جريدة المحور الإسبوعية – الجزائر - أوائل سبتمبر 2011-
حاورته آمال مرابطي
عبد الناصر عوني فروانة من مواليد 1967 ، أسير سابق وباحث مختص في شؤون الأسرى ، مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية ، أنشأ عام 2004 موقعا شخصيا ومختصا بشؤون الأسرى واسمه ( فلسطين خلف القضبان ) وهو موقع شخصي ومستقل ويدار بشكل فردي وتطوعي ، اعتقل أربع مرات ، ثلاث منها إعتقال اداري ، دون تهمة او محاكمة ، إجمالي مدة الإعتقال ست سنوات .. يتحدث في هذا الحوار عن تجربة السجن وما بعدها .
كيف تم اعتقالك وما التهم التي وجهت إليك؟
في المرات الأربعة تم اعتقالي من البيت وفي منتصف الليل وبحضور عدد كبير من الجنود وضباط المخابرات ، والتهم مقاومة الإحتلال و المشاركة في فعاليات مختلفة ضد وجوده وضد جنوده وعملائه وادواته المختلفة .
كيف كانت أساليب التحقيق وهل شهد ذلك تجاوزاً أخلاقياً؟
بالتأكيد .. ولا تزال التجربة مائلة أمامي ، ولقد عايشت أكثر من تجربة في التحقيق ، ولكن أقساها كانت في سبتمبر عام 1989م ، حيث مكثت في أقبية التحقيق وزنازينها القذرة الرطبة المعتمة قرابة مائة (100) يوم ، تعرضت خلالها لصنوف مختلفة وبشعة من التعذيب ، ومكثت في الثلاجة أيام وليالي طوال ولم أخرج منها إلا لجولات التحقيق ، ولا زالت صور المحقق وهو يستمتع بتعذيبنا ماثلة أمامي ، كما ولا زالت أحداث استشهاد الأسيرين خالد الشيخ علي وجمال ابو شرخ في تلك الفترة جراء التعذيب عالقة في ذهني ، وصراحة لا يمكن وصف تلك الفترة المؤلمة ومعاناتها القاسية ، فالشخص منا كان يتمنى ويفضل الموت مرة واحدة ، على أن يموت مرات ومرات .
وحينما أستذكر تلك الفترة أشعر بالألم ، وينمو لدىّ شعور الإنتقام ، ليس من المحققين فحسب ، بل مِمَن أعطوهم الأوامر ومنحوهم الشرعية والحصانة القضائية وكفلوا لهم الحماية ، وأشعر بالحزن لأن هناك الآلاف من الأسرى لا زالوا يعذبون في سجون الإحتلال ، أشعر بالخجل لأن شعبهم الفلسطيني بكافة مؤسساته وفصائله لم يتمكن من إنقاذهم ووضع حد لتعذيبهم ، كما لم يتمكن من ملاحقة مجرميه ولو مرة واحدة .
وأجهزة الأمن الإسرائيلي، مارست ضد الأسرى أكثر من ثمانين شكلاً جسدياً ونفسياً منها: الضرب، الوضع في الثلاجة، الشبح، الهز العنيف، الوقوف فترة طويلة، الحرمان من النوم، الحرمان من الأكل، العزل، الضغط على الخصيتين، تكسير الضلوع، الضرب على الجروح، اعتقال الأقارب وتعذيبهم أمام المعتقل، البصق في الوجه، التكبيل على شكل موزة، الضرب على المعدة وعلى مؤخرة الرأس . . إلخ..
فيما الإحصائيات الرسمية تفيد بأن هناك تلازماً ما بين الاعتقالات والتعذيب ، وأن جميع من مروا بتجربة الاعتقال قد تعرضوا لأحد أشكال التعذيب النفسي والإيذاء المعنوي أو الجسدي أو الإهانة أمام الجمهور و أفراد العائلة ،فيما الغالبية تعرضوا لأكثر من شكل من أشكال التعذيب ، بهدف تحطيم سلامة وشخصية المعتقل وهدم الذات الفلسطينية والوطنية و تدمير الإنسان جسداً و إرادةً وروحاً ، وتحطيم شخصيته وتغيير سلوكه ونمط تفكيره ليصبح عالة على أسرته ومجتمعه.
