روايته "رجال تحت الشمس"، وبعد حرب الخليج عام 1991 عادت العائلة إلى الأردن ثم قررت العودة إلى بيتهم في فلسطين فكان ذاك عام 1997، ولهذه العائلة وككل العائلات الفلسطينية الحق في العودة إلى وطنها وفق كل المعايير والقوانين الإنسانية، غير أن المحتلين الصهاينة فرضوا شروطا تعجيزيّة لا إنسانية بحق من يحاول العودة إلى فلسطين جعلت مئات الآلاف من العائلات والأفراد الفلسطينيون غير قادرين على العودة بناء على العرف الصهيوني العنصري، وبعد أن فقدت عائلة أسماء بطاقات الهوية التي تخصصها السلطة الصهيونية لسكان الضفة الغربية؛ لم يكن أمام هذه العائلة سوى العودة بجواز سفر أردني، وعادت في ظل السلطة الفلسطينية واتفاقيات السلام التي لم تستطع تثبيت أدنى حقوق العودة للفلسطينيين. واليوم تلعب السلطة الصهيونية على هذا الوتر المؤلم للضغط على الأسيرة" أسماء" فقامت بإبعاد أخويها خارج فلسطين وتهددها هي أيضا بالإبعاد مع تجريدها من كل حق في العودة. وفي الوقت الذي تخضع فيه "أسماء عبد الرازق عبد الجليل صالح" منذ سبعة شهور للاعتقال دون محاكمة ( قرر الجانب الصهيوني موعد لمحاكمة أسماء هو 11/9/2003) فإن أسماء ترفض إبعادها خارج فلسطين تحت أي ظرف كان وتفضل أن تقضي في سجون الظلم على أن تُبعد خارج وطنها.

سبعة شهور من الاعتقال؛ ولم يستطع أيّ من العائلة زيارتها، فلا أم أسماء ولا شقيقاتها يسمح لهن بزيارتها ولا حتى طفليها (علي وسلمى) والوحيدة التي تمكنت من زيارة أسماء هي خالتها التي تحمل هوية القدس وتسكن القدس، ولكنها سيدة كبيرة السن مريضة لا تقوى على معاناة السفر إلى سجن "الرملة" حيث تعتقل أسماء مع ما يزيد عن اثنتين وسبعين فلسطينية أخرى، لذا تذهب هذه الخالة في موعد زيارتها لأسماء ليس مع لجان الصليب الأحمر؛ بل في سيارة خاصة كي لا تتعرض لمتاعب صحية مضاعفة، وتقول هذه الخالة أن إدارة معتقل الرملة الصهيونية قامت مؤخرا بعدة خطوات عقابية بحق الأسيرات الفلسطينيات بهدف مزيد من التضييق عليهن، فتم تغطية الشبك الحديدي الذي كان يسمح برؤية من خلفه من الأسيرات بساتر بلاستيكي فيه بعض الثقوب الدائرية لا تتعدى مساحة هذه الثقوب مساحة العملة النقدية الصغيرة؛ فأصبحت خالة أسماء تحاول جاهدة أن ترفع جسدها الضعيف للأعلى لترى أسماء، وتقول هذه الخالة أنها ما عادت ترى أسماء بوضوح أثناء الزيارة بل ترى خيال أسماء.

لم تكتفي السلطة الصهيونية بعقاب أسماء لزواجها من شاب مناضل بأن تعتقلها وتُبعد أخويها وتحرمها من أبسط الحقوق الإنسانية وهي رؤيتها لطفليها؛ بل عادت بعد أسبوع من اعتقال أسماء لتكرر الاقتحام لمنزل والدتها التي تحتضن الطفلين حاليا، فيدخل الجنود الصهاينة بلا أدنى احترام لكرامة الإنسان مدنسين ذاك البيت الطاهر بأحذيتهم القذرة وكلابهم البوليسية النجسة، فتصرخ والدة أسماء في الجنود متسائلة عن سبب عودتهم إلى هذا الاستفزاز والتعدي على حرمة البيت الذي لم يعد يحوي سوى امرأة عجوز وحفيديها الذين أصبحا محرومين من رعاية الأب والأم بسبب الاحتلال وزوجة حمزة وطفليها؛ تتساءل والدة أسماء فيجيبها الضابط الصهيوني بكل وقاحة :" إنتي جوزتي بنتك لابراهيم، ورح تسمعي أخبار كويسة" يقول الضابط ذلك باستهزاء قاصدا "بالأخبار لكويسة" هو إبعاد أسماء خارج فلسطين، وينتقل الضابط مباشرة بكلماته وتجبره نحو زوجة حمزة قائلا :"إنتي لسا هون ، ياللا إطلعي ورا جوزك " يقصد أن تغادر فلسطين كزوجها، ويقوم الجنود عادة بوضع والدة أسماء ومن معها داخل المطبخ ويغلقون الباب؛ بينما يقومون بتخريب المنزل بحجة تفتيشه، وفي إحدى المرات أوشكت والدة أسماء أن تخلع باب المطبخ لتخرج منه وهي تصرخ في الجنود أن يفتحوا الباب لأنها كادت تفارق الحياة لقلة الهواء في المطبخ ولكونها "مريضة بضغط الدم". ولم يسلم الطفل"علي" من التحقيق معه، وتذكر جدته أن الجيش اقتحم منزلها ذات مرة وكان "علي" قد اختبأ في حضن جدته من الخوف فانتزعه الجنود وأخذوه لغرفة داخلية وبينما انهارت الجدة ووقعت أرضا توقعا بأن يعتقلوا الطفل أيضا للضغط على والديه وبينما أخذ الجندي المراقب للجدة بالضحك والضحك وهو يراها تقع أرضا في حالة إغماء ؛ كان الضابط يحقق مع الطفل "علي" عن أصحابه في الروضة وعن أمه وعن مكان أبيه وهل يتصل بأبيه.. ولأن الطفل صغير (خمس سنوات) كانوا يمسكون لعبة الهاتف الخلوي ويسألون الطفل هل يتصل "بابا هيك"؛ وتذكر لنا الجدة أن "علي" عانى بعد تلك الليالي من اضطراب أثناء نومه وحالات من الفزع والهلوسة وعلامات خوف..

