في الذكرى ( 38 ) لإستشهاده
جيفارا غزة .. ثائر جبهاوي صنع مجداً لشعبه
*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
9-3-2011
التاريخ الفلسطيني ومنذ النكبة الأولى ، حافل بالبطولات والمآثر ، تاريخ خطت حروفه بدماء قوافل طويلة وطويلة جداً من الشهداء لا يمكن حصرها ، دماء زكية روت ثرى فلسطين الغالية ، وبلدان عربية شقيقة ، دفاعاً عن فلسطين التاريخية بمقدساتها الإسلامية والمسيحية ، وعن أراضي عربية مجاورة ، وصوناً للشرف العربي ودفاعاً عن الكرامة العربية ، وقدم الشعب الفلسطيني عبر العقود الماضية عشرات بل مئات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين ، ومع جل تقديرنا واحترامنا لجميعهم بدون استثناء ، ومع تقديرنا العالي لمعاناة الجرحى والمعتقلين المتواصلة ، فهم نبراساً لنا وتيجاناً على رؤوسنا ، إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين أحياناً لتسليط الضوء على هذا الشهيد أو ذاك المعتقل دون غيره ، وهذا ليس تقليلاً من شأن الآخرين على الإطلاق ، وعليه فليعذرنا ذوي الشهداء والجرحى والمعتقلين الذين لم نتاول سير حياة أبنائهم ، ولو كنا نمتلك الإمكانيات لوثقنا وبدون تردد كل تلك القصص والحكايات .
الثورة لا زالت قوية كالفولاذ ، حمراء كالجمر ، باقية كالسنديان ، عميقة كحبنا الوحشي للوطن ..
واليوم التاسع من آذار هو يوم عادي لملايين البشر في هذا الكون ، لكنه ليس عادياً للشعب الفلسطيني وقواه المناضلة عامة ً، ولمن ناضل وقاتل في صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو انتمى لإحدى اطرها ، يوماً ليس عادياً لمن انتهج الثورة طريقاً ، وآمن ولا زال يؤمن بأن الثورة لا زالت قوية كالفولاذ ، حمراء كالجمر ، باقية كالسنديان ، عميقة كحبنا الوحشي للوطن ..
في هذا اليوم وقبل ثمانية وثلاثين عاماً ، استشهد الثائر الفلسطيني ، الأسير السابق ، القائد العسكري الفذ " محمد محمود مصلح الأسود " الذي اشتهر باسم " جيفارا غزة " .
وبعد قرابة أربعة عقود مضت على استشهاده نؤكد بأن التاريخ الفلسطيني المعاصر وحتى العربي المقاوم سيبقى مزيفاً وناقصاً إن لم يمنح هذا الرجل حقه وان لم ينصف تلك التجربة الفدائية الرائعة في قطاع غزة التي صنعت التاريخ .. فليس هنالك من فلسطيني صغيرٍ أم كبيرٍ ، مقاومٍ أم سياسيٍ لم يعرف من هو " جيفارا غزة " ولم يسمع عن بطولاته وعن التجربة الجيفارية في سنوات النار ..
" جيفارا غزة " اسم ليس ككل الأسماء في سجل الثورة الفلسطينية ، اسم ارتبط بمرحلة نضالية مميزة ، هكذا عرفه شعبه وهكذا يتغنى رفاقه باسمه ، كيف لا وهو من أقسم بأن يحول كل حبة رمل من رمال غزة الى لغم يتفجر تحت أقدام الغزاة ، وأوفى بوعده وبشهادة العدو قبل الصديق .
" جيفارا غزة " إسم دب الرعب في قلوب جنود الإحتلال وقياداته العسكرية والسياسية، فلاحقهم ولاحق عملائهم ، في أزقة وشوارع مدن ومخيمات قطاع غزة ، وألحق بهم الهزائم تلو الهزائم ، مما دفع "موشيه ديان " وزير دفاع دولة الإحتلال آنذاك للقول " بأن قواتنا تحكم قطاع غزة نهاراً ، وفدائيي جيفارا تحكمه ليلاً "
" جيفارا " في سطور
ولد الشهيد محمد محمود مصلح الأسود ( جيفارا غزة ) بتاريخ 6-1-1946 في مدينة حيفا وبعد النكبة 1948 نزح إلى مخيمات قطاع غزة ، وفي بدايات العام 1963 انضم لحركة القوميين العرب ليصبح عضواً ناشطاً فيها ، وكان من أوائل الكادر الوسطي الذين شكلوا ( طلائع المقاومة الشعبية ) ، وبعد هزيمة حزيران عام 1967 ، نفذت الطلائع عدة عمليات عسكرية جريئة كان أبرزها تفجير دبابة اسرائيلية في شارع الثلاثيني قرب دوار الصناعة ، وتدمير جيب عسكري إسرائيلي في ميناء غزة ، وبعد انطلاقة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الحادي عشر من ديسمبر من نفس العام أصبح القائد العسكري لمدينة غزة ، وكان قائداً بارعاً محبوباً يمتلك من السمات القيادية التي تؤهله لتحقيق الإنتصارات .
