فلسطين خلف القضبان

www.palestinebehindbars.org

 

 

   

"خدمة التقارير والأبحاث" بثّ "يوميات أسير فلسطيني" (إشعار)

الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009

                 

"يوميات أسير فلسطيني" ـ إشعار بالبثّ

 

غزة (فلسطين) – خدمة قدس برس

الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009

 

يتزايد الانشغال بقضية الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي، كلما اقتربت مواسم الأعياد التي يُفترض أن يجتمع فيها الشمل الممزّق قسراً، وكلما تنامى الحديث عن صفقة وشيكة لتبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال. ولكن كيف يعيش الأسير وراء الشمس؟ وكيف تبدو يومياته خلف القضبان؟

 

في إجابة عريضة وعميقة عن ذلك يقدِّم الباحث الفلسطيني في شؤون الأسرى، عبد الناصر فروانة، وهو أسير سابق أيضاً، مساهمة قلمية موسّعة، يعرض فيها مشاهد من حياة الأسير وما يخالجها من تفاصيل مترابطة ووجوه من المعاناة والتحصيل، والألم والأمل.

 

يشرح فروانة في هذا العمل المخصص لوكالة "قدس برس"، كيف أنّ "فصول الحياة الاعتقالية طويلة وشيقة، مريرة وقاسية، ممتعة في بعض جوانبها ومفخرة في جوانب أخرى"، وصورها متعددة الأوجه والمضامين، حيث لا يمكن لأسير فلسطيني مهما كانت قدرته الكتابية والبلاغية أن يوفق في شملها بمقال أو عشرة، أو من خلال لقاء أو أكثر.

ولاشك أنّ يوميات الأسرى جميعها مترابطة مع بعضها بعضاً، فلا يمكن أن تُفصَل مناحي الحياة الاعتقالية وطبيعة الظروف المعيشية القاسية، ومرارة السجن والسجّان وتوابعهما؛ عن "الحياة التنظيمية والبرامج الثقافية ومظاهر التحدي والصمود والإرادة والخطوات النضالية والإضرابات عن الطعام وغير ذلك"، كما يشرح فروانة.

 

ولكن إذا نجح بعض الأسرى المحرّرين من سجون الاحتلال في صياغة بعض جزئيات تلك الفصول وتمت ترجمتها بصور قلمية؛ لربما بتراكمها وتكاملها يمكن عرض صورة هي أقرب للإحاطة.

ومن هنا ساهم الخبير في شؤون الأسرى والأسير السابق، عبد الناصر فروانة، في وضع القارئ في صورة سريعة عن بعض من جوانب حياة الأسرى، مع الإشارة إلى أنّ الظروف مختلفة ما بين سجن وآخر، ولكنها متشابهة فيما بين جميعها، أما في المعتقلات فالأمر مختلف لأنها عبارة عن خيام وليست غرفاً.

 

"يوميات أسير فلسطيني"، للكاتب عبد الناصر فروانة، الخبير في شؤون الأسرى والأسير السابق، تنشرها وكالة "قدس برس" اليوم الجمعة، السابع والعشرين من كانون الثاني (نوفمبر) 2009، تزامناً مع أول أيام عيد الأضحى المبارك، وهي تقع في أكثر من ألفين وثلاثمائة كلمة.

 

"خدمة التقارير والأبحاث" عبد الناصر فروانة ـ يوميات أسير (خاص) (1 من 3)

الجمعة 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009

هكذا يعيش الأسرى وراء الشمس

يوميات أسير فلسطيني .. مشاهد من وراء القضبان

غزة (فلسطين) – خدمة قدس برس

(عبد الناصر فروانة) (*)

كُتب الكثير عن الأسرى، ولكنّ القليل ما كُتب عن الحياة الداخلية للأسرى؛ كيف يعيشون وماذا يفعلون؟ وكيف يقضون يومهم وسنوات طويلة من أعمارهم؟ وكيف يتعاملون مع الوقت والزمن؟ كيف يتكلّمون وأي لغة يستخدمون؟ وهل وكيف .. إلخ من التساؤلات الكثيرة، والتي للأسف بقيت إجاباتها مأسورة في أذهان الأسرى وبحاجة إلى من يحرِّرها.