وخلال الخمس سنوات الأخيرة أصبح تعذيب المعتقلين ليس فقط لمجرد انتزاع اعترافات منهم وإنما من أجل إذلالهم والحط من كرامتهم وإنسانيتهم، وأن ذلك ظهر جليا من خلال الصور الني نشرها جنود ومجندات اسرائيليين مع معتقلين مكبلين ومعصوبي الأعين وفي أوضاع مهينة جدا، وان جنود الاحتلال يفخرون ويستمتعون بهذه المشاهد وهذه الأعمال.
واستخدم الجنود والمحققين أساليب لا أخلاقية وجنسية في التحقيق مع الأسرى خاصة الأطفال من خلال تعريتهم والتحرش الجنسي بهم وتهديديهم بالاغتصاب، وتعامل الجنود مع 90 % من الأطفال بطريقة عنيفة جدا بضربهم والتنكيل بهم، بينما وصلت محاولات تهديدهم جنسيا الى 16% من حالات اعتقال الأطفال.
فيما تحولت المستوطنات لمراكز للتعذيب والإبتزاز والمساومة لا سيما مع الأطفال وهذه شكلت ظاهرة في الأعوام الأخيرة .
وباختصار فان التعذيب داخل السجون والمعتقلات الإسرائيلية يمارس على نطاق واسع وبشكل ممنهج ومدروس دون تمييز ، فالأطفال لم تشفع لهم طفولتهم البريئة ولا النساء أنوثتهم ، و شّكل التعذيب نهجاً وممارسةً مؤسسيةً ، و أصبح جزءاً لا يتجزأ من معاملة المعتقلين ، وتعددت أشكال التعذيب و تجاوزت الثمانين شكلاً (الجسدية و النفسية ) بهدف هدم الذات الفلسطينية والوطنية و تدمير الإنسان جسداً و إرادةً وروحاً ، وتحطيم شخصيته وتغيير سلوكه ونمط تفكيره ليصبح عالة على أسرته ومجتمعه ، ووحشية التعذيب لايمكن وصفها أبداً فهي تفوق بمرارتها ما يتخيله العقل وما يمكن أن يخطه القلم فالمعاناة وآثارها أكبر من أن توصف .
هل يمكن ان تعرفنا وبايجاز بالسجن ؟
الحديث لا يدور عن سجن واحد ، وانما عن قرابة عشرين سجنا ومعتقلا ومركز توقيف ، واعداد النزلاء فيها مختلفة من سجن لآخر ، ولم تعد هناك بقعة في فلسطين التاريخية إلاَّ وأن أقيم عليها سجن أو معتقل أو مركز توقيف، وغالبيتها العظمى تقع الآن في الأراضي التي احتلت عام 1948، ومنها ما يقع في أماكن خطرة وغير آمنة ومعرضة للحروب، كمعتقل النقب جنوب فلسطين والقريب من الحدود المصرية ومفاعل ديمونا وهذا يتنافى واتفاقية جنيف الرابعة في فصلها الثاني المادة (83): "لا يجوز للدولة الحاجزة أن تقيم المعتقلات في مناطق معرضة بشكل خاص لأخطار الحرب" وأيضاً المادة 49 من القسم الثالث من ذات الاتفاقية " يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه".
وبشكل عام فان هناك ما نطلق عليها السجون كسجون نفحة وعسقلان وريمون وشطة وجلبوع وهشارون والدامون وبئر السبع ... الخ وهي عبارة عن مبان أسمنتية قديمة بالية تآكلت بفعل عوامل التعرية وسوء الصيانة، والغرف معتمة باستثناء نافذة صغيرة جداً هي نافذة القضبان الحديدية وشبكة من الأسلاك الحديدية، والغرف تفتقر للهواء اللازم للتنفس بسبب الإزدحام وحشر العشرات في غرفة واحدة ، وبعض تلك السجون تم تشييدها حديثا وبظروف قاسية .
أما المعتقلات كالنقب وعوفر ومجدو فهي عبارة عن معسكرات اعتقال منتشرة فيها الخيام، وكل مجموعة من الخيام تشكل قسماً يحيطه السياج والحراس المدججون بالسلاح من كل جوانبه وهي أشبه بمعسكرات الاعتقال في عهد النازية، مع إضافة ما ابتكرته العقلية الإسرائيلية من قمع وإذلال.
