الشهيد الأسير المقدسي أبو هدوان .. شاهد على سياسة الإهمال الطبي
* كتب / عبد الناصر فروانة
27 نوفمبر 2012
لا شك بأن الأوضاع المعيشية الصعبة وسوء التغذية والمعاملة القاسية داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي هي كفيلة بأن تحول الأسرى الأصحاء إلى مرضى ، وإذا طالت فترة الأسر في ظل سياسة الإهمال الطبي والتباطؤ في تقديم العلاج اللازم فان الأمراض تُستفحل ، و تتحول إلى مزمنة وخطيرة تبقى تلازمه داخل الأسر ، أو تلاحقه إلى ما بعد التحرر من الأسر ، وتكون سببا في استشهاده .
والأسير المقدسي " محمد أبو هدوان " هو واحد من أولئك الأسرى الذين نتحدث عنهم ، فهو أسير فلسطيني أمضى في سجون الاحتلال الإسرائيلي قرابة عشرين عاماً ، وبالرغم من طول سنين الأسر ، وأمراضه العديدة وخطورتها ، و كبر سنه ، إلا أن سلطات الاحتلال أهملته طبياً ، ولم تقدم له العلاج المناسب ، بل وكبلت يديه وقدميه بالسلاسل الحديدية بالسرير الذي يرقد عليه في ما يسمى مستشفى سجن الرملة ، ورفضت الإفراج عنه كي لا تمنحه فرصة قضاء بضع سنوات أو حتى بضعة شهور ، أو بضعة أيام محدودة بين أهله وأسرته وأحفاده ..!
وأصرت على استمرار اعتقاله ، وتطبيق حكم الإعدام بحقه ببطء شديد ، ولكن دون محاكمة ودون قرار واضح وببطء شديد ، انطلاقاً من سياستها الانتقامية منه ومن أمثاله ومن شعبه عامة والمقدسيين خاصة ، ليلتحق في الرابع من نوفمبر عام 2004 بقافلة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة ، وبالرغم من رحيله ، فان ذكراه باقية فينا ، وسيبقى استشهاده شاهداً على سياسة الإهمال الطبي المتبعة داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي .. وسيبقى أيضاً شاهداً على العصر ، عصر الجريمة المنظمة التي تُرتكب خلف القضبان بحق أسرانا وأسيراتنا ... فمن يكون الشهيد الأسير محمد أبو هدوان ..؟
وُلد الشهيد الأسير محمد حسن أبو هدوان عام 1945 في مدينة القدس المحتلّة وفيها سكن، ومنها أًسر ضمن مجموعة فدائية بتاريخ 3-10-1985 وحُكم عليه آنذاك بالسجن مدى الحياة ، أمضى منها عشرون عامًا متنقّلاً بين معتقل المسكوبية، وعسقلان، ونفحة ومستشفى الرملة، وتعرض خلالها لصنوف مختلفة من التعذيب والإنتهاكات والقمع والإجراءات التعسفية ، ونُقل خلالها إلى زنازين العزل عدة مرات ولمُدد طويلة، بالرّغم من وضعه الصحي الصعب، ممّا أدّى إلى تدهور حالته الصحيّة .
ومع مرور سنين الاعتقال تدهور وضعه الصحي أكثر فأكثر، فتوقف ما نسبته ثلاثة أرباع قلبه عن الخفقان ، ولم يعد يعمل منه سوى 25 % فقط ، وفقد الذاكرة جزئياً ، وشرعت الأمراض تنخر جسده دون رعاية تذكر ودون توفير العلاج اللازم له ، مما فاقم من معاناته بشكل خطير .
ويصف " أبو هدوان " حالته قبل استشهاده بقوله في إحدى رسائله المهربة من سجنه ( أنا لا أدري كيف سينفع الدواء مع السجان... كيف يداوي الذئب الحمل ؟.. يقولون في الطب الراحة النفسية ضرورية للمريض، أنا لا أطالب براحة نفسية، لأن هذا يستحيل تحقيقه، وروح الأسير تحس بوخزات الأسلاك الشائكة كلما سافرت بأحلامها أو عادت من سفره ).
فلم يعد " أبو هدوان " يحتمل ظروف السجن وقساوته ، وأفصح مرارا لرفاقه الأسرى بأنه يُفضل الموت مرة واحدة على أن يموت مرات ومرات عدة ، إلا أن إدارة السجون فضلت الانتقام منه ببطء شديد والإقدام على إعدامه عشرات المرات من خلال منظومة من الإجراءات التعسفية بحقه وبحق الكثيرين من الأسرى .
