في زمن كورونا: واقع الأسرى ومتطلبات المرحلة

 

 

*بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

30-9-2020 

لا فرق بين "كورونا" والسجان الإسرائيلي، فكلاهما "فايروس" قاتل، يقتحم أقسام وغُرف الأسرى ويُهاجم أجسادهم ويُعذِب الإنسان ويؤذي النفس والجسد ويُمارس القمع والقهر ويقتل الروح. هكذا كان السجان دوماً، وهذا هو فايروس كورونا المستجد.

إن واقع الأسرى الفلسطينيين وخاصة الواقع الصحي وقبل زمن كورونا، هو بالأساس مأساوي، فلقد أجازت دولة الاحتلال لنفسها مخالفة اتفاقيتي جنيف، الثالثة والرابعة، وانتهاك المواثيق الدولية الأخرى، وتجاوزت كل القوانين والأعراف الإنسانية ومتطلبات المعايير الدولية في تعاملها معهم، ما داموا خاضعين للحجز وحيثما كان المكان.

وفي زمن "كورونا"، بقيت ظروف الاحتجاز على حالها.  حيث المعاملة القاسية والبيئة الملوثة والأماكن المغلقة والغرف المكتظة التي تفتقر إلى التهوية المناسبة. ومن الثابت أن إدارة السجون الإسرائيلية لم تتخذ أي وسيلة لحماية المحتجزين، حيث لم تُجرِ أية تحسينات على النظام الصحي أو الغذائي بما يساهم في تقوية الأسرى وتعزيز المناعة لديهم وخاصة المرضى منهم. كما ولم تتراجع عن سلوكها الشاذ في اقتحام أقسام وغرف الأسرى واستخدام القوة المفرطة بحقهم، ولم تُغير قواعد المعاملة وظروف التحقيق وأدوات التعذيب، أو تُخفض مستوى اجراءاتها التي تُنفذها يومياً بدواعي (الأمن)، دون مراعاة لخطورة الاحتكاك والمخالطة واحتمالية انتشار العدوى، فواصلت اهمالها واستهتارها وقمعها، ولم تسمح للمؤسسات المعنية بإدخال ما يمكن أن يساعد الأسرى في توفير الحماية من خطر العدوى والاصابة بالفايروس. بل ذهبت إلى ما هو أخطر، حينما صادرت عشرات أصناف المواد الغذائية وأدوات النظافة من مقصف السجن والتي كان يشتريها الأسرى على نفقتهم الخاصة، مما يؤكد على أنها تتعمد إلحاق الأذى بالأسرى، وغير مكترثة بما قد يصيبهم من خطر.

ان ذاك الخطر قد داهم الجدران بالفعل، وبات الفايروس ضيفاً ثقيلاً يتنقل بين السجون ويُهاجم أجساد الأسرى ويُؤذيها، فأصاب واحد وثلاثين أسيراً، حتى كتابة هذه السطور، جُلهم في سجن "عوفر"، وذلك وفقاً للرواية الإسرائيلية المشكوك فيها دوما وأبدا، ونخشى أن تكون الأرقام أكبر من ذلك، حيث  لدينا تجارب سابقة مع ادارة سجون الاحتلال، إذ كثيراً ما أخفت الملفات الطبية للأسرى، وفي مرات عديدة تكتمت على طبيعة الأمراض التي كان يعاني منها بعض المرضى ولم تُفصح عنها.

 

ان سلطات الاحتلال لم تكتفِ بذلك، وإنما سعت الى توظيف فايروس "كورونا" لمعاقبة الاسرى وذويهم ومفاقمة معاناتهم، وكأن التعذيب النفسي والجسدي والإهمال الطبي وتجويع المحجوزين لم يعد كافياً لإشباع نهمها الانتقامي وتنفيس حقدها، فصادرت وعبر إدارة السجون بعض الحقوق وفرضت اجراءات استثنائية بذريعة "كورونا"، والتي يُخشى ان تتحول الى قاعدة يحتاج تغييرها وإعادة الاوضاع الى ما كانت عليه قبل زمن "كورونا" إلى كثير من التضحيات والخطوات النضالية.

 

وأمام خطورة هذا الوضع وتدهور ظروف الاحتجاز وتردي الأوضاع الصحية، فإن التحديات تَكبر والصعوبات تتراكم، مما يستدعي التحرك الجاد والعاجل على أكثر من صعيد بما يضمن إنقاذ حياة الأسرى المرضى، وتوفير الحماية للآخرين كافة من وباء الاحتلال وفايروس السجان وجائحة "كورونا". ومن وجهة نظري فإن متطلبات المرحلة تتلخص بالتالي:

 

أولاً: ان الحالة الصحية التي يشهدها العالم جراء جائحة "كورونا" وحالة الحجر التي يعيشها الملايين من البشر في القارات المختلفة، كانت فرصة مهمة لكسر العزلة عن الأسرى والمعتقلين وتسلط الضوء على سوء الأوضاع الصحية وما يتعرضون له من معاملة لا إنسانية في أقسام وغرف الحجز. ومع ذلك ما زال أمامنا متسع من الوقت والمساحة الكافية لنجعل من الحجر المنزلي فرصة لاستشعار معاناة المحجوزين في سجون الاحتلال.

صحيح كان هناك الكثير من حملات التضامن التي أُطلقت خلال الشهور الأولى من انتشار جائحة "كورونا"، تضامنا مع الأسرى، ولا شك بأنها حققت مردودا ايجابيا في أوساط المحجورين، واستقطبت أعدادا كبيرة من المتضامنين، إقليميا ودوليا، ولكن يبقى السؤال: ماذا بعد؟. أظن أننا بأمس الحاجة إلى استثمار ومراكمة ما تحقق والبناء عليه كي نجعل من أولئك المتضامنين، أفراد ومؤسسات، معاول بناء، وليس مجرد توقيع لحظي أو تضامن عابر على هذه العريضة أو تلك المذكرة.    

 

ثانياً: الاستمرار في مطالبة منظمة الصحة العالمية ومنظمة الصليب الأحمر مع كثير من الضغط من أجل ضمان إرسال وفد طبي دولي محايد لزيارة السجون والاطلاع عن كثب على حقيقة الأوضاع الصحية وتوفير سُبل الوقاية والحماية للأسرى العُزّل من خطر الإصابة بفايروس "كورونا"، في ظل تزايد أعداد المصابين هناك.

 

ثالثا: لقد بات من الضرورة الانسانية تدخل المؤسسات الدولية وخاصة منظمة الصليب الاحمر من اجل توفير آليات للتواصل ما بين الاسرى وعائلاتهم في ظل توقف زيارات الاهل بذريعة "كورونا"، كي يطمئن كل طرف على الآخر في ظل تزايد القلق لدى الطرفين وخشية كل طرف على الآخر، مع ارتفاع أعداد المصابين بين صفوف الأسرى وداخل المجتمع الفلسطيني.

 

رابعاً: الاستمرار في المطالبة بالإفراج عن الأسيرات والأسرى المرضى وكبار السن والأطفال، باعتبارهم الفئات الأكثر عرضة لخطر الاصابة بفايروس "كورونا". خاصة وأن دول كثيرة أقدمت على مثل هكذا خطوة، بما فيها دولة الاحتلال التي سبق وأفرجت عن سجناء اسرائيليين في خطوة تعكس العنصرية والتمييز العنصري .

 

خامساً: ضرورة العمل، مع حث الأسرى على المساهمة، لتوثيق علمي وممنهج لكافة الأحداث في السجون وأسماء المصابين بالفايروس والاجراءات والتدابير المتخذة من قبل ادارة السجون والمعتقلات الاسرائيلية في زمن "كورونا". وكذلك الاجراءات التي كان من الواجب اتخاذها لحماية الأسرى من الفايروس. فهذا التوثيق سيدحض الرواية الاسرائيلية. حيث يُخشى أن تستغل سلطات الاحتلال تلك الاجراءات المحدودة التي أقدمت على تنفيذها في بعض السجون، وتقدمها وكأنها شاملة في محاولة جديدة لخداع الرأي العام والتحايل على المؤسسات الدولية.

 

 سادساً: من الأهمية بمكان استثمار انضمام دولة فلسطين للمؤسسات والاتفاقيات الدولية، وتوظيف كافة الأليات الاقليمية والدولية للضغط على المؤسسات الدولية لدفعها نحو تحمل مسؤولياتها والتحرك لتوفير الحماية الإنسانية والقانونية للأسرى والمعتقلين. هذا من جانب، ومن جانب آخر تفعيل أدوات المُساءلة والمحاسبة، والمضي بخطوات فعلية وجادة تُقربنا أكثر من المحاكم الدولية وخاصة محكمة الجنايات الدولية (لاهاي) والتي من الممكن أن تشكل رادعا للاحتلال وسجانيه. فان التوجه إلى محكمة الجنايات الدولية بات ضرورة ملحة، في ظل السعي الإسرائيلي لترسيخ ثقافة "الافلات من العقاب" لدى كل الإسرائيليين، واللجوء إلى تشريع "الجرائم" عبر اقرار مجموعة من القوانين. كما ومن الضرورة البحث عن أدوات أكثر وجعا وايلاما للاحتلال.

 

وفي الختام نُذكّر بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحتجز في سجونها ومعتقلاتها نحو أربعة آلاف وخمسمائة أسير فلسطيني، من بينهم مائة وأربعين طفلا، وواحد وأربعين فتاة وسيدة، ونحو ثلاثمائة وأربعين معتقلا اداريا، دون تهمة أو محاكمة. ومن بين الأسرى هناك المئات من المرضى وكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة. كل هؤلاء يتعرضون للقتل البطيئ، وهم بحاجة الى تحرك عاجل، ولا شك بأننا وغيرنا من الشركاء قد تواصلنا مع جهات عديدة وطرقنا أبواب مؤسسات دولية كثيرة وطالبنا الصليب الأحمر مرارا بتوفير آليات للتواصل ودعونا الآخرين بضرورة التحرك لحماية الأسرى من خطر "كورونا" والاستهتار الإسرائيلي. فهذه مسؤولية الكل الفلسطيني، وعلى جميع الأحرار في العالم ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان تحمل المسؤولية والتحرك قبل فوات الأوان والارتقاء بمستوى الفعل والآداء. 

 

عن المؤلف

*عبد الناصر فروانة، اسير محرر، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين وعضو المجلس الوطني الفلسطيني