في الذكرى الأولى لرحيل سامي أبو سبيتان..
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة الأسرى
9-7-2016
إن الشعوب تكتب تاريخها بالتضحيات، والقائمون على هذه التضحيات هم الشهداء بالمقام الأول، فهم نواب الأمة في كتابة التاريخ. والشهداء في فلسطين ثلاثة أصناف: صنف مات في ساحة المعركة، وصنف مات وراء القضبان، وصنف ثالث مات بفعل القهر وآثار الاعتقال وما ورثه عن الاحتلال. فتتساقط قطرات الدماء من أجسادهم لترسم خارطة الوطن، كما تصورها الشهداء في حياتهم. ليؤكدوا أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، وأن لا حياة مع الاحتلال ولا حرية في ظل الاحتلال، وأنه لم يعد أمام الاحتلال إلا أن يرحل، أو أن يفنى الشعب الفلسطيني عن آخره. وهذا لم يحدث ولن يحدث. فالشعب الفلسطيني باق فوق أرضه وماضي نحو حريته.
ومن الصعوبة بمكان أن تختار من قاموس اللغة ما يليق بمكانة وعظمة الشهداء، أولئك الذين ناضلوا وأفنوا حياتهم في ساحة النضال. وأولئك الذين عانوا من الاحتلال الكثير ومّروا بتجربة الاعتقال وذاقوا قسوة السجن ومرارة السجان قبل رحيلهم. والأصعب أن تكتب عن شهداء تعرفهم عن قرب وعايشتهم بين جدران السجون، عن أسرى محررين شكّلوا نماذج تُحتذى في انتمائهم وسلوكهم. وبالرغم من صعوبة الأمر فان الواقع أحيانا يفرض عليك أن تكتب عنهم ببضع كلمات، وفاء لهم في ذكرى رحيلهم، وتقديرا لمسيرتهم الحافلة، واحتراما لمكانتهم الرفيعة، وتأكيدا على حضورهم رغم غيابهم القسري بفعل الموت القدري.
سامي سليمان أبو سبيتان... هو واحد من أولئك الذين رحلوا عنا بأجسادهم قبل عام من اليوم، فيما بقيت ذكراه محفورة في اذهاننا وعقولنا، ترفض الرحيل رغم مرور الزمن.
"سامي" وكنيته "أبا خالد" .. ينحدر من عائلة فلسطينية عانت ويلات الاحتلال، فتشردت من بلدتها الأصلية عقب النكبة عام 1948 ليستقر بها الحال في مخيم جباليا شمال قطاع غزة. وفي العام 1966 كانت الولادة والنشأة بين ازقة وشوارع المخيم. فتربى "سامي" وترعرع على حب الوطن ومقاومة الاحتلال، ومنذ نعومة أظافره انتمى للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وعمل مطلع ثمانينات القرن الماضي ضمن اتحاد الطلبة الثانويين. فكان ناشطا وفاعلا ومؤثرا. ومع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987 تطور الحال وفقا لمتطلبات المرحلة، فلم يهدأ أو يستكين، واستمر في نشاطه في مجالات مختلفة، فظهر "ابا خالد" في صور متعددة وكان دائم الحضور في كافة الساحات والأمكنة، ليصبح واحد من المؤثرين بين رفاقه، بل وبين أبناء المخيم كافة لما كان يتمتع به من علاقات واسعة وأخلاق حميدة. وخلال الانتفاضة اعتقل مرتين رهن الاعتقال الإداري، ومكث في معتقلي أنصار والنقب الصحراوي قرابة العام، فكان في السجن، كما كان خارجه، نموذجا رائعا في الوعي والسلوك والصمود. كما لم يكن السجن بالنسبة له سوى استراحة مقاتل.
"أبا خالد" .. كان يفخر دائما بانتمائه للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان يحرص على أن يعكس صورتها أينما حل، وكان يؤمن بأن العضو ومهما كانت مرتبته الحزبية ومكانته داخل الجبهة، فهو المرآة العاكسة ولسان حالها أمام الجماهير. فكان "ابا خالد" خير من مثّل الجبهة وعكس صورتها وصورة المناضل الحقيقي والرفيق المثالي والمقاوم النموذجي أمام الآخرين.
"أبا خالد ".. رحل قبل عام أثر مرض عضال ألم به، وهو في ريعان شبابه ولم يكن حينها قد أكمل العقد الخامس من عمره. لكن الحياة لا تقاس بالسنين التي عاشها الإنسان، وإنما تُقاس بحجم ما زرعه الإنسان في حياته داخل حدائق الوطن والإنسانية وساحات النضال. وتسعة وأربعون عاما كانت مليئة بالمعاناة والمآسي، حافلة بالتضحيات، زاخرة بالعطاء والعمل المقاوم.
ويقول "غسان كنفاني" في قصة "المدفع": "كم هو بشع الموت، وكم هو جميل أن يختار الإنسان القدر الذي يريد". اختار "أبا خالد" قدره عندما اختار النضال طريقا رغم صعوبته، فأحبته الثورة، وعشقته الجبهة الشعبية ورفاقها، واحترمه أصدقائه وجيرانه، واحتضنه ثرى وطنه بفخر وعزة.
"أبا خالد" .. رجل حمل هموم شعبه وقضيته ومقاومته منذ صغره، و أسير سابق أدرك معنى الأسر ومعاناة الأسرى، فكان مناصراً لهم وداعماً لحريتهم، وكثيرة هي المناسبات التي شارك فيها اسنادا لقضيتهم العادلة. ونحن كأسرى محررين ومؤسسات فاعلة في مجال الدفاع عن الأسرى لا يمكن لنا أن ننسى من انتمى يوما للحركة الوطنية الأسيرة وكان وفيا لرسالتها الوطنية، وسنبقى أوفياء لمن كان وفيا للوطن وقضاياه.
"أبا خالد".. كنت رائعا في حياتك وخالداً بعد مماتك ... وستبقى قنديلاً لن ينطفئ نوره حتى بعد رحيلك الأبدي.. ليس فقط لأصدقائك ورفاقك في الجبهة الشعبية، وانما لكل من عرفك وعايشك، أو سمع عنك وقرأ سيرتك ومسيرتك.
سلام عليك أيها المناضل .. أيها العاشق للوطن والقضية.
سلام عليك أيها الثائر الحاضر دوما بيننا، تأبى الرحيل. وكيف لك أن ترحل وأنا أرى وجهك أمامي مبتسما في عيون أصدقائك الأوفياء.
كيف لك أن ترحل ولن ترحل أبدا وأنت من حفر له اسما عميقا في عقولنا وحجز مكانة واسعة في قلوبنا. فطوبى لك ايها الشهيد الخالد في أعماقنا.
المجد للشهداء والحرية للأسرى