وأثناء وجوده في الأسر حاولت سلطات الاحتلال زيفاً وبطلاناً أن تبدو وكأنها حريصة على حياته فكانت تنقله تارة بعد إلحاحات كثيرة وإجراءات بطيئة إلى ما يسمى مستشفى الرملة ، وهو أبعد من أن يكون مستشفى و( لا ) وجه تشابه بينهما ، وتارة أخرى تسمح بإدخال أدوية له ، إلا أنها وفي كل الأحوال لم تقدم له العلاج المناسب في الوقت المناسب ، وبالتالي ساءت حالته الصحية إلى درجة ميؤوس منها ، وبدلاً من إطلاق سراحه عملاً بوصية الأطباء والإكتفاء بعشرين عاماً أمضاها في الأسر ، نقلته مكبل الأيدي والأرجل إلى مستشفى " أساف هروفيه " الإسرائيلي في منطقة رحوفوت ، ليرقد هناك على أحد الأسرة مكبلاً الأيدي والأرجل بالأصفاد الحديدية رغم خطورة وضعه الصحي في ظل حراسة مشددة ومعاملة سيئة ، إلى أن فارق الحياة في الرابع من نوفمبر عام 2004، في مشهد كشف عن الوجه الحقيقي للاحتلال وبشاعته وإجرام إدارة سجون الاحتلال ، وتجاهلها للنداءات المتكرّرة للمؤسّسات الحقوقية والإنسانية بالإفراج عنه مراعاةً لوضعه الصحي الخطير، وعدم قدرته على تحمل ظروف الحياة في الأسر، وعملاً بوصية الأطباء بضرورة الإفراج الفوري عنه بسبب تردّي حالته الصحيّة.
والشهيد الأسير " أبو هدوان وكنيته " أبو الحسن " متزوج وله خمس بنات وثلاثة أولاد، الأولاد تزوجوا، والبنات كذلك ، وذات مرة سؤل عن ذلك " كلهم تزوجوا يا أبا الحسن وأنت في السجن ؟ فأجاب بابتسامة مريرة : " نعم وأنا على برشي ( سريري)، تصورت حفلاتهم في خيالي...".
وتقول زوجته أم حسن : " كانت لدينا آمال كبيرة بإمكانية الإفراج عنه، صرنا ننتظره يوماً تلو الآخر، نحلم بعودته سيراً على الأقدام ، وراح أولاده وأحفاده يحلمون كل على طريقته بيوم الإفراج عنه، وشكل استقباله ، وحلمنا جميعاً أن نذهب وإياه للصلاة في المسجد الأقصى... لم نكن نتخيل أن كل ما اعتقدناه وتخيلناه قد يتغير فجأة ويحدث ما كنا نخشاه دوماً ، ليأتينا كومة أحزان على شكل تابوت ..."
( أريد أن أقتعد مكاناً بينهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقتعد نعشي على أكتفاهم )
ولم تكن أحلام الشهيد " أبوهدوان " أبعد مما كان يرنو إليه أبناؤه وعائلته، وكان دائما يردد ( أريد أن أقتعد مكاناً بينهم ولو للحظة واحدة قبل أن يقتعد نعشي على أكتفاهم...).
محمد أبو هدوان .. لم يتحقق حلمه ولم تشفع له سنوات سجنه الطويلة ولا أمراضه العديدة والخطيرة ، ولم ينعم بتلك اللحظة ، وفي الرابع من تشرين ثاني / نوفمبر 2004 ، و بعد عقدين من الأسر ، عاد مستشهداً محمولاً على الأكتاف .. ليرحل عنا جسداً ... لكنه ساكناً فينا لم ولن يرحل أبد الدهر وذكراه باقية في وجداننا .. فلك المجد ومنا العهد والوفاء .
ولم يكن " أبا الحسن " هو الأسير الأول من المقدسيين الذين سقطوا داخل سجون الإحتلال والتحقوا بقافلة شهداء الحركة الأسيرة ، كما لم يكن الأخير أيضا ، فلقد سبقه ولحق به الكثيرين من الأسرى المقدسيين ، لتُزين قائمة شهداء الحركة الأسيرة بأسماء ( 17 ) أسيراً .
ويُعتبر الأسير" قاسم أبو عكر" هو أول الشهداء من الأسرى المقدسيين حيث أنه استشهد عام 1969 جراء التعذيب في معتقل المسكوبية .
فالمجد للشهيد أبو هدوان ولكافة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة ومنا العهد والوفاء .
عبد الناصر فروانة
أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية
عضو اللجنة المكلفة بمتابعة شؤون الوزارة بقطاع غزة
0599361110
الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان