وقفة تقييمية لإضراب الأسرى ...
* بقلم / عبد الناصر فروانة
24-5-2012
بأمعائهم الخاوية وجوعهم وعطشهم ، بإرادتهم الصلبة وصمودهم الأسطوري ، بإصرارهم القوي على المضي قدما صوب تحقيق أهدافهم الإنسانية والعيش بكرامة ، وبعد ثمانية وعشرين يوماً من الإضراب المفتوح عن الطعام بشكل جماعي ، ولقرابة سبعة وسبعين يوماً بشكل فردي ، نجح الأسرى في تحقيق الانتصار.
ففي الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين من الأسبوع الماضي الموافق الرابع عشر من مايو / آيار الجاري ، أعلن رسميا عن التوصل إلى اتفاق خطي يُنهي بموجبه الأسرى إضرابهم عن الطعام ، مقابل إلتزام " إسرائيل " بتحقيق مطالبهم ، وذلك برعاية الشقيقة مصر .
ودون النظر إلى التفاصيل أو البحث في بنود الاتفاق ، عبر الفلسطينيون بمختلف انتماءاتهم ومواقعهم عن سعادتهم بالاتفاق ووصفوه بـ " اتفاق الإنتصار " .
نعم هو كذلك ... حتى وان لم يحقق مطالب الأسرى بنسبة 100 % ، وبتقديري لم يكن بالإمكان تحقيق أفضل مما كان .
وهذا بالمناسبة هو حال كافة الإضرابات السابقة التي وصفت بالناجحة ، حيث لم تشهد السجون من قبل إضرابا عن الطعام حقق من خلاله الأسرى كافة مطالبهم بدرجة كاملة ، وأن نسبة النجاحات كانت تتفاوت من إضراب لآخر ، فيما الإضراب الأخير حقق النسبة الأكبر من الأهداف ومجموعة من الانتصارات أهمها :
- الانتصار على ذواتهم بإعادة الاعتبار لثقافة المقاومة خلف القضبان واستعادة روح المواجهة والتحدي للسجان وما يمثله ، واستعادة هيبة ومكانة الحركة الأسيرة .
- والانتصار لوحدتهم على الانقسام وتداعياته المريرة ، رغم ما اعترى مسيرة الإضراب من اجتهادات ومواقف مختلفة .
- والانتصار في إعادة الاعتبار لقضيتهم على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية .
- وانتصارهم الكبير على عنجهية السجان وقوانينه وإجراءاته التعسفية ، و بكسرهم التعنت الإسرائيلي وتحقيقهم جملة من المطالب الأساسية وفي مقدمتها إنهاء العزل الإنفرادي لكافة الأسرى المعزولين ، والسماح لأهالي أسرى قطاع غزة بزيارة أبنائهم بعد منعهم لأكثر من خمس سنوات ، ووضع قيود للحد من سوء استخدام " الاعتقال الإداري " .
وبالتالي نحن نتحدث عن جملة من الإنتصارات قد تحققت بعد معركة نضالية هي الأصعب والأقسى عنوانها " الإضراب عن الطعام " ... وبعد ملحمة إنسانية هي الأكثر اشراقاً من الصمود والبطولة ، حيث لم يسبق لأسرى أن خاضوا إضرابا عن الطعام لـ 77 يوماً متواصلة ، كما لم يسبق أن انتهى إضرابا للأسرى بتوقيع اتفاق مكتوب وبرعاية عربية أو دولية .
تجربة نوعية تُضاف إلى جملة التجارب التي خاضتها الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي على مدار العقود الماضية .
عوامل ساعدت في إنجاح الإضراب ..
و ولا شك بأن هناك جملة من العوامل قد ساعدت في تحقيق الانتصار والتوقيع على اتفاق ينهي الأسرى بموجبه إضرابهم عن الطعام ، مقابل التزام " إسرائيل " بتحقيق مطالبهم الأساسية والإنسانية والتي تتوافق بشكل كامل مع كافة المواثيق والأعراف الدولية ، ولعل أبرز تلك العوامل هي :
- الحراك النضالي داخل السجون واتساع أعداد المضربين ، وإصرار الأسرى المضربون عن الطعام على المضي قدما صوب تحقيق مطالبهم بالرغم مما اقترف بحقهم ومورس ضدهم من انتهاكات وإجراءات عقابية وانتقامية لإجبارهم على فك إضرابهم .
