الاعتقال الإداري وسُبل المواجهة

 

*بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

4-5-2022

 

يُعد الاعتقال الإداري موضوعاً بحثياً قائماً بحد ذاته، سواء لجهة الجدل القانوني حوله، أو لجهة ارتباطه بشكل أو بآخر بنهج الاعتقال السياسي، وبحكم كونه إجراء يتراوح اللجوء إليه ما بين الضرورة الشرعية (قانوناً) أحياناً، والتعسف أو العقاب أحياناً أخرى.

يُعرَّف الاعتقال الإداري بأنه: عملية قيام السلطة التنفيذية باعتقال شخصٍ ما، وحرمانه من حريته، دون توجيه أي تهمة محددة ضده، بصورة رسمية، ودون تقديمه إلى المحاكمة وذلك عن طريق استخدام إجراءات إدارية.

وتوضح اتفاقية جنيف الرابعة، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاعتقال الإداري يُعد تدبيراً شديد القسوة، للسيطرة على الأمور، والوسيلة الأكثر تطرفاً، التي يسمح القانون الدولي للقوة المحتلة بإتباعها، تجاه سكان المناطق المحتلة في الحالات الضرورة القصوى أو لأسباب أمنية قهرية. (اتفاقية جنيف الرابعة، المادة 42-78.(

فالإجازة الاستثنائية للاعتقال الإداري، تسمح للسلطات القائمة باحتجاز الأشخاص المحميين، وحرمانهم من حريتهم، رغم عدم توجيه دعاوي ضدهم، على اعتبار أنهم يعدون تهديداً حقيقياً لأمنها، في الوقت الحاضر، أو في المستقبل. وعلى عكس الإجراء الجنائيّ، فإنّ الاعتقال الإداري لا يهدف إلى معاقبة شخص على مخالفة قد اقترفها، بل يهدف إلى منع وقوع المخالفة مستقبلاً.

وعلى هذا، يُعد الاعتقال الإداري إجراءً شاذاً واستثنائياً، لأن المبدأ العام للقانون يقول بأن حرية الأشخاص هي القاعدة. وذلك على افتراض أن نظام العدالة الجنائية، قادر على معالجة مسألة الأشخاص المشتبه في أنهم يمثلون خطراً على أمن الدولة.

وفي الوقت الذي أجاز فيه القانون الدولي اللجوء إلى الإجراء الأشد قسوة -الاحتجاز أو الاعتقال الإداري - كإجراء شاذ واستثنائي، فإنه وضع قيوداً وشروطاً صارمة على تنفيذه، وحدد مجموعة من المبادئ والإجراءات القضائية، والضمانات الإجرائية تتعلق بفترة الاعتقال، على أن تكون لأقصر فترة ممكنة، وظروف الاحتجاز وحقوق المعتقل الإداري. كما حظر تطبيقه بشكل جماعي، حتى لا يصل إلى مستوى العقاب الجماعي والذي يُعد جريمة. إلا أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي استغلت الإجازة القانونية الاستثنائية دون الالتزام بالمبادئ والإجراءات القضائية المنصوص عليها، ولا بالضمانات الإجرائية التي حددها القانون الدولي. كما ولم تلتزم بروح قانون الانتداب نفسه. هذا القانون الموروث عن الانتداب البريطاني.

وإذا كان قانون الانتداب قد نظم الاعتقال الإداري، وحدد في نطاق ضيق حالاته، فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي توسعت في استغلاله، حين لجأت إلى إصدار عدة أوامر عسكرية، تشرعه أكثر من كونها تنظمه، وبما يخدم ظروف الاحتلال ويكرسه، حتى وصل عدد الأوامر الإسرائيلية بهذا الخصوص إلى (12) أمراً عسكرياً. كان من بينها القرار(1228) الصادر بتاريخ 17 آذار 1988، الذي أعطى صلاحية إصدار القرار بالاعتقال الإداري لضباط  أقل رتبة من قائد المنطقة، مما أدى إلى تصعيد خطير في استخدامه، وارتفاع ملحوظ على أعداد  المعتقلين الإداريين الفلسطينيين.

