أنيس دولة: الشهيد الأسير الذي ما زال الاحتلال يخشى ظهوره

 

 

*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

31 أغسطس2020

 

أبطال لم يؤلمهم السجن، وشهداء لم يوجعهم الموت، بل أوجع دولة ما زالت تخافهم وهم مقيدي الأيادي وبين جدران شاهقة خلف الشمس، بل إنها تخافهم وهم أموات تحت التراب. هذا ما حصل مع الأسير أنيس دولة، وهذا ما يحصل مع آلاف الشهداء والأسرى. فدولة كهذه لا يمكن أن تهزم شعبِ ما زال يقاوم المحتل ويقدم الشهداء والأسرى على مذابح الحرية.

أنيس محمود دولة: اسم لفلسطيني أعتقل في الثلاثين من حزيران/يونيو عام 1968، وسقط شهيدا في سجن عسقلان الإسرائيلي بتاريخ 31آب/أغسطس 1980، وما زالت سلطات الاحتلال الإسرائيلي تُصر على احتجاز جثمانه، فتُبقيه أسيراً لديها، وترفض الاعتراف أو الاعلان عن مكان احتجازه، فهي تخافه وهو تحت التراب، وتخشى ظهوره حتى وان كان جثة هامدة.

أنيس دولة: فلسطيني من مدينة قلقيلية ومن مواليد 1944، وينحدر من عائلة مناضلة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني، يعتبر من الأوائل الذين انتموا لصفوف الثورة الفلسطينية من خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليتحمل مع الرعيل الأول عبء المطاردة والملاحقة ومهام التموين والتزويد بالسلاح، كما وشارك في العديد من العمليات الفدائية، الى ان اعتقل في الثلاثين من حزيران/يونيو عام 1968 بعد اشتباك غير متكافئ مع قوات الاحتلال، وتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، وحكم عليه بالسجن الفعلي المؤبد (مدى الحياة). وبعد اعتقاله بفترة وجيزة انشقت الجبهة الديمقراطية عن الشعبية ليعلن انضمامه للجبهة الديمقراطية منذ انطلاقتها في 22 فبراير/شباط 1969 حتى استشهاده.

ومنذ اللحظات الأولى لاعتقاله تأقلم مع إخوانه ورفاقه، وتكيف مع الواقع المرير في السجون بحثا عن أشكال جديدة للنضال في ساحة جديدة كما اعتبرها، فمارس دوره النضالي والوطني من أجل التغيير والتطوير وانتزاع الحقوق الإنسانية الأساسية. فأجاد استغلال الوقت في تطوير ذاته والارتقاء بإمكانياته، والتأثير على من هم حوله بأفكاره الثورية وتطلعاته المشروعة، فأثر وتأثر، هكذا هو حال السجن، ونسج علاقات واسعة مع الجميع على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والتنظيمية، وشاركهم الحياة بكل معانيها وهمومها، ولم يتخلف عن مشاركتهم في الخطوات النضالية والإضراب عن الطعام، وما تُسمى "معارك الأمعاء الخاوية" بالرغم من الضعف الجسدي وما كان يعانيه من أمراض لا سيما مرض القلب، فاشترك في إضراب عسقلان الشهير أواخر عام 1976 حتى بدايات عام 1977 لمدة شهرين تقريبا على فترتين تفصلهما أيام معدودة، مما تسبب له بالعديد من الأمراض تحولت مع الوقت لأمراض مزمنة سببت له العديد من الآلام والمشاكل الصحية.

وفي تموز عام 1980 انطلق إضراب نفحة الشهير ذوداً عن الكرامة ومن أجل تحسين شروط الحياة الإعتقالية، ولاحقاً هبَّت السجون دعما واسناداً وتضامناً، وعلى الرغم من مرضه وآلامه المتفاقمة، ومحاولة إخوانه الأسرى ثنيه عن المشاركة، إلا انه أصّرَ على المشاركة في الإضراب في سجن عسقلان، رافضاً استبعاده أو استثنائه. فتدهورت أوضاعه الصحية أكثر وتضاعفت آلامه وحاول مسؤول عيادة السجن مساومته بفك الإضراب مقابل إعطائه العلاج، ولكنه رفض المساومة، وأصر على مواصلة المعركة والالتصاق بإخوانه بكل كبرياء وشموخ رغم إدراكه وإحساسه بأنه يعد أيامه الأخيرة، إلا أنه فضل الموت وقوفا كالأشجار . فتعمدت إدارة السجن تجاهله والإبطاء في تقديم الرعاية الطبية له، كما لم تُبذلُ أي جهد يذكر بهدف إنقاذ حياته، الى أن فارق الحياة بعدما شعر بوخزة في الصدر فسقط متكئا على جدار باحة سجن عسقلان بتاريخ 31 اعسطس1980، لتنقله جثة هامدة إلى قبر مجهول لا يُعرف عنه شيئا.

أنيس دولة .. لم تكتفِ سلطات الاحتلال بما أمضاه من سنوات طويلة في سجونها وهو حي يعاني المرض والألم، وإنما أصرت على الانتقام منه حتى بعد مماته، واستمرت باحتجاز جثمانه في جوف الأرض داخل ما يُعرف بـ "مقابر الأرقام" منذ أن ارتقى شهيدا قبل أربعة عقود، وترفض تسليم جثمانه لعائلته وتصر على معاقبته ميتا مثلما عاقبته بالمؤبد حيا، وتحاول يائسة باحتجاز جثمانه أن تحتجز قصته وتاريخه وبطولاته وسيرته النضالية.

أنيس دولة .. اسم معلوم لنا، له بيت وعائلة، ذكريات وتاريخ، اسم حفر في وجداننا واستحوذ على اهتماماتنا واحتل مساحة في قلوبنا وعقولنا. اسم حفظناه عن ظهر قلب ورددناه كثيراً بفخر وعزة، وستردده ألسنتنا وألسنة الأجيال القادمة حتى وان اختفت آثار جثمانه كما تدعي سلطات الاحتلال.

ومازالت دولت الاحتلال تحتجز مئات الجثامين لشهداء فلسطينيين وعرب سقطوا في مواقع وأوقات مختلفة، وهي الوحيدة في العالم التي تعاقب الشهداء بعد موتهم وتحتجز جثمانهم، وتتعمد تعذيب وإيذاء ذويهم كعقاب جماعي، وتحرمهم من إكرام أبنائهم الشهداء ودفنهم وفقاً للشريعة الإسلامية. الأمر الذي يعتبر جريمة أخلاقية وإنسانية ودينية وانتهاك فظ للمادة (17) من اتفاقية جنيف الأولى التي تكفل للموتى تكريمهم ودفنهم حسب تقاليدهم الدينية وأن تُحترم قبورهم.

 

أنيس ... حياً كنت أم جثة هامدة .. ستبقى في قلوبنا حيا لم ولن تموت أبداً ... وستبقى الشاهد على جرائمهم بحق الأسرى الأحياء في سجونهم المقامة فوق الأرض، والأسرى الأموات المحتجزة جثامينهم في جوفها في ما يُعرف بـ "مقابر الأرقام" .

 

*بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

اسير محرر ومختص بشؤون الأسرى والمحررين

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين

الموقع الشخصي: فلسطين خلف القضبان

www.palestinebehindbars.org