وباختصار شديد؛ فإنّ إدارة السجون الإسرائيلية لم تكتفِ باعتقالنا وتقييد حركتنا؛ بل تسعى جاهدة إلى استهداف كل جزئيات حياتنا الاعتقالية، بل والخاصة المحيطة بكل أسير داخل السجن. فهي تسعى جاهدة لتحديد ساعة النوم وفترتها، كمية الهواء وساعات التعرض للشمس، نوعية الغذاء وما يحتويه من قيمة غذائية وكمية السعرات الحرارية فيه. كما تسعى إلى تحديد الغذاء الروحي بشكل جماعي وفردي، وماذا تقرأ ومتى؟.

وتحدِّد لكل أسير كم يمكن أن تكون دائرته الاجتماعية اليومية، وتحدِّد زمن الزيارات الداخلية وطبيعتها، وظروف زيارة الأهل وشكلها ومن يُسمح برؤيتهم. تحدد طبيعة العلاج وتوقيته، ولون الملبس ونوعيته و... إلخ.

ومع ذلك؛ فإنّ السجن عالم آخر، والحياة تسير فيه وكأنها طبيعية، أو بمعنى أدقّ تتكيّف معها، أو يجب أن تتكيّف معها، لتغدو بالفعل حياتك الطبيعية وهذا التكيف السريع ـ وليس الاستسلام للواقع ـ، هو ما يمنح الأسير قوّة الصمود والإرادة. حيث يهيِّئ نفسه وفقاً للظروف الجديدة والحياة الاعتقالية، ويبدأ تدريجياً بالاندماج مع الكلّ ليشارك إخوانه في النضال ضد الإدارة، للذود عن الكرامة ولانتزاع الحقوق الأساسية، ولتحسين شروط الحياة الاعتقالية؛ بمعنى التكيّف مع الواقع، والتفكير الجدي في النضال من أجل تغييره.

 

مجتمع من طراز خاص

وبالرغم من مرارتها وقسوة ظروفها وقساوة سجانيها؛ فإنّ حياة الأسر، وبكل صدق؛ هي حياة نادرة، أقرب للنموذجية فيما يتعلق بالعلاقات الداخلية والتوحّد تجاه إدارة السجن. بمعنى أنه رغم الاختلافات السياسية والتنظيمية والفكرية استطاع الأسرى أن ينسجوا فيما بينهم شبكة من العلاقات الوطنية، وأن يجسِّدوا أروع صور التلاحم والوحدة الوطنية، وشيّدوا بتكاتفهم وتماسكهم وتعاضدهم ووحدة مواقفهم ونضالاتهم مجتمعاً صغيراً مثالياً نموذجياً في الانضباط، ورائعاً في الوحدة والمساواة والتعاون والتكافل الأُسَري، مجتمع لا زلنا نحلم بتشييده وأن يكون قائماً خارج السجن.

مجتمع له لغته المميزة، وتعبيراته الخاصّة، ومفرداته الحصرية، وأنظمة حياتية متميِّزة، وزيارات اجتماعية داخلية، وبرامج ثقافية ثابتة متعدِّدة الأشكال، وعادات أكثر من رائعة، وبرامج إدارية داخلية يحتكم إليها الجميع داخل السجن. وهناك ما هو خاصّ بكل تنظيم أو غرفة، وبالتأكيد لم ولن يفهمها سوى من ذاق مرارة السجن؛ مثل "الشبح"، "الإكس"، "الفورة"، "الكبسولة"، "البوسطة"، "القمعة"، "غيمت"، "الزوندة"، "التعميم"، "الإسفراه أو العدد"، "العصافير"، "الانفلاش"، "الزنزانة"، "الجلسة"، "العزل"، "القعراه"، "البرش"، "التشخيص"، "العُروم". ولكل مصطلح من هذه المصطلحات ذكراه الأليمة لدى الأسرى.