من هنا يمكن القول بأن دولة الاحتلال قد أساءت استخدام الاعتقال الإداري، وبات سلوكها يشكل جريمة من منظور القانون الدولي ، حين توسعت في استغلاله وتطبيقه، استناداً لما يُسمى بـ "الملف السري" الذي يشكل أساس الاعتقال، حيث السرية المفروضة على الأدلة والمواد، والتي لا يسمح للمتهم أو لمحاميه بالاطلاع على محتواها- مما يجعل من المستحيل رد التهم المنسوبة أو مناقشتها-. وأصبح الاعتقال الإداري على يديها، قاعدة، لا استثناء، وإجراءً عقابيٍاً جماعياً، ضد الفلسطينيين بما يخالف قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان

لقد اتسم السلوك الإسرائيلي بالتصعيد في استخدام هذا الإجراء من الاعتقال التعسفي بحق الفلسطينيين، ولقد أصدرت سلطات الاحتلال منذ العام 1967، أكثر من (54) ألف قرار بالاعتقال الإداري، سواء منها ما كان قرارا جديدا أو ما تم تجديده، وأن من بين تلك القرارات نحو (1595) قرارا خلال العام الماضي2021، والتي شكلّت زيادة قدرها (43.2%) عن العام الذي سبقه. وما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحتجز في سجونها نحو (650) معتقل إداري، وفقا لبيان لهيئة الأسرى بتاريخ18 ابريل، بينهم نواب منتخبين وأكاديميين وكُتّاب واعلاميين ومحامين ومثقفين وقيادات سياسية ومجتمعية.

إن كثيراً من الفلسطينيين، اعتقلوا إدارياً لأكثر من مرة، وأن العديد منهم جُدد لهم الاعتقال الإداري مرات عديدة، وقد أمضى بعض المعتقلين سنوات طوال في سجون الاحتلال تصل الى خمس سنوات وأكثر، متتالية أو على فترات، وأصبح التجديدُ سيفاً مسلطاً على رقاب المعتقلين حتى أصبح الكثيرون من المعتقلين الإداريين سجناء إلى أمد غير معلوم، جراء تجديد أوامر الاعتقال استناداً لما يُعرف بـ "الملف السري"،.

لقد مرّرت شخصياً بالتجربة، واعتقلت مرتين إدارياً، وأمضيت سنة كاملة في السجن، بلا تهمة أو محاكمة، ومررت على ما تُسمى محاكم الاستئناف الصورية، دون معرفة أسباب الاعتقال، وعايشت المعتقلين الإداريين وكنت شاهداً على أساليب الاعتقال وظروف الاحتجاز وقسوة الظروف المناخية، صيفا وشتاء، وسوء المعاملة وتدني الخدمات المقدمة وتردي الطعام كما ونوعا، وانعدام الزيارات العائلية أو الاتصالات الهاتفية، فيما كان يُسمح لنا أحيانا بالمراسلة عبر الصليب الأحمر، وهذا مُخالف للقانون الدولي .

لقد بات "الاعتقال الإداري" ممارسة ممنهجة وجزءاً ثابتاً من السياسة الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين، وطال كل الفئات العمرية والاجتماعية: ذكوراً وإناثاً، رجالاً وشيوخاً وأطفالاً، مرضى وأصحّاء. كما ولم يقتصر استخدامه بحق المعتقلين الجدد، إنما لجأت إليه سلطات الاحتلال ضد كل من لم تُثبت إدانته في غرف التحقيق، وأحياناً بعد قضاء المعتقل لفترة محكوميته، أو بعد خروجه من السجن بوقت قصير. وفي أحيان أخرى استخدمت سيف التهديد بإحالة المعتقل للاعتقال الإداري بهدف الضغط والابتزاز أو لغرض المساومة.