- تصاعد الأوضاع داخل السجون والخشية من تفجرها وذلك بعد تهديد الأسرى المضربين باللجوء إلى خطوات نضالية أخرى كالعصيان والتمرد على قوانين إدارة السجون وعدم الالتزام بها ، أو الامتناع عن شرب الماء ، وامتناع المرضى على تناول الأدوية ..الخ في حال استمرت إدارة السجون في تعنتها وتجاهلها لمطالب الأسرى .
- الحراك التضامني المتصاعد خارج السجون وعلى كافة المستويات والصعد المحلية والإقليمية والدولية مما منح الأسرى قوة إضافية مهمة ، وشكل عامل ضغط على " إسرائيل " وأجهزتها .
- تدهور الأوضاع الصحية لمجموعة من الأسرى ، والخشية من سقوط شهداء بين صفوف الأسرى مما سيؤدي إلى انفجار الأوضاع داخل السجون وتدهورها إلى درجة خطيرة خارج السجون وهذا ما لم تكن ترغب في حدوثه حكومة " نتانياهو " .
ثغرات الإتفاق .. !
ان الإتفاق تضمن بعض الثغرات حيث لا يمكن الحديث عن الإنتصارات دون التطرق وعلى عجالة لأبرز ثغرات الاتفاق حتى تكتمل الرؤية ، والتي يرى بأنها قد تشكل مدخلا لتنصل إدارة السجون من التزامها والعودة بنا وبالأسرى إلى الوراء كثيراً ، وربما تُقدم على الإنتقام من الأسرى ، وأن أبرز تلك الثغرات :
- أن الاتفاق الموقع رسمياً تضمن خطوطاً عامة وبنودا فضفاضة ومبهمة ، دون التطرق للتفاصيل التي تم التفاهم حول بعضها شفهياً والتي تصب لصالح الأسرى ، والتي هي مهمة ومهمة جداً مع جهة ( إسرائيل أو من يمثلها) اعتادت على التهرب من التزاماتها والنكوث بتعهداتها ، فيما التفاصيل المتعلقة بمصلحة إدارة السجون فهي مدرجة وواضحة .
فالزيارات لأهالي أسرى قطاع غزة غير واضحة ان كانت للجميع أم لجزء منهم وفقا لاشتراطات اسرائيلية تحدد لاحقاً ، وهل هي منتظمة أم غير منتظمة ؟ وتوقيتها وزمانها ، آلياتها وشكلها ، غير واضح المعالم ، وهل سيسمح للأهالي بادخال الملابس والكنتينا لأبنائهم الأسرى أم لا ..الخ من التفاصيل .
وفيما يتعلق بالعزل الإنفرادي ، فإدارة السجون الإسرائيلية ستلتزم بإنهائه ، فيما أتاحت لنفسها الحق في العودة إليه ، في حال ممارسة أي نشاط أمني من داخل السجون الإسرائيلية ، والمقصود به كما يوضحه الإتفاق تجنيد عناصر أو توجيه وتنسيق وتقديم المساعدة والمساندة أو القيام بأي عمل آخر من شأنه تقديم الدعم الفعلي لنشاط أمني يستهدف " إسرائيل " ، وهذا سيشكل مدخلا لها لإعادة عزل العديد من الأسرى وفقا لتفسيراتها .
كما وأن الاتفاق تضمن عدم استئناف الأسرى لإضرابهم عن الطعام ، مقابل التزام إدارة السجون بما تم التوقيع عليه بالخطوط العامة ، وكما ورد حرفيا بالاتفاق " فان أي نشاط أمني يتم ممارسته من داخل السجون أو استئناف إضراب الأسرى في السجون الإسرائيلية سوف يترتب عليهما إلغاء التعهد الإسرائيلي بتقديم التسهيلات المتفق عليها " وهذا سيضع قيودا كبيرة على الأسرى وسيعمق الفجوة فيما بين الاتجاهات المختلفة داخل الحركة الأسيرة حول أهمية وضرورة وانعكاسات العودة للإضرابات ..! .
