"أبو عمار" حاضر في قلوب الأسرى والمحررين
بقلم/عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى
7-11-2017
لست مؤرخًا أو كاتبًا محترفًا، ولم أمتهن الصحافة يوما، ولست شاعراً أنا أو أديباً كي أمسك القلم لأنظم عباراتٍ تكافئ قامةً رفيعةً بحجم السنديان بشموخها، عن وطن جامع يسكن في ثائرٍ اسمه "أبو عمار". بل إنني صوت للأسرى والمحررين، وقريب جدًا منهم، فقد شرُفت بأنني ومنذ أن أبصرت النور وأنا جزء من هذه القضية الوطنية النبيلة، فقد كانت الحركة الوطنية الأسيرة هي أول الأدبيات النضالية التي تعلمتها حيث كان والدي من الرعيل الأول من الأسرى، ومن ثم اعتقلت وتعايشت مع أخوة مناضلين لسنوات في السجون، ولم ينته المطاف بي بعد التحرر، فما زلت بالتصاق وثيق بهذه القضية فأنا معهم وبينهم وبجانبهم، ومتابع لهمومهم ومعاناتهم وتفاصيل حياتهم، ومطلع على أفكارهم وآمالهم وطموحاتهم، فهي قضيتنا ونحن جزء منها، فكبرنا وكبرت معنا وبداخلنا حتى أصبحت جزءاً من حياتنا وجزءاً أساسياً من قوتنا اليومي. لذا أرى أن من حقي وواجبي أن أنوب عنهم وأخط بضع كلمات بحق من وصفهم في محافل عدة بأنهم خيرة أبناء الشعب الفلسطيني، الزعيم الحاضر الخالد في قلوب الأسرى والمحررين في ذكرى استشهاده الثالثة عشر الشهيد (ياسر عرفات).
إن العلاقة التي كانت تربط الشهيد "أبا عمار" بالأسرى، لم تكن مجرد علاقة مسؤول بمرؤوسيه، أو قائد بجنوده، فحسب، وانما هي علاقة الأب الحنون بأبنائه المناضلين المقيدة حريتهم بفعل سلاسل السجان الإسرائيلي بعد أن قاوموا الاحتلال وقدموا الغالي والنفيس من أجل الوطن، لذا كان وفياً لهم ولمن كانوا أوفياء له وللقضية قبل وبعد اعتقالهم، ومتابعا لتفاصيل حياتهم وعلى تواصل دائم معهم، ومستفسرا ليل نهار عن أحوالهم، وحريص على تحقيق حلمهم بالعودة إلى أهلهم وشعبهم.
لم يغفل "أبو عمار" قضيتهم ولم يضع ملفاتها في أدراج النسيان، فكانت حاضرة دوما على أجندته وفي صلب اهتماماته وعلى سلم أولوياته، وحرص على إبقائها حية في كل الأزمنة، وحاضرة في كل الأوقات والمناسبات، وضمن الخطابات الشعبية والرسمية، وموجودة على أجندة اللقاءات العربية والدولية، وكثير ما أصر على إدراجها ضمن لقاءاته مع زعماء العالم، واصطحب معه مرارا أبناء الأسرى خلال لقاءاته مع شخصيات عربية ودولية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: لقائه بالرئيس الأمريكي "بيل كلنتون" والرئيس الفرنسي "جاك شيراك" وبابا الفاتيكان "يوحنا بولس" وغيرهم.
لقد كان "أبو عمار" سنداً حقيقياً للأسرى والمحررين وعوائلهم، وشكّل لهم رمزاً تاريخياً عظيماً، وكان عنواناً للصمود والعزيمة، ومبعثاً للأمل والتفاؤل، فسكن قلوبهم وعقولهم، ليبقى إرثاً حياً في وجدانهم، وتاريخاً محفوراً عميقاً في ذاكرتهم، واسماً حاضراً دوماً وأبدا بينهم، وسيبقى في ذاكرتهم وذاكرة الأجيال المتعاقبة يذكره التاريخ بفخرٍ أبد الدهر.
لقد قالت لي زوجته "سهى عرفات" عبر الهاتف: "إن الأسرى وهمومهم كانوا دوما في عقل وقلب أبي عمار، وكان دائم الاتصال بهم والتواصل معهم ودائم الفخر بهم والاعتزاز بنضالاتهم، وكثير الحديث مع المسؤولين الفلسطينيين لتوجيههم وحثهم على دعمهم واسنادهم، خاصة اذا ما تردد لمسامعه ان هناك اعتداء او اقتحام أو مواجهات في هذا السجن او ذاك. وكان حريصاً أيضا على لقاء امهات الأسرى واطفالهم والاستماع اليهم، وحتى وهو على فراش الموت أوصانا وأوصى من حوله بالأسرى، وحثّ وزير المالية في الحكومة الفلسطينية آنذاك "د. سلام فياض" بمواصلة الاهتمام بهم".