لقد دفع هذا الواقع المرير المعتقلين الإداريين إلى اللجوء لخطوات احتجاجية عديدة، جماعية وفردية، للتعبير عن رفضهم لهذا الشكل من الاعتقال التعسفي، في ظل صمت المؤسسات الدولية وعجز المؤسسات الحقوقية، ومن بين تلك الخطوات كان "الاضراب عن الطعام"، وخلال العام المنصرم خاض نحو (60) معتقلاً اضرابات عن الطعام، جلهم كان اضرابهم رفضاً للاعتقال الإداري، وحتى كتابة هذه السطور، كان ما يزال هناك من بين المعتقلين الاداريين من يخوض اضرابا فردياً عن الطعام، رفضا للاعتقال الإداري، فيما ما يزال المعتقلون الإداريون يقاطعون المحاكم الإسرائيلية في خطوة احتجاجية جماعية بدأوها في الأول من يناير من العام الجاري، احتجاجاً على استمرار سياسة الاعتقال الإداري.

لقد أحدثت تلك الخطوة حراكاً تفاعلياً وضجيجاً مسموعاً وشكّلت بداية مهمة في مواجهة الاعتقال الإداري، فيما اليوم هي بحاجة إلى إعادة تقييم؛ فالاستمرار في المقاطعة وتعداد الأيام والشهور دون خطوات أخرى قد لا يغير في الواقع شيئاً، وإن بقيت على هذا الحال فإنها ستصبح أمراً مألوفاً وطبيعياً، ليس لإدارة السجون الإسرائيلية فحسب، إنما كذلك للمتابعين والمتضامنين خارج السجون، ومع مرور الوقت فإنها ستفقد الأهمية التي اكتسبتها في البداية.

ولعل الأرقام الصادرة عن المؤسسات المعنية، تؤكد بأن استمرار خطوة المقاطعة، وحدها ودون مساندة، لم تؤثر على سلطات الاحتلال، ولن يؤدي إلى التغيير المأمول أو على الأقل تقليص قرارات الاعتقال الإداري، فالواقع يُشير إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي ماضية في سلوكها المخالف للقانون الدولي دون اكتراث، بل وصعّدت من اعتقالاتها الإدارية وقرارات التجديد، وقد أصدرت منذ مطلع العام الجاري، -أي منذ مقاطعة المحاكم- ولغاية منتصف نيسان/ابريل 2022 نحو (540) قرار بالاعتقال الإداري، وهذا يشكل زيادة كبيرة قدرها  65% عما سُجل خلال نفس الفترة من العام الماضي. هذا بالإضافة إلى أن العدد الإجمالي للمعتقلين الإداريين كان (500) معتقل في الأول من يناير الماضي، وقد ارتفع ووصل اليوم إلى (650) معتقل إداري، وفقا لهيئة شؤون الأسرى!.

وهنا لابد من خطوات إضافية للبناء تراكمياً على ما تحقق على اثر مقاطعة المحاكم، والبحث عن أدوات جديدة ووسائل أكثر ضغطاً، واللجوء إلى فعاليات متدحرجة يشارك فيها الجميع بمن فيهم المعتقلون الإداريون كافة، دون إسقاط خيار الإضراب عن الطعام كفعل مقاوم، الذي أثبت جدواه في محطات عديدة، بالإضافة إلى تفعيل الحراك الرسمي والفصائلي والقانوني وعدم اقتصاره على الموسمية، وتكثيف الفعل الشعبي والجماهيري والإعلامي، والتحرك على المستوى العربي والدولي عبر توظيف الآليات الدولية واستغلال المنصات العربية، والتواصل مع المؤسسات ذات الصلة والاختصاص وتوسيع اللقاءات مع ممثلي المؤسسات واللجان والبرلمانيين، بهدف حشد الرأي العام، وفقاً لرؤية واضحة، ومنظومة متكاملة من الفعل التراكمي داخل وخارج السجون الإسرائيلية.

 

 

 

*عبد الناصر فروانة: أسير محرَّر، ومختص بشؤون الأسرى، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين، وعضو لجنة إدارة هيئة الأسرى في قطاع غزة.