والأمر ليس مقتصراً على المفردات والمصطلحات؛ بل يتعدّى ذلك ليصل إلى عادات وتقاليد خاصة بالأسرى، وآلية وشكل إحياء المناسبات الحزينة والمفرحة؛ الوطنية العامة والحزبية الخاصة، كالأعياد الدينية وتأبين الشهداء أو ذكرى انطلاقة التنظيمات ... إلخ، فكلّ شيء متفق عليه وله طقوسه الخاصة.

وبكل صراحة أقول إنّ السجن يسكن بداخلنا ويحيا فينا رغم مضيّ سنوات على خروجنا من السجن، وأننا لازلنا نستخدم بعض تلك المصطلحات في حياتنا اليومية، لاسيما فيما بين رفاق القيد سابقاً، ولا يمكن أن يلتقي صديقان سبق وأن التقيا في السجن؛ إلا وكان السجن ثالثهما.

 

حياة السجن ..

يعيش الأسرى في أقسام، ويتشكل كل قسم من مجموعة غرف، ولا تتجاوز مساحة الأسير في الغرفة المتر ونصف المتر المربع، فيما في المعتقلات تصل إلى مترين ، وفي معتقل عوفر وصلت المساحة التي يقيم فيها الأسير إلى 1.37 متراً مربّعاً فقط، حسب ما نشرته لجنة القانون في الكنيست الإسرائيلي  (تشرين الأول/ أكتوبر 2007).

ودعوني أستكمل الحديث عن السجون والغرف، والتي في الغالب ما يكون نزلاء كل غرفة منها من لون سياسي واحد. وبعض الغرف تكون مشتركة، وفي الأغلب من ألوان وأطياف قريبة من بعضها سياسياً وفكرياً. والحياة داخل السجن في غاية النظام والترتيب والتنظيم، وكل معتقل ينضوي تحت لواء تنظيم ما من التنظيمات الفلسطينية، وله دور في إطار تنظيمه والجماعة التي يعيش معها داخل الغرفة، فهناك لجنة داخلية تشرف على الطعام، وأخرى على المشروبات الساخنة، وثالثة على المشتريات من مقصف السجن، ورابعة ثقافية .. إلخ.

بمعنى آخر؛ أنّ السجن ورغم ظروفه القاسية، يحتكم إلى مؤسسة اعتقالية وتنظيمية، وتحتكم إلى لجنة قيادية للمعتقلين من كافة التنظيمات تفرز فيما بينها ممثل معتقل، ويكون بمثابة حلقة الوصل والاتصال مع إدارة السجن. ويتم التنسيق ضمن تلك اللجنة قبل اتخاذ القرارات، وأحياناً يتم التنسيق مع اللجان القيادية في سجون أخرى إذا كان الأمر يتطلّب موقفاً جماعياً من كافة السجون برفض إجراء ما أو لخوض إضراب شامل عن الطعام أو غير ذلك. ولكل تنظيم لائحة داخلية خاصة به، تنظم العلاقات الداخلية، ويحاط بهذا الجهاز عدة لجان ثقافية وإدارية وأمنية لمتابعة الاختراقات والعملاء، وكثيراً ما تمّ التحقيق مع بعضهم.

(نهاية الجزء الأول، يتبع الجزء الثاني)

(*) الأستاذ عبد الناصر فروانة هو خبير فلسطيني في شؤون الأسرى، وهو أسير سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

 

يوميات أسير فلسطيني .. الجزء الثاني

غزة (فلسطين) – خدمة قدس برس (خاص) (2 من 3)

السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009

 

(عبد الناصر فروانة) (*)

مسيرة يوم

تعمد إدارة السجون إلى إجراء العدد ثلاث مرات، ويبدأ الساعة السادسة صباحاً، وبذلك تُجبرنا الإدارة على الصحو مبكراً. وبعد انتهاء العدد؛ نشرع بتجهيز أنفسنا والاستعداد لاستقبال وجبة الإفطار، ومن ثم يبدأ البرنامج الثقافي من خلال المطالعة الذاتية. وفي التاسعة والنصف يجتمع من في الغرفة ومن التنظيم الواحد ذاته في جلسة ثقافية وفقاً لبرنامج مُعدّ منذ بداية الشهر. وتستمر الجلسة ساعة إلى ساعة ونصف الساعة، تتناول موضوعاً سياسياً أو وطنياً أو ملفاً ساخناً أو آخر الأخبار، أو موضوعاً أمنياً ونضالياً، وأحياناً تعلّم اللغات.

