في ذكرى رحيلك ابا نضال الجيش

 

بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

أسير محرر وكاتب مختص بشؤون الأسرى

 31-7-2019

 

كنت صغير السن يوم أن رأيته أسيراً خلف قضبان سجن عسقلان الإسرائيلي. كان ذلك أوائل ثمانينات القرن الماضي. فعرفته فدائياً. وسمعته يردد على مسامعنا مفردات الثورة الفلسطينية ويحثنا على مقاومة الاحتلال. فازددت معرفة به. كان ثائراً رغم السجن. وضاحكاً ومبتسماً رغم وجع القيد وألم السجن وقسوة السجان.  ومنذ أن عرفته لم أنقطع عن التواصل معه. فالتقيته كثيراً وجالسته مراراً. داخل السجن وخارجه. وازددت فخراً واعتزازاً به، واعجاباً بصدق انتمائه وشدة وفائه لرفاقه وأبناء شعبه. انه الراحل المناضل والأسير المحرر/ حاتم الجيش "ابا نضال".

 

وقبل رحيله بيومين، جاءنا زائراً الى البيت. وجلسنا سوياً بحضرة الوالد، رفيقه في الأسر لسنوات طويلة. واستحضرا معاً واستحضرنا جميعا ذكريات كثيرة ومحطات عديدة على مدار سنوات طويلة. وضحكنا سوياً كثيراً، وتعالت صيحات ضحكاته المعهودة. وكأنه جاء ليودعنا. فكان خبر وفاته في الثلاثين من تموز/يوليو عام 2016، مفاجئاً وصادماً لنا، ورحيله كان موجعاً وقاسياً. ليس لنا فقط، أو لرفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فحسب، وانما لكل من عرفه وعايشه من أبناء شعبنا على اختلاف انتماءاتهم، السياسية والفكرية والتنظيمية.

 

ولد الراحل/ حاتم روبين على الجيش في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة في الحادي عشر من تموز/يوليو عام 1956، لأسرة فلسطينية مناضلة، فقيرة وكادحة، تتكون من 11فرداً، ذكوراً واناثاً، انخرط معظمهم في مقاومة المحتل واعتقل بعضهم لفترات متفاوتة، وتنحدر أصولها من مدينة اللد، وهي تُعتبر من أكبر وأقدم المدن الفلسطينية التاريخية، وتقع على بعد 38كم شمال غرب القدس.

نشأ وترعرع بين أزقة مخيم الشاطئ، وتلقى تعليمه الأساسي بمدارس وكالة الغوث للاجئين، وعاش في المخيم حياة القهر والبؤس، وتشرب حكايات التشرد واللجوء، وأحلام بالعودة الى ديار الآباء والأجداد التي هُجروا منها عقب النكبة عام 1948.

فكان للمخيم وقعاً كبيراً على توجهاته ورسم ملامح مسيرته المستقبلية. اذ آمن ومنذ الصغر أن على الانسان أن لا يلعن الظروف، وانما عليه أن يسعى كي يصنع ظروفا تليق به وبإنسانيته وكما هو يريدها. وهذا لن يتأتى إلا بكثير من النضالات والتضحيات. فشارك في التظاهرات المدرسية والأنشطة والفعاليات الجماهيرية المناهضة للاحتلال والرافضة لوجوده والمطالبة برحيله. فبرز عقب "النكسة" عام 1967، ناشطا ومحرضا، رغم صغر سنه وضعف بنيته الجسدية.

 

 ومع مرور الوقت وبروز العمل الفدائي شبه العلني في قطاع غزة وتزايد عمليات المقاومة الفلسطينية المسلحة واتساع ظاهرة الفدائيين  والمطاردين، ظهر الفقيد مساعداً للمطاردين وعنصراً مهماً في مجموعات الرصد الثوري ومراقبة تحركات قوات الاحتلال. فأقترب من فدائيي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، فأحبهم وأحبوه، وأعجب ببطولاتهم الخارقة، وهم أعجبوا بشجاعته وصدق انتمائه وحسه الوطني. فانتمى باكراً الى مدرسة الثورة والتحق بمجموعات الجبهة الشعبية وبدأ نشاطه في اطارها قبل ان يبلغ الخامسة عشر من عمره.

كان صغير السن كبير الفعل، جريئا ومندفعا، نفذ الكثير من عمليات إلقاء القنابل اليدوية باتجاه دوريات الاحتلال، وعلى إثرها تم اعتقاله في الثالث من نيسان/ابريل عام 1971، وبالرغم من أنه لم يكن قد بلغ الخامسة عشر من عمره، إلا انه لم يَبُح بأسرار رفاقه.