أما موضوع " الاعتقال الإداري " وبالرغم مما تحقق فان الاتفاق النهائي الموقع والذي نشر ، لم يُشر من قريب أو بعيد لذلك ولم يتضمن نصا واضحا أو غامضا حول الاعتقال الإداري ، وإنما هي تفاهمات شفهية ... مما سيُسهل على سلطات الاحتلال وإدارة السجون من اختراقه والتجديد لمئات الأسرى تحت حجج أمنية مختلفة وبذريعة الملف السري أيضا كما كان بالماضي .. ولكن ربما تلتزم في الأيام والأسابيع القادمة فقط في الحد من اللجوء إليه أو اللجوء للتجديد حتى تمتص الغضب العام وتجمل صورتها التي تشوهت على المستوى الدولي بعد إضراب الشيخ خضر عدنان وهناء شلبي وبلال دياب وثائر حلاحلة وغيرهم .
ان الملاحظات السابقة ( لا ) تقلل على الإطلاق من شأن الإتفاق وأهميته ، أو من حجم الإنتصار وروعته ، و لكنها ثغرات وملاحظات يجب الإنتباه لها جيداً حتى لا تشكل مداخل لإدارة السجون لإختراق الإتفاق في الأيام القليلة القادمة بذريعة أن الإتفاق لا يحمل التفاصيل.
انتصار الأسرى .. أسس لمرحلة جديدة ..
واليوم وبعد هذا الاستعراض من وجهة نظرنا المتواضعة لأبرز الانتصارات التي تحققت من وراء معركة الأسرى الأخيرة والعوامل التي ساعدت في تحقيق ذلك الانتصار ، بالإضافة الى أبرز الثغرات ...
يمكن التأكيد على أن الإضراب عن الطعام وما تحقق من خلاله من انتصار ، قد أسس لمرحلة جديدة في العلاقة ما بين إدارة السجون الإسرائيلية والأسرى الفلسطينيين، يجب استغلالها ، والبناء عليها ، وإجادة استثمارها بما يضمن أن تتجه لصالح الأسرى .
ماذا بعد انتهاء إضراب الأسرى ..؟
واليوم أيضاً وبعد مرور أكثر من عشرة أيام على انتهاء الإضراب ، يقفز للذهن سؤالاً مهماً .. ماذا بعد انتهاء إضراب الأسرى ..؟
بالتأكيد ان انتهاء الإضراب لا يعني إنتهاء المعركة ، وإنما انتهاء جولة حققنا فيها نصراً ، ومقدمون على جولات كثيرة يجب ان نفكر في كيفية تحقيق مزيدا من الإنتصارات فيها.
والتجارب علمتنا بأن لا نَثق بإدارة مصلحة السجون ومن ورائها حكومة الاحتلال ، والتي ستماطل وستتنصل من إلتزاماتها وتعهداتها في أكثر من مناسبة ، فهي اخترقت الإتفاق قبل أن يجف الحبر الذي وقع به .
وبالتالي علينا أن ( لا ) نُفرط بالتفاؤل وبالأفراح ومهرجانات الإنتصار ، فالإنتصار في جولة لا يعني حسم المعركة والتي لا تزال مستمرة والسؤال ماذا بعد انتهاء الإضراب ..؟
- أولا يجب التوقف أمام المرحلة السابقة بشمولية ، وتقييمها بعلمية ومن كافة النواحي وعلى كافة الصعد ، بسلبياتها وايجابياتها .
- التأسيس على ما تم انجازه وما أحدثه إضرابات الأسرى الفردية والجماعية من حراك على كافة الصعد وتفاعل اقليمي ودولي ، والبناء عليه ليشكل بداية لمرحلة جديدة في التعاطي مع قضية الأسرى بملفاتها المختلفة .
- الإتفاق بحاجة إلى ضمانات مصرية وفلسطينية لتطبيقه وإلزام " إسرائيل " بترجمته ، ضمانات مصرية لأنها الراعي له ، وضمانات فلسطينية للتصدي لأي اختراق محتمل ، من خلال وحدة الأسرى والإبقاء على روح المواجهة قائمة ، ومن خلال استمرار الفعاليات التضامنية معهم ، والتشبيك مع كافة المؤسسات الإقليمية والدولية والجاليات في العالم التي أعلنت تضامنها مع إضرابهم ومطالبهم العادلة ، وإذا نجحنا في ذلك فهذا سيشكل عامل ضغط على حكومة " إسرائيل " وسيجبرها على الإلتزام ببنود الإتفاق .