ومن ثم ينتقل الجميع للقراءة الذاتية، ومع الظهيرة يُغلَق ملف المطالعة، ويشرع الجميع بالاستعداد لتناول الغذاء. ومن ثم يأتي العدد الثاني، وبعدها الراحة أو القيلولة قليلاً، ثم يخرج جميع من في القسم الى "الفورة"، وهي عبارة عن مساحة ليست بالكبيرة، ويعلوها سقف من الأسلاك والقضبان الحديدية لمدة ما بين ساعة الى ساعتين حسب ظروف السجن والعلاقة مع الإدارة. وتُخصّص هذه الفترة للتفاعل الوطني وللاستمتاع بأشعة الشمس، وأحياناً تجرى أثنائها ندوات مشتركة حول قضايا وطنية عامة، أو الاحتفال بمناسبة ما أو لتعزية أحد الأسرى ..إلخ.  

وبعد العودة للغرف تُستَقبَل وجبة العشاء ويتم إبقائها في الغرفة حتى موعد العشاء. وخلال هذه الفترة يُسمَح بفتح التلفاز من قبل لجنة الأسرى الداخلية ومشاهدة بعض البرامج، وبعدها تبدأ لجنة الطعام بإعداد وجبة العشاء. ومن ثم يُستكمَل البرنامج الثقافي بجلسة مسائية ثانية أو أمسية ثقافية أو ترفيهية أو متابعة برنامج محدّد مفيد يُعرَض على التلفاز، وفي بعض الأيام يُسمَح من قبل قيادة الغرفة بمشاهدة برامج ترفيهية تُعرَض عبر التلفاز. وفي العاشرة مساءً تطفئ الإدارة الأنوار، ويبقى التلفاز حسب القرارات التنظيمية الداخلية، ويخلد بعدها الجميع للنوم.

 

البرامج الثقافية

وأود التأكيد هنا أنّ المعتقلين أدركوا منذ بدايات الاحتلال والسجون خطورة استهداف الاحتلال لثقافتهم وتراثهم، فانكبّوا على تعبئة أنفسهم وتناقل الخبرات والتجارب فيما بينهم ثقافياً وفكرياً، عن طريق القراءة الذاتية، وعن طريق الجلسات المتنوِّعة، واستفادوا أيضاً مما هو مسموح بإدخاله لهم من كتب وصحف ومجلات عبرية وإنجليزية. ولهذا فالكثيرين منهم أجادوا اللغة العبرية والإنجليزية، ومنهم من أجاد الاثنتين وأكثر.

وبالمناسبة هناك جلسات خاصة لتعلّم فنّ الكتابة؛ كتابة التقارير والقصص والمقالات والرسائل، وهي معارف ومعلومات يتم تدويرها فيما بين الأسرى. وهناك أيضاً جلسات إجبارية لمحو الأمية، ولم أتصوّر أنّ أحداً دخل السجن وخرج منه كما دخل دون أن يطوِّر قدراته.

نعم لقد نجح الأسرى في تحويل محن السجون، إلى منح يُستفاد منها. فتحوّلت تلك الأمكنة المظلمة إلى مدارس وجامعات مشرقة، خرجّت آلاف القادة والمبدعين والكتاب والمثقفين وحفظة القرآن .. إلخ، والذين حققوا نجاحات باهرة أينما حلّوا وأينما عملوا وفي كل المواقع التي تبوّؤوها.

 

اختلاف البرامج

بالطبع فإنّ البرامج مختلفة من تنظيم إلى آخر، ولكن مع الوقت والتكيّف والاندماج في العمل التنظيمي والثقافي والحياة الاعتقالية داخل الأسر؛ تشعر أحياناً أنك مضغوط وليس لديك وقت للخروج إلى "الفورة"، أو أن تُجبّر على السهر لبضع ساعات لإنجاز مهامك أو برنامجك الخاص. ووالله .. أحياناً تمنيت أن تكون ساعات اليوم أكثر من 24 ساعة حتى ننجز المطلوب.