والدة أسماء التي لم ترى ابنتها منذ اعتقالها تبكي بكاء كل أم في وضعها؛ وتدعوا الله لفك أسر صغيرتها، وتقول:" ولادي اثنين أبعدوهم والله أعلم إذا رح يجي يوم أشوفهم واللا لأ؛ بس اللي بيهمني هو إني أطمئن على أسماء وتخرج بالسلامة". أما شقيقة أسماء الصغرى فتتساءل عن الذنب الذي اقترفته أختها لتعاقب بهذا الشكل وتقول : "قصدهم يخلو البنت تعمل ميت احساب لمن تتزوج؛ جريمة عند الصهاينة إن البنت منا تتزوج شب متدين وخلوق، ذنب أختي الوحيد عندهم إنها اتزوجت ابراهيم مرعي الشاب التقي الخلوق المستقيم" ..

أهالي الأسرى الفلسطينيين لا يلتقون بأبنائهم وبناتهم الأسرى إلا نادرا ونادرا جدا؛ فبينما تخضع مناطق عدة من الضفة الغربية للاغلاقات والاجتياحات التي تمنع أي فرد فلسطيني من التنقل تصبح زيارة الأسرى غير ممكنة، إضافة إلى حرمان سكان الضفة الغربية أغلب الوقت من زيارة أسراهم مع ما يتبع ذلك من تعقيدات وشروط تعجيزية لمن يسمح له بالزيارة؛ ولذا فقد أصبح الفلسطينيون وذوي الأسرى خاصة يحاولون ما استطاعوا استغلال المتاح للاتصال بالأسرى ومما هو متاح نسبيا البرامج الإذاعية الفلسطينية الموجهة للأسرى، وخلال ساعة بث البرنامج المخصص للأسرى يجد المستمع نفسه أمام عالم من المآسي الإنسانية ولوعة الفراق بين الأحبة.. ومن كلمات ذوي الأسرى نذكر هنا الكلمة التي وجهها الطفل "علي" لأمه الأسيرة "أسماء" عبر إذاعة "أمواج" المحلية فقال:"السلام عليكم يا ماما، أنا بحبك يا ماما، وأنا بستنا فيكي مشان اتوديني على الروضة، أنا وسلمى وستي بنسلم عليكي، سلمي على صاحباتك يا ماما، أنا بستنى فيكي تا تشتريلي أغراض الروضة وادرسيني ، الله يرضى عليكي يا ماما".

و"أسماء عبد الرازق" هي واحدة من ثلاثة وسبعين فلسطينية أسيرة لدى الكيان الصهيوني من بينهن إحدى عشرة طفلة في ظروف غير إنسانية وغير صحيّة ومهينة، وعدد كبير منهن لا يزلن محتجزات دون محاكمة ودون تهم محددة وعددا منهن محتجزات للضغط على أزواجهن أو أقاربهن، وأسماء عبد الرازق هي واحدة من تلك الأمهات الأسيرات؛ فالأسيرة "زهور عبد الكريم" ذات الاثنين وأربعين عاما أم لتسعة أولاد، والأسيرة"زكيّة عبد الكريم" ذات الخمسين عاما أم لثلاثة عشر ولد وبنت ، والأسيرة "أسماء محمد سليمان" ذات الأربعين عاما أم لخمسة أطفال، الأسيرة"ابتسام عبد الحفيظ" ستة وثلاثين عاما أم لخمسة أطفال، الأسيرة "شفاء عدنان" ستة وعشرين عاما أم لطفلة، الأسيرة "أمل محمد جمعة" إحدى وعشرين عاما أم لطفل، الأسيرة "قاهرة السعدي" ثلاثة وعشرين عاما أم لأربعة أطفال، وبينما وضعت الأسيرة "ميرفت طه" عشرون عاما مولودها داخل المعتقل؛ فإن الأسيرة "منال غانم" ثمانية وعشرين عاما وأم لثلاثة أطفال على موعد مع مخاض عسير حيث تنتظر ولادة طفلها الرابع في أيلولنا هذا..

*************

تم إعداد هذا التقرير بعد لقاء خاص مع والدة الأسيرة "أسماء عبد الرازق" وشقيقتيها

تاريخ اجراء اللقاء: الأحد 31/ 8/ 2003م

مكان اللقاء: بيت والدة الأسيرة "أسماء" في بلدة سلواد - قضاء رام الله

أجرى اللقاء وكتب التقرير : ربيحة علان علان

خاص لجريدة الحياة العربية - أستراليا