" ابقوا على العهد " وصية كُتبت بالدماء ..
*بقلم / عبد الناصر فروانة
28 ابريل 2011
الأسرى ليسوا مجرد أرقام واحصائيات ، الأسرى قصص مريرة وحكايات طويلة ، ومآثر وبطولات عديدة تحتاج لأشهر الكتاب والشعراء والمؤرخين لتدوينها ، وروايات حقيقية تصلح لأن تكون سيناريوهات في سينما " هوليود " .
وعلى الرغم من أنني لست كاتباً أو شاعراً أو صحافياً ماهراً ، إلا أنني قررت الكتابة منذ زمن حول بعضها ، وقصة اليوم هي واحدة من تلك القصص التي حظيت بإعجابي الشديد ،وببطليها الأسيرين " أمير ذوقان " و" علام " كعبي " ، حيث سُطر أحد فصولها في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات ، حينما رفضا الاستسلام وكتبا وصيتهما بالدماء على الجدران " ابقوا على العهد ".
ولا شك بأنني أشعر بالاعتزاز للقائي بالثاني في الأسر وداخل خيام معتقل النقب الصحراوي عام 1993 ، فيما آمل أن ألتقي به ثانية وألتقي بالأول أيضاً ، ولكن خارج الأسر وهما محرران من القيد باذن الله .
أسيران تربيا سوياً بين أزقة وشوارع مخيم بلاطة في جبل النار " نابلس" ، وترعرعا على أنغام الثورة ونشيد الثوار ، فتوحدا في مقاومة الاحتلال واختلفا في اختيار الوسيلة ، فالأول انتمى لحركة فتح والثاني للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ، فيما سلاحهما بقىّ موحداً تجاه الاحتلال وأعوانه .
وجسدا معا أروع صور الوحدة الوطنية باعتبارها " شعار وممارسة " و سلاح الانتصار ، على قاعدة أن التناقض الرئيسي كان وسيبقى دائماً مع الاحتلال الإسرائيلي .
فبقيت فلسطين الوطن هي القاسم المشترك فيما بينهما ، والانتماء لها هو الأساس ، فناضلا وقاوما الاحتلال سويا ، ولم تشعر يوما بأن لكل واحد منهما اتجاه سياسي وانتماء حزبي مختلف ، حتى في الوقت الذي اشتدت فيه الخلافات السياسية ما بين فتح والجبهة الشعبية بعد اتفاق أوسلو .
ومع بداية انتفاضة الأقصى قاد " ذوقان " " كتائب شهداء الأقصى " الذراع العسكري لـ " حركة فتح " في نابلس، فيما قاد الثاني " كتائب أبو علي مصطفى " الذراع العسكري لـ " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " ، لكنهما توحدا في الميدان ووحدا سلاحهما المقاوم ، ونسقا فيما بينهما بما يخدم المقاومة ويحمي رجالها وشعبها ، وخاضا العديد من المواجهات المباشرة والمشتركة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي ليسطرا أروع صفحات الوحدة والصمود والبطولة .
ابقوا على العهد ... حروف كُتبت بالدم في مثل هذا اليوم
وفي مثل هذا اليوم من عام 2003 حاصرتهما قوات الاحتلال في بناية في أحد شوارع نابلس ، وعبر مكبرات الصوت طالبتهما بالاستسلام وتسليم أسلحتهما .. إلا أنهما رفضا وبشدة وفضلا خيار المواجهة والاستشهاد ( لا ) خيار الاستسلام ، رغم ادراكهما بأن المعركة غير متكافئة من الناحية العسكرية ، إلا أنهما أصرا على المقاومة حتى الرمق الأخير ، وأعلنا أن " الإستسلام ليس من شيمنا " ، فتحصنا خلف الجدار وصوبا أسلحتهما باتجاه الجنود المدججين بالسلاح وضغطا على الزناد ، واشتبكا طويلاً وخاضا معركة شرسة مع قوات الاحتلال المدججة بالسلام والمحاصرة للمكان ، واستطاعا أن يُلحقا خسائر بشرية بقوات الاحتلال وأصابا عدد من أفرادها وفقاً لاعترافات إسرائيلية ، ليرسما سويا صورة مشرقة للوحدة الوطنية الحقيقية والمقاومة الفلسطينية الباسلة والصمود الأسطوري والتضحية حتى الشهادة .
وبعد قرابة تسع ساعات من المواجهة والصمود نفذت ذخيرتهما وأصيبا بجروح ، لكنهما لم يرفعا الراية البيضاء ، وقبل أن تقتحم قوات الاحتلال المكان وتتمكن من إلقاء القبض عليهما ، خطّا وصيتهما بدمائهما النازفة على جدران البناية ( إبقوا على العهد … علام كعبي – أمير ذوقان ) .
فامتزجت دمائهما وخطت أروع الكلمات التي حُفرت في ذاكرتنا وستبقى محفورة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة و في التاريخ الفلسطيني لقادة أبطال ونماذج عظام تُحتذى ورموز لمقاومة باسلة صادقة وموحدة ضد الاحتلال ، في وقت يعاني فيه الشعب الفلسطيني من آثار الانقسام وتبعاته المدمرة ووحدته الممزقة .
الأسير " أمير صابر ذوقان " ( 37 عاماً ) اعتقل قبل ذلك مرتين وأمضى ما يقارب تسع سنوات ويعتبر الاعتقال هذا هو الثالث له ، وتعرض خلال اعتقاله لأبشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي وأمضى فترات طويلة في زنازين العزل الانفرادي ، ولا يزال يتعرض لممارسات وإجراءات انتقامية ويقبع الآن في سجن " هداريم " .
وأن كل أشقائه اعتقلوا وذاقوا مرارة الأسر ، فالشقيق الأكبر " شريف " اعتقل لمرة الأولى عام 1986 وكان في الصف السادس الإبتدائي وتتالت الاعتقالات لتصل ما مجموعه سبع مرات ، وأمضى قرابة سبع سنوات ونيف ، فيما ( عرابي ) لا يزال يقبع في السجن ويقضي حكماً بالسجن 18 عاماً .
أما الأسير " علام أحمد كعبي " ( 37 عاماً ) اعتقل خلال الانتفاضة الأولى عام 1990 لمدة أربع سنوات ونصف ، وكان عمره آنذاك قرابة 16 عاماً وفي العام 1997 اعتقل اداريا لأكثر من عام .
وبالرغم من اعتقاله وهو مصاب إلا أن إدارة السجون لم تراعِ ذلك ومارست بحقه أبشع أساليب التعذيب للانتقام منه ومن مواقفه ومما قام به ، وخلال فترة اعتقاله تعرض ولا يزال لإجراءات قمعية وللعزل الانفرادي .
و للأسير " علام " الذي يقبع في سجن نفحة الآن ، شقيق اسمه " هشام " يقبع في سجن آخر يُطلق عليه " جلبوع " ويقضي حكماً بالسجن المؤبد 4 مرات .
ويذكر بأن احدى المحكمة العسكرية الإسرائيلية كانت قد أصدرت قبل بضعة أعوام حكماً بالسجن المؤبد ست مرات وعشرين سنة أخرى على الأسير " أمير ذوقان " لمسؤوليته عن مقتل خمسة جنود إسرائيليين وجرح ثمانية آخرين في سلسلة عمليات ، بينما أصدرت حكماً بالسجن المؤبد تسع مرات وخمسة عشر عاماً بحق الأسير " علام كعبي " حيث اتهمته بالمسؤولية عن مقتل ثمانية إسرائيليين والتسبب في جرح سبعين آخرين بالإضافة إلى مسؤولية " ذوقان وكعبي " عن جرح ثلاثة جنود إسرائيليين أثناء الاشتباك المسلح الذي دار بينهما وبين الجنود عندما رفضا الإستسلام واشتبكا مع قوات الإحتلال .
واليوم ونحن نستحضر سيرتهما النضالية المشرقة ، فاننا نناشد آسري " شاليط " بادراج اسميهما وأسماء كافة رموز المقاومة القابعين في سجون الإحتلال الإسرائيلي ضمن صفقة تبادل الأسرى التي تدور المفاوضات حولها ، وفاءً من المقاومة لرموز المقاومة .. .
" ابقوا على العهد " .. وصية كُتبت حروفها بالدماء ، ونحن شعب يعشق المقاومة ويقدس دماء الشهداء والجرحى ، ويصون الوصية .. فانا على العهد باقون ..