هذا باختصار شديد يوم من الأيام داخل السجن، ولكن أحياناً ما تكون الفورة صباحاً، ولكنّ البرنامج العام لا يخرج عن هذا الإطار.

 

إبداعات فنية

هناك بعض الساعات خلال النهار يُعتبر خلالها الأسير محرّراً من الأنظمة والبرامج الداخلية ومن الجلسات الثقافية، فيلجأ الكثيرون للإبداع والفن التشكيلي والعمل اليدوي وإنجاز مجسّمات مختلفة أو لوحات فنية من خلال الإمكانيات البسيطة المتوفرة، وهناك إنتاجات رائعة في هذا المجال.

هذا إذا مرّ اليوم طبيعياً؛ بمعنى أن لا يتخلّله اجراء عدد رابع، أو إعلان طوارئ، أو "قمعة"، أو احتجاج من قبل الأسرى، أو حدث مفاجئ أدّى للتصادم مع الإدارة، أو تفتيش ليلي مفاجئ، أو تنقلات فيما بين الأقسام أو ما بين السجون .. إلخ من الإجراءات القمعية التي تهدف إلى عدم الاستقرار فيما بين صفوف الأسرى.

وبالمناسبة؛ هناك بعض السجون والمعتقلات تمنحك رقماً منذ اللحظة الأولى لوصولك، بدلاً من اسمك، وتتعامل معك وفقاً للرقم حتى لحظة تحرّرك، وهذه الألية متبعة حتى الآن في المعتقلات كالنقب وعوفر ومجدو.

 

دروس الأسر

علمتني التجربة الكثير من السمات الإيجابية، وهي التي صقلت شخصيتي وأثّرت عليّ في العديد من الجوانب، وعلّمتنا الصبر والقدرة العالية على التحمّل واحترام الآخرين. علّمنا السجن الأمانة وتعزيز الثقة بالنفس وعدم الانهيار تحت أية ظروف، والعيش بكرامة وعزة في أحلك اللحظات. علّمتنا التجربة أنّ الإنسان يمتلك طاقة هائلة من الصمود والتحمّل إذا كان متسلِّحاً بعقيدة ومبادئ وبإيمان راسخ بعدالة قضيّته ومتسلِّحاً بأمل الانتصار. علمتنا كيف نثقِّف أنفسنا ونُطوِّر ونثقِّف بعضنا بعضاً. علمتنا الأخلاق الحميدة والسلوك الطيب والحياة الجماعية والإيثارية وحبّ الآخرين والوحدة الوطنية في أروع صورها.

وأعتقد أنّ تحرّرنا واستمرارنا في عطائنا ونضالنا، ونجاح كثير من الأسرى السابقين في مجالات عملهم؛ يدلّ بما لا يدع مجالاً للشك على فشل الاحتلال في تحقيق غاياته من وراء السجن؛ المتمثلة بإفراغ الأسير من محتواه الوطني والثوري، واعتبار السجن المحطّة الأخيرة لكل أسير فلسطيني.

 

(نهاية الجزء الثاني، يتبع الجزء الثالث والأخير)

(*) الأستاذ عبد الناصر فروانة هو خبير فلسطيني في شؤون الأسرى، وهو أسير سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

 

يوميات أسير فلسطيني .. الجزء الثالث والأخير

 

غزة (فلسطين) – خدمة قدس برس- يوميات أسير (خاص) (3 من 3)

 *عبد الناصر فروانة

الملبس والمأكل

في بدايات الاحتلال كانت إدارة السجون تقدِّم لكل معتقل جديد خمس بطانيات وبنطالاً بنيّاً أو كحليّاً وقميصاً برتقاليّ اللون. ثم في منتصف الثمانينات أصبح اللون السائد لمجمل الملابس وتوابعها هو اللون البني، ولم يُسمَح بغير البني بإدخاله عن طريق الأهل، ولم  نعد نرى في السجن ألواناً أخرى. ومؤخراً تحاول إدارة السجون إعادة فرض اللون البرتقالي، في محاولة منها لإظهار الأسير الفلسطيني في الصورة ذاتها المرتبطة في أذهان العالم عن معتقلي غوانتنامو.

