عشرة أعوام على استشهاد الأسير أبو هدوان

 

بقلم / عبد الناصر فروانة

4 نوفمبر 2014

 

"محمد أبو هدوان"، أسير فلسطيني من مواليد مدينة القدس المحتلة عام 1945، وفيها سكن ومنها أسر، وحيث لا تزال أسرته تقطن هناك وتأبى الرحيل أو الانتقال للعيش في أي بقعة أخرى من هذا الوطن.

 

و كان قد اعتقل في الثالث من تشرين أول/ أكتوبر عام 1985، ضمن مجموعة فدائية وحكم عليه بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، ومع مرور سنوات الأسر بات مثقلا بالأمراض المزمنة، والخطيرة التي نخرت جسده ولم يعد يحتمل تحملها أو الاستمرار في العيش معها، فمسك بيده غير المقيدة وخط بقلمه بضع كلمات يختزل فيها حلمه ( أريد أن أقتعد مكاناً بينهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقتعد نعشي على أكتفاهم).

 

وبيقين وصلت رسالته لإدارة السجن التي لم تبال بمضمونها وأدارت ظهرها لحالته وكأنها تريد له أن يموت في السجن ببطء شديد ليقتعد نعشه على أكتاف أحبته.

 

رفضت إسرائيل توصية طبيب السجن بإطلاق سراحه نظرا لحالته الميئوس منها، ولم تلتف لكبر سنه الذي قارب على الستين عاما -قبيل وفاته-، ولم تأخذ بعين الاعتبار تردي حالته، وتدهور أوضاعه الصحية جراء ما ورثه عن السجون وسنوات الأسر من أمراض خطيرة نخرت جسده وقلبه، وأفقدته القدرة على الحركة وقضاء حاجته. كما ولم تشفع له السنوات الطويلة التي أمضاها متنقلا بين السجون والتي شارفت على العقدين من الزمان.

 

لم يعد بمقدور جسده المنهك أن يحتمل ظروف السجن وقساوته، أو معاملة السجان وبشاعتها، وأفصح "أبو هدوان" مرارا لرفاقه بأنه يُفضل الموت مرة واحدة على أن يموت مرات ومرات عدة، إلا أن إدارة السجون كان لها رأي ثالث، فلاهي عالجته في السجن وخففت من آلامه، ولا هي تركته يُعالج على نفقة أسرته خارج السجن، وإنما قررت الانتقام منه تنفيذا لقرار اتخذته من قبل ولم تعلن عنه، والقاضي بإعدامه ببطء ، كما أعدمت من قبله ومن بعده عشرات الأسرى العّزل بذات الطريقة، التي تُسمى "الإهمال الطبي".

 

الأمر الذي يعزز الاعتقاد السائد لدى الفلسطينيين، بأن الإسرائيليين قد فقدوا "الحس الإنساني" في تعاملهم مع الأسرى الفلسطينيين، أي فقدوا القدرة على إدراك آلامهم ومعاناتهم، بل أصبح الفلسطيني في نظرهم – حتى المقيد بالأصفاد- على أنه " العدو الحقيقي".

 

محمد أبو هدوان .. لم يتحقق حلمه ولم ينعم بتلك اللحظة التي كان يتمناها بأن يقتعد مكاناً بينهم، مفتوح العينين، يرى أهله وأحبته دون قضبان وأسلاك شائكة. فعاد من سجنه محمولا على الأكتاف مقيد الأيادي ،  ليرحل عنا جسداً ، لكنه سيبقى فينا لم ولن يرحل أبد الدهر وذكراه باقية في وجداننا.

 

أما زوجته "أم الحسن" فقالت عقب استشهاده في الرابع من نوفمبر عام 2004: "كانت لدينا آمال كبيرة بإمكانية الإفراج عنه، صرنا ننتظره يوماً تلو الآخر، نحلم بعودته سيراً على الأقدام كما أُقتيد يوم اعتقاله، وراح أولاده وأحفاده  يحلمون كل على طريقته بيوم الإفراج عنه، وشكل استقباله والاحتفاء به ،  وحلمنا جميعاً أن نذهب وإياه للصلاة في المسجد الأقصى. لم نكن نتخيل أن كل ما اعتقدناه وتخيلناه قد يتغير فجأة ويحدث ما كنا نخشاه دوماً ، ليأتينا كومة أحزان على شكل تابوت. ليقتعد نعشه على أكتاف أحبته دون أن يقتعد مكانا بينهم كما كان يتمنى."

 

الشهيد " محمد أبو هدوان " وكنيته "أبا الحسن" هو واحد من ضحايا سياسة الإهمال الطبي المتبعة بمنهجية عالية في التعامل مع الأسرى الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية، مما يحول الأصحاء إلى مرضى، ومما يجعل من الأمراض البسيطة أن تأخذ طريقها نحو الاستفحال. الأمر الذي يؤدي إلى وفاتهم إما داخل السجن أو خارجه.

 

وسيبقى "أبا الحسن" شاهداً على العصر،  عصر الجريمة المنظمة التي تُرتكب خلف القضبان بحق أسرانا وأسيراتنا من قبل السجان الإسرائيلي. 

 

والشهيد الأسير " أبو هدوان وكنيته " أبو الحسن " متزوج وله خمس بنات وثلاثة أولاد، الأولاد تزوجوا، والبنات كذلك ، وذات مرة سؤل عن ذلك " كلهم تزوجوا يا أبا الحسن وأنت في السجن ؟ فأجاب بابتسامة مريرة : " نعم وأنا على برشي ( سريري)، تصورت حفلاتهم في خيالي...".‏

 

لم يكن "أبا الحسن" هو الأسير الفلسطيني الأول الذي استشهد جراء الإهمال الطبي داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي فلقد سبقه ولحق به العشرات من الأسرى الفلسطينيين، فيما لا يزال هناك العشرات من الأسرى الفلسطينيين يحتضرون في السجون، وهم مصفدون بسلاسل من الحديد، تزيد ألمهم ألماً، وتتقاعس إسرائيل في تقديم الرعاية الطبية لهم والعلاج المناسب. كما وترفض التجاوب مع نداءات المؤسسات الحقوقية والإنسانية بالإفراج عنهم. إن حلم هؤلاء الأسرى بالعودة إلى بيوتهم سيراً على الأقدام، يتلاشى مع مرور كل يوم جديد.

 

رحم الله شهداءنا وفرّج عن أسرانا، وشفى الله مرضانا إن كانوا داخل السجون أو خارجها

 

عبد الناصر فروانة
أسير محرر ، و مختص في شؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بهيئة شؤون الأسرى والمحررين
عضو اللجنة المكلفة بإدارة مكتبها بقطاع غزة
0599361110
0598937083
Ferwana2@gmail.com
الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان
www.palestinebehindbars.org