ولا اجد ان هناك فرقا من حيث الجوهر والمعاملة ما بين الأسرى في هذا السجن وذاك المعتقل، فجميعها تشهد ظروفاً سيئة متشابهة، كما لم تفرق سلطات الاحتلال في معاملتها ما بين المعتقلين من حيث الجنس أو العمر أو الشريحة، أو ما بين معتقل جديد وآخر قديم ، فالكل سواسية أمام شواخص استهدافهم ، وجميعهم يتعرضون منذ اللحظة الأولى لاعتقالهم لأصناف مختلفة من التنكيل والتعذيب، ويتلقون طعاماً سيئاً للغاية، كماً ونوعاً، ويفتقر لعناصر التغذية الأساسية، والمياه الساخنة شحيحة وكذلك أدوات ومواد التنظيف، وبالتالي تنتشر الحشرات والأمراض الجلدية بكثافة ... والخلاصة .. تعددت الأسماء والسجون واحدة .
كيف ترى السجان الصهيوني ؟
القسوة والإهانة والتفنن في اذلال الأسرى والإستمتاع بتعذيبهم وايلامهم هي سمات أساسية لدى السجانين في تعاملهم مع الأسرى، وهم وبدون مبالغة أناس مجردين من الضمير الإنساني ومن كافة المشاعر الإنسانية والأخلاقية ، وهم عصبيون وليسوا أصحاء نفسياً ، ويعتبرون أن كل معتقل هو مشروع قنبلة موقوتة وهو عدو لهم ، وبالتالي يجيزون لأنفسهم ممارسة كل الأساليب الدموية واللاإنسانية ، ويسعون دائماً لإبتكار أبشع الأساليب لإلحاق الألم والأذى بالمعتقلين ، وأحياناً يمارسون ذلك لمجرد التسلية والإستمتاع والتباهي فيما بينهم ، ويضحكون ويبتسمون وهم يراقبون عذاب وآلام المعتقلين ، وما يساعدهم ويشجعهم على ذلك هو غياب الملاحقة القانونية وعدم تقديمهم للعدالة وشعورهم بأنهم لن يحاسبوا على أفعالهم هذه ، كما لم يسبق أن قدم أي سجان أو محقق للمحاكمة على جرائم اقترفها داخل السجون ، بل بالعكس هناك من المحققيين مَن تمت ترقيتهم " تقديراً " لممارساتهم مع المعتقلين .
هل سبق تواجدكم في معتقل آخر قبل أن يتم ترحيلك إلى سجن ....؟
لقد عشت في مراكز توقيف ومعتقلات وفي سجون مركزية ... وصراحة اوضاع السجون افضل حالا من المعتقلات ومراكز التوقيف في بعض الجوانب الحياتية ، ...
من خلال نقل الأسرى المتكرر بين السجون ، ما هو هدف إدارة السجون من ذلك؟
هناك اهداف كثيرة ، أبرزها خلق حالة من اللا استقرار في السجون ، وثانيهما ابعاد القيادات وذوي التجارب السابقة والحد من تأثيرهم على الأسرى الآخرين والأسرى الجدد ، وثالثهما للضغط على الأسرى لإجبارهم على التعاطي الإيجابي مع توجيهات واوامر ادارة السجون ، ورابعا تأتي التنقلات كجراء عقابي انتقامي من الأسير وتعذيب اهله حيث يتم نقله الى سجن أبعد بكثير من الأول عن مكان سكن عائلته مما يفاقم من معاناتهم يوم الزيارة .
هل لك أن تصف لنا حالة المعتقلين الفلسطينيين في سجون المحتل ؟ و كيف يقضى الأسرى أيامهم داخل السجن؟
بالنسبة للأوضاع العامة فهي سيئة للغاية والهجمة بحقهم تصاعدت في الآونة الأخيرة بشكل غير مسبوق وبتعليمات من رأس الهرم السياسي ومشاركة كل مركبات النظام السياسي الإسرائيلي مما منح الإنتهاكات والجرائم التي ترتكب بحقهم تشريعا قانونيا ، وحصانة قضائية لمقترفيه وهنا تكمن الخطورة وهذا ما يفسر تزايد الإنتهاكات وتصاعدها في الآونة الأخيرة .
وعلى الجانب الآخر وبالرغم مما ذكرناه آنفا ورغم مرارة
السجن وقسوة ظروفه وقساوة سجانيه؛ فإنّ حياة الأسر، وبكل صدق؛ هي حياة نادرة، أقرب
للنموذجية فيما يتعلق بالعلاقات الداخلية والتوحّد تجاه إدارة السجن.