وكانت تقدِّم في الماضي ثلاث وجبات غذائية سيِّئة كمّاً ونوعاً، وتطوّرت هذه الوجبة بعدما انتزع الأسرى حق العمل في "المطبخ". وتلك الوجبات تتنوّع، وكان ما يميِّزها هو تحديد الأيام التي تحصل فيها على أشياء مميّزة، فمثلاً يوم الأحد تتناول فيه قطعة من "الجاتوه"، ويوم الخميس من كل أسبوع قطعة من الحلويات، ويوم الثلاثاء؛ قطعة صغيرة من الدجاج، ويوم الأربعاء تحتوي وجبة الغذاء على قطعة من السمك. وفي كلّ الأحوال لم تكن الوجبات كافية كمّا ونوعاً، لكنها كانت في أيّامنا أفضل مما سبقها وأفضل من الآن، حيث عادت إدارة السجون في السنوات الأخيرة لتمنع الأسرى من العمل في المطبخ، وجلبت سجناء جنائيين يهوداً وعرباً، فازداد الطعام سوءً، ولجأ الأسرى إلى المطالبة بحصّتهم أو ما يمكن طهيه في الغرف، ويشترون الباقي من السجن.

 

تهرّب إدارة السجن

الخطورة هنا أنّ إدارة السجون تهرّبت من توفير احتياجات الأسرى من مأكل وملبس وأغطية شتوية وحتى العلاج والأدوية، وأصبح الأسير يدفع ثمن إقامته، ويشتري من مقصف السجن كلّ ما يحتاجه وعلى نفقته الخاصة وبأسعار باهظة. فلم تعد الإدارة توفر من الملبس سوى الخارجي منه، ومن الأكل ما يُعتبر أساسياً ولكنه يفتقر للقيمة الغذائية الضرورية، مما شكّل عليهم وعلى ذويهم عبئاً اقتصادياً جديداً فاقم من معاناتهم، وتحول الأسرى في السنوات الأخيرة وكأنهم نزلاء فنادق أو روّاد مطاعم يدفعون ثمن إقامتهم والخدمات المقدّمة لهم.

وبالتأكيد هناك مشكلات عديدة يتعرّض لها الأسير؛ أخطرها في تقديري الأوضاع الصحية السيئة وانعدام الرعاية الطبية وشحة الأدوية عموماً وانعدام الأدوية اللازمة في سياق سياسة الإهمال الطبي المتبعة في السجون مما يفاقم من معاناة الأسير، وهو ما يؤدي مع مرور الوقت إلى تحوّل المرض البسيط الذي من الممكن علاجه واستئصاله إلى مرض مزمن وخطير يُستحال علاجه. وهذا يؤثر ليس على الأسير فحسب؛ بل على كلّ من معه في الغرفة، ويخلق حالة من الإرباك والتوتر باستمرار. ومن أصعب المشاهد أن ترى أسيراً معك في الغرفة يصرخ ويتألّم في منتصف الليل من شدة المرض وإدارة السجون غير مبالية، وأنت لا تملك من القوّة ما يُجبرها على التحرّك وإنقاذ حياة الأسير سوى الصراخ. وأحيانا تفقد هذا الأسير وللأبد. وهناك العشرات استشهدوا جراء الإهمال الطبي في سجون الاحتلال.

 

تكاتف الأسرى

هناك مشكلات عديدة يعانيها الأسير، أو من الممكن أن يتعرّض لها خلال مسيرة حياته داخل الأسر. حيث تُقْدِم إدارة السجون على التفتيشات المستمرّة والاعتداءات الجسدية، أو مصادرة الكتب والكراسات وبعض الأجهزة الكهربائية، وأحيانا تنقلات أو عزل بعض الأسرى، وهذا يربك الحياة التنظيمية داخل السجون وبرامجها.