تعرض الفقيد أثناء اعتقاله في زنازين سجن غزة المركزي وأقبية التحقيق لصنوف مختلفة من التعذيب، الجسدي والنفسي، دون مراعاة لصغر سنه. كما ولم تحترم المحكمة العسكرية مبادئ المحاكمة العادلة في تعاملها معه ومع أطفال فلسطين عموما، فأصدرت بحقه، وخلال احدى جلساتها، حكما بالسجن الفعلي المؤبد "مدى الحياة"، لتؤكد على أن تاريخ القضاء الإسرائيلي قوامه الظلم وشرعنة هدم حياة ومستقبل الشعب الفلسطيني.

 

انتقل الى سجن عسقلان، وواصل تعليمه هناك وحصل على الثانوية العامة داخل السجن، وبعد قليل من الوقت واكتساب كثير من الخبرة غدى واحداً من المسؤولين. ومثّل خلال فترة سجنه حالة نضالية متقدمة على الرغم من صغر سنه، وتمتع داخل الأسر بعلاقات رفاقية ووطنية متميزة، فأحبه الجميع. وعاش سنوات طويلة خلف القضبان امتدت لأربعة عشر سنة ونيف، كانت حافلة بالعطاء، قبل أن يتحرر ضمن صفقة التبادل الشهيرة بين الجهة الشعبية-القيادة العامة وحكومة الاحتلال، والتي أطلق عليها "عملية الجليل". كان هذا في العشرين من آيار/مايو عام 1985.

 

خرج من السجن أكثر ثباتاً على المبادئ، وأكثر اصرارا على مواصلة النضال صوب تحقيق الأهداف الوطنية، فمضى في طريقه واستمر في نضاله، فكان له دورا بارزا في قيادة وتوجيه عددا من منظمات الجبهة الشعبية في مناطق مختلفة من قطاع غزة. وكان ناشطا ومؤثرا خلال انتفاضة الحجارة عام 1987، فاعتقلته سلطات الاحتلال في الخامس عشر من آذار/مارس عام1989 وزجت به في معتقل النقب الصحراوي، رهن "الاعتقال الإداري"، ليقضي بين جدرانه الشاهقة والأسلاك الشائكة، تسعة شهور، بلا تهمة أو محاكمة. كما واعتقلته اداريا للمرة الثانية في ايلول/سبتمبر عام 1991 ولمدة سنة كاملة.

 

وفي كل مرة كان يتحرر فيها من السجن كان يخرج أكثر قوة واندفاعا، وكان سريع الالتحاق بقطار العطاء ومسيرة العمل المقاوم، وكأنه يؤكد من جديد على أن السجن لم ولن يكون المحطة الأخيرة في حياة مناضل آمن في حقه وحق شعبه ووطنه بالحرية وحياة كريمة.

 

تزوج أبا نضال في الحادي عشر من نيسان/ابريل عام 1986 وأنجب أربعة أبناء وهم: (نضال، محمد، لواء، أمير)، وابنة اسمها (إسراء)، وواصل تعليمه والتحق بعدة دورات تعليميه وحصل على دبلوم صحافة واعلام. كما وحرص على تعليم أبنائه. فتخرج "نضال" من كلية الشرطة بجمهورية مصر العربية، و"محمد" من كلية الحقوق بالجزائر، و"لواء" طبيب من أوكرانيا، و"أمير" ما زال يدرس الطب في مصر وفي المراحل الأخيرة. أما "اسراء" فأنهت "آداب انجليزي".

 

  وبعد انشاء السلطة الوطنية منتصف تسعينيات القرن الماضي عمل ضابطا في جهاز "الأمن الوقائي" منذ تأسيسه، وسافر ضمن بعثات عدة الى فرنسا ومصر والسعودية وشارك في العديد من الدورات العسكرية والأمنية. وتقاعد برتبة "عقيد". وكان من اشد المنتميين لقضية الأسرى والمحررين، ومن المدافعين عنها والأوفياء إليها، وانتخب عضوا في مجلس ادارة جمعية الأسرى والمحررين، وشارك في كثير من الفعاليات والأنشطة التي نظمت دعما واسنادا للأسرى وقضاياهم العادلة.

 

وفي الثلاثين من تموز/يوليو عام 2016، كان الخبر المفجع، وكان "ابا نضال" على موعد مع الموت. وكم هو الموت موجع للأحياء، وكم أوجعنا رحيلك "أبا نضال"، الإنسان والثائر. الأخ والرفيق، الأسير والمكافح. المخلص والوفي. المبتسم الضاحك. إنا نفتقدك بشدة، ونتذكرك دوماً، ونستحضر سيرتك دائماً. وضحكاتك لن تُنسى وابتساماتك لا تغيب عن بالنا. فأنت حاضر بيننا رغم الغياب، وباق معنا رغم الرحيل. وهل يغيب الثوار ويرحل عظماء الزمن الثوري الجميل ؟.

 

حاتم الجيش.. اسمك حُفر في قلوبنا، ونُقش على صدورنا، وذكراك عنا لن تغيب