فرغم الاختلافات السياسية والتنظيمية والفكرية استطاع الأسرى أن ينسجوا فيما بينهم
شبكة من العلاقات الوطنية، وأن يجسِّدوا أروع صور التلاحم والوحدة الوطنية، وشيّدوا
بتكاتفهم وتماسكهم وتعاضدهم ووحدة مواقفهم ونضالاتهم مجتمعاً صغيراً مثالياً
نموذجياً في الانضباط، ورائعاً في الوحدة والمساواة والتعاون والتكافل الأُسَري،
مجتمع لا زلنا نحلم بتشييده وأن يكون قائماً خارج السجن.
مجتمع له لغته
المميزة، وتعبيراته الخاصّة، ومفرداته الحصرية، وأنظمة حياتية متميِّزة، وزيارات
اجتماعية داخلية، وبرامج ثقافية ثابتة متعدِّدة الأشكال، وعادات أكثر من رائعة،
وبرامج إدارية داخلية يحتكم إليها الجميع داخل السجن.
هل قابلت قيادات داخل السجون خلال فترة اعتقالك ؟
نعم
وعايشتهم لفترات طويلة في غرفة واحدة وكانوا نماذج تُحتذى في العمل والنشاط
والمواجهة وصلابة الإرادة والمعنويات ، وخلال فترة اعتقالي تعرفت على قيادات كثيرة
،
وبالمناسبة منهم من رحلوا ولكن لا زالت أسمائهم راسخة في ذاكرتي ،
وكلماتهم عالقة في ذهني ، وهي تدفعني للعمل وتعزز انتمائي لقضية الأسرى فعلى سبيل
المثال لا الحصر : كنت قد إلتقيت ذات مرة وعلى شبك الزيارة خلال زيارتي لوالدي في
سجن
بئر السبع بالشهيد الأسير ( اسحق مراغة ) ، وقال لي آنذاك " قريباً ستزول
القضبان وستُهدم السجون وسنتحرر أنا وأبوك
" ..
تخيلي وانتبه جيداً .. في السادس
عشر
من نوفمبر عام 1983 استشهد الأسير مراغة في السجن ، واليوم وبعد قرابة ثمانية
وعشرين عاماً مرت على كلماته ماذا حصل ؟ الأسير مراغة رحل وهو في السجن ، ولم يرحل
السجان ولم تُهدم السجون ..؟
هذه
من البصمات الكبيرة في حياتي التي تدفعني
دائما للعمل من أجلهم ومن أجل حريتهم كي يعودوا سيرا على الأقدام كما أقتيدوا ،
وليس في توابيت الموت
.
أطباء
صهاينة يخضعون الأسرى لتجاربهم الطبية ؟ كأسير سابق نريد تفسيرا ورأيك حول هذه
النقطة.
هذا صحيح .. ونحن لا نتجنى على أحد ولا ندعي ذلك باطلا ، فان ما كشف عن ذلك هي مصادر اسرائيلية ، وهي عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس لجنة العلوم البرلمانية الإسرائيلية سابقاً "داليا ايزيك" وذلك في تموز 1997وكشفت النقاب عن وجود ألف تجربة لأدوية خطيرة تحت الاختبار الطبي تجري سنوياً على أجساد الأسرى الفلسطينيين والعرب، وأضافت في حينه أن بين يديها وفي حيازة مكتبها ألف تصريح منفصل من وزارة الصحة الإسرائيلية لشركات الأدوية الإسرائيلية الكبرى لإجراء تلك التجارب .
وفي السياق ذاته أكدت " أمي لفتات " رئيس شعبة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية أمام الكنيست في ذات الجلسة، ما كشفت عنه " داليا ايزيك " مضيفة الى أن هناك زيادة سنوية قدرها ( 15% ) في حجم التصريحات التي تمنحها وزارتها لإجراء المزيد من تجارب الأدوية الخطيرة على الفلسطينيين والعرب في السجون الإسرائيلية كل عام.
بمعنى إذا كان الحديث يدور عن ألف تجربة قبل ثلاثة عشر سنة ، وزيادة مقدارها 15 % سنوياً، فاليوم يدور الحديث عن أكثر من ( خمسة آلاف ) تجربة سنوياً، لاسيما وأن سلطات الإحتلال لم تنفِ ذلك ، ولم تعلن توقفها عن ذلك ، والإعتقاد السائد بأن تجارب الأدوية مستمر ، ولربما هذا ما يفسر تدهور الوضع الصحي للأسرى باضطراد وظهور أمراض غريبة بين أوساط الأسرى وافتراس السرطان والأمراض الخطيرة لبعض أجسادهم داخل السجون أو بعد تحررهم ، وتزايد اعداد الأسرى المصابين بالسرطان في سجون الإحتلال .