فيما تبرز مشكلات نفسية لدى الأسرى جراء الحرمان من الزيارات وعدم توفر آليات الاتصال بذويهم لسنوات طوال؛ تتخللها وفاة الأم أو الأب أو كليهما، أو أحد الأقربين، وهي مواقف مؤلمة بدون شك في حياة الأسير.

بالمناسبة؛ إذا مرّ أحد الأسرى بمصيبة وكآبة فإنّ هذا الجو ينعكس على سائر نزلاء الغرفة، وأحياناً كلّ السجن، لاسيما إذا كان من الأسرى القدامى أو ممن لهم شعبية واسعة داخل السجن.

ومن المشاهد المؤثرة أن تجد أسيراً ونجله في الأسر أو شقيقين أو ثلاثة أو أكثر مع بعضهم بعضاً، أو أسيراً معك وزوجته مع الأسيرات، أو طفل معك ووالدته معتقلة في قسم الأسيرات.

وتضع الإدارة دائما العراقيل أمام تجمّع هؤلاء الأقارب أو الأشقاء في سجن واحد، كما تضع العراقيل أمام السماح لهم بالتزاور، مما يفاقم من معاناة الأسير وذويه.

فمثلاً، كنتُ في سجن وشقيقي الأصغر في سجن آخر لمدة تزيد عن أربع سنوات، قبل أن تجمعنا الظروف الاعتقالية لبضعة شهور فقط، ثم فرّقتنا الظروف ذاتها. وكان الوالد والوالدة يزوراني في غزة هذا الأسبوع، وفي الأسبوع التالي يتوجّهون لزيارة أخي في عسقلان. وبعد سنوات انتقلنا إلى معتقل النقب، وهناك كنت في قسم "د"، وأخي في قسم "هـ"، والزيارات منفصلة ولا تتم في يوم واحد. وأذكر جيداً أنّ زيارة أخي كانت يوم الخميس، وزيارتي في اليوم التالي الجمعة، وغير مسموح سوى لوالدينا بالزيارة.

 

رفض الزيارة طواعية

ليتخيّل المرء كم هذا مرهق ومؤلم، لاسيما وأنّ النقب بعيد جداً عن غزة، ورحلة السفر مرهقة وشاقة وحافلة بالعذاب. وليتخيّل المرء أنني تنازلت عن الزيارة مراراً طواعية، وطلبت من والديّ عدم الحضور، كي يرتاحوا من عناء الطريق والسفر، رغم روعة الزيارة ومتعة اللقاء بالوالدين ، ومع ذلك رفضا ذلك وأصرّا على المواظبة، في وقت رفضت فيه الإدارة تجميعنا. وكم من مرة تمنيت أن تمنعنا الإدارة من الزيارة!.

وهناك قصص كثيرة مشابهة؛ بل وأكثر ألماً. هناك أسر بأكملها داخل السجون، أو ثلاثة أو أربعة أشقاء. وأذكر قبل عامين تقريباً كانت هناك الحاجة "أم مازن" من نابلس، تحلم بأن ترى أبناءها الخمسة المعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي وقد جمع الله شملهم في سجن واحد لتتمكن من رؤيتهم جميعاً خلال زيارة واحدة، ولكن للأسف فارقت الحياة دون أن يتحقق حُلمها، فرحلت ولم يرحل السجّان وبقي أبناؤها مشتتين في ما بين السجون والمعتقلات.

وعلى الرغم من حلاوة زيارة الأهل ومتعتها وتأثيرها - إذا سُمح لك بذلك -؛ فإنها تفتح الجراح العائلية وتعيد شريط الذكريات للوراء سنين طويلة. فبعد دقائق من الزيارة تمكث في الغرفة ساعات تتذكر كلّ كلمة، بل وكل حرف قيل أثناء الزيارة، وتستحضر كل مشاهد اللقاء الممتد وصوره لدقائق معدودة، وتعيش بانتظار مستمر للزيارة القادمة. هذا إن سُمح لك بزيارة أخرى، أو قُدِّر لمن حضروا لزيارتك البقاء على قيد الحياة.

 

(*) الأستاذ عبد الناصر فروانة هو خبير فلسطيني في شؤون الأسرى، وهو أسير سابق في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

 

(نهاية الجزء الثالث والأخير)