الأسير السابق " جيفارا غزة
وبعد أقل من شهرين على انطلاقة الشعبية ، اعتقلته قوات الإحتلال الإسرائيلي وذلك بتاريخ 25-1-1968 ، وزج به في زنازين سجن غزة المركزي ، وتعرض لأبشع صنوف التعذيب ، لأن المخابرات كانت تدرك جيداً خطورته والمعلومات والأسرار التي يمتلكها ، إلا أنه لم يبح بأسرار رفاقه ولم يخن من منحوه الثقة وأثبت أن المناضل يستحيل فك عقدة لسانه اذا ما صمم مهما كانت حجم الضغوط النفسية والجسدية التي تستخدمها قوات الإحتلال ضده، ومن ثم زج به في غرف السجن ليمكث فيها قرابة العامين ونصف .
وخلال وجوده في السجن لم يهدأ أو يستكين ، ولم تحيده السلاسل والقضبان أو قساوة السجان عن نهج الثورة قيد أنملة ، فبقيّ على علاقة تواصل مع رفاقه خارج الأسر وواصل نضاله واصدار توجيهاته وتعليماته بشن المزيد من العمليات ضد قوات الإحتلال وإلحاق أفدح الخسائر البشريه به .
وبعد اطلاق سراحه منتصف العام 1970 ، أصبح القائد العسكري لقطاع غزة ، وحمل اسماً حركياً جديداً وهو " جيفارا غزة " تيمماً وتقديراً واعجاباً بتجربة وشخصية الثائر الأممي " أرنستو تشي جيفارا " ، وأجاد فنون المطاردة والتخفي وسرعة الحركة والتنقل والإختفاء في الملاجئ .. إلخ من أساليب المقاومة الشعبية وحرب الشوارع ، فألحق بأعدائه الهزيمة تلو الهزيمة ... فذاع صيته وأصبح اسمه يتردد بكل فخر على كل لسان وافتخر به رفاقه وشعبه وأمته العربية جمعاء ، ويخشاه العدو وعملائه في كل زمان ومكان ..
التاسع من آذار عام 1973 .. كانت الشهاده
وعن استشهاده يقول فروانة : وفي التاسع من آذار عام 1973 تمكنت قوات الإحتلال من معرفة مكان وجوده فحاصرت البيت الذي كان متواجداً به خلف مستشفى الشفاء بغزة ، مستعينة بآلاف الجنود والدبابات وبغطاء جوي ، ورغم هذا المشهد لم يستسلم " جيفارا " ورفيقيه الحايك و العمصي ، واشتبكوا مع قوات الإحتلال الى ان استشهد ثلاثتهم ، مما دفع وزير الدفاع آنذاك " موشيه ديان " الى الحضور لغزة للتأكد من استشهاد " جيفارا غزة " الذي أقضَّ مضاجعهم .
محمد الأسود أو ما عرف باسم " جيفارا غزة " شخصية فلسطينية ثائرة ، استطاعت أن تسجل للتاريخ ، تجربة فلسطينية فدائية جماعية رائعة في العمل الفدائي وفي حرب التحرير الشعبية ضد الإحتلال الإسرائيلي امتدت لبضعة سنوات ، تستحق الإعتزاز والإفتخار ، وتقودنا الى المناشدة لتوثيقها والإستفادة منها ومن دروسها وعبرها.
وفي مشهد آخر اثبت " جيفارا " والآلاف من أمثاله من الأسرى السابقين ، أن السجن لم ولن يستطع قتل المناضل ، بل يساهم ايجابياً في اعادة انتاجه بشكل يغدو فيه أكثر صلابة واصراراً على المضي قدماً صوب تحقيق أهداف شعبه وأمته .
" جيفارا غزة " .. أنت في القلوب دوماً ، وفي مراحل الثورة حاضراً ، وتجربتك في التاريخ الفلسطيني المعاصر محفورة لم تتكرر بعد ، فهي مفخرة ليس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فحسب ، وانما للشعب الفلسطيني عامة ، و من حقك علينا كفلسطينيين عشقنا ونعشق المقاومة أن نبذل قصاري جهودنا من أجل توثيقها بالشكل الذي تستحقه ، فالتاريخ الفلسطيني مزيف ان لم ينصف التجربة الجيفارية في قطاع غزة .
ملاحظة / هذا المقال محدث عن مقال سابق نشرناه عام 2008