"أبو عمار" ذاك الشهيد الخالد الذي حرص طوال سني حياته على تحقيق حلم الأسرى بالحرية بما يعزز النضال الوطني الفلسطيني وديمومته، فهو من أوائل من أرسى ثقافة الأسر والخطف لجنود الاحتلال ومواطنيه ومستوطنيه، وأشرف على انجاز العديد من صفقات التبادل منذ أن أطلقت حركة "فتح" الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة في الأول من كانون ثاني/يناير عام 1965، حيث كان أولها بتاريخ 28 كانون ثاني/ يناير1971 وتحرر بموجبها الأسير محمود بكر حجازي وهو أول أسير في الثورة الفلسطينية المعاصرة، فيما أنجز أضخم الصفقات في تاريخ الثورة الفلسطينية، وكان هذا في 23 تشرين ثاني / نوفمبر 1983 والتي تحرر بموجبها جميع معتقلي معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) معتقل فلسطيني ولبناني وعربي ، و(65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود اسرائيليين كانوا مأسورين لدى (حركة فتح).
كما وأصرّ على اطلاق سراح الأسرى في اطار "العملية السلمية" التي انطلقت عقب اتفاق "اوسلو" عام 1993، فنجح في انتزاع حرية الآلاف منهم، ولم تكن افراجات شكلية، بل شملت أحكاماً عالية ومؤبدات وأسرى دوريات، فأجاد وبامتياز فن المزاوجة ما بين "المقاومة والعملية السلمية"، ما بين "العمل المقاوم والمفاوض"، ونجح في اطلاق سراح ما مجموعة (16) ألف أسير ومعتقل فلسطيني وعربي وما يزيد من السجون والمعتقلات الإسرائيلية عبر صفقات التبادل و"العملية السلمية" التي انطلقت باتفاق "أوسلو"1993.
ان دور الشهيد "ابا عمار" لم يقتصر على دعم الأسرى القابعين في سجون الاحتلال فحسب، والنضال من أجل كسر قيدهم فقط، وانما امتد دوره ليشمل دعم أسرهم وأطفالهم وعائلاتهم، بل واهتم أيضا بالأسرى المحررين وضرورة دعمهم واسنادهم، فكان حريصاً على أن يوفر لهم ولعائلاتهم كافة احتياجاتهم ومستلزمات حياتهم اليومية، فأصدر في السابع من آب/أغسطس عام 1998 قرارا يقضي بتشكيل جسم حكومي ورسمي يُعنى بشؤون الأسرى والمحررين، وأطلق عليها وزارة شؤون الأسرى والمحررين - والتي تحولت في السنوات الأخيرة الى هيئة شؤون الأسرى والمحررين دون المساس بجوهرها ومضمونها ودورها تجاه هذه الشريحة- الأمر الذي شَّكل سابقة هي الأولى من نوعها على المستويين العربي والإسلامي، وأسس لمرحلة جديدة في التعامل مع قضية الأسرى على كافة الصعد، وأحدث انقلابا لجهة الأفضل فيما يتعلق بالخدمات المقدمة لهم، الحقوقية والاجتماعية، القانونية والمالية، وهو أول من اعتبر أن الأسرى هم جنود وأن رواتبهم يتم التعامل معها حسب رتبهم العسكرية، بالإضافة الى قراراته باستيعاب الأسرى المحررين في القطاع العام (المدني والعسكري) واحتساب سنوات الاعتقال كسنوات خدمة فعلية. مما قاد الى احداث نقلة نوعية في مكانة وحضور قضية الأسرى والمحررين على المستويين الوطني والسياسي، ومع مرور الوقت وتراكم العمل وتطور الأنظمة والقوانين الخاصة بهم، يمكن القول أن نقلة غير مسبوقة قد حدثت في طبيعة ومستوى وحجم الخدمات التي تقدم لهذه الشريحة المناضلة، وما زال العمل مستمرا والخدمات تقدم لهذه الشريحة دون توقف وبما يكفل لهم ولأسرهم مستوى لائق من الحياة الكريمة. لهذا وذاك، بقىّ الأسرى والمحررون وعوائلهم أوفياء له، يهتفون باسمه ويحيون ذكراه في السجون وخارجها، كيف لا وهو مفخرة لهم وللأمة جمعاء وعنوان لعزتها.
وفي الختام أدعو المؤسسات الفلسطينية المعنية وكافة الجماهير الفلسطينية والعربية وأحرار العالم إلى حماية إرثه الفريد، وتاريخه العريق، وتوثيق علاقته التاريخية بأبنائه الأسرى وعائلاتهم، والتمسك بالثوابت الوطنية التي ناضل واستشهد من أجلها، والسير على دربه ودرب كل الشهداء نحو تحقيق أهداف وتطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة في دحر الاحتلال وتحقيق الحرية والاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وأن يرفع شبلٌ من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس، كما كان يوصينا دوماً أبو عمار.