- على المؤسسات الحقوقية والإنسانية المحلية والعربية أن تتحمل مسؤولياتها الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية ، وأن توظف تجاربها وعلاقاتها الدولية في هذا الاتجاه ، وأن تبادر الى تشكيل شبكة حقوقية إنسانية دولية ضاغطة ومؤثرة لفضح ما يتعرض له الأسرى وذويهم من انتهاكات .
- القرارات الرسمية الفلسطينية والعربية لا سيما من قبل الجامعة العربية وخاصة التوجه للأم المتحدة وطرح قضية الأسرى وتشكيل لجنة دولية ومبعوث أممي ، هي قرارات مهمة للغاية وتندرج في سياق الجهود المبذولة من أجل تدويل قضية الأسرى ، ولكن يجب أن يسبقها خطوات فلسطينية وعربية ستدعمها مثل تعيين ملحق خاص مختص بشؤون الأسرى في كافة سفارات فلسطين بالعالم ن وتشكيل لجنة عربية منبثقة على الجامعة العربية ومبعوث عربي مهمتهم تفعيل قضية الأسرى على المستوى العربي .
- لاحظت وخلال الأشهر القليلة الماضية بأن خطابنا يعتمد فقط على اللغة العربية ، دون اللجوء الى ترجمة التقارير والبيانات إلى لغات أخرى ، وهذا يترك علامات استفهام كثيرة حول قدرتنا في التاثير على الراي العام الدولي .
- كما وافتقرت الفترة الماضية إلى الدراسات العلمية المفصلة حول مطالب الأسرى وتعريف الناس بها وبأهميتها ومدى توافقها مع المواثيق والاتفاقيات الدولية ، وكذلك دون التفكير في إنتاج أفلام وثائقية تتحدث عن معاناة الأسرى بلغة يفهمها العالم أجمع وتبث عبر الفضائيات والإنترنت والتكنولوجيا الحديثة لتؤثر على الرأي العام العالمي .
وفي الختام فان أكثر ما يقلقني هي فترة ما بعد الانتصار ، وأخشى ( لا قدر الله ) أن نغرق في أفراحنا واحتفالاتنا، وأن يكون تضامننا مع الأسرى مرحليا وموسميا ، وأن ينتهي بانتهاء الإضراب ... وهذا أخطر ما في الأمر .
فيما تنجح وبالمقابل وتدريجيا إدارة السجون في سلب نشوة الانتصار ومصادرة ما تحقق تحت ذرائع مختلفة ، في ظل تراجعنا واستمرار تشتت جهودنا ، بل وأن تلجأ للانتقام منهم تلبية لرغبة بعض أعضاء الكنيست الذين وصفوا الإتفاق بالهزيمة والخطأ الفادح ، ومنهم من اعتبروا يوم التوقيع على الإتفاق بـ " اليوم الأسود على اسرائيل " ..
موضوعات ذات صلة بالإضرابات الأخيرة :
-وزارة الأسرى : الأبعاد الإستراتيجية لانتصار الأسرى في معركة الأمعاء الخاوية 19-5-2012
- تداعيات خبر استشهاد الأسير ثائر حلاحلة ..؟؟؟ بقلم / عبد الناصر فروانة 8-5-2012
- دعهم يضربون حتى الموت ... بقلم/عبد الناصر فروانة 3-5-2012
- الإضراب الفردي.. رؤية نقدية بقلم/عبد الناصر 14-4-2012
- فروانة : الأسيرة " هناء " تسجل الإضراب الأطول في تاريخ الأسيرات 27-3-2012
- " خضر عدنان ".. حالة نضالية فريدة... بقلم/ عبد الناصر فروانة 20-2-2012
- فروانة : اضراب " خضر عدنان " غير مسبوق وهو الأطول في تاريخ الحركة الأسيرة 11-2-2012
- فروانة : بوحدتنا نجعل" الأربعاء " يوماً وطنياً وعربياً للتضامن مع " خضر " والأسرى 13-2-2012
- فروانة : الأسير " خضر عدنان " يوحد غزة التي انتفضت اليوم لنصرة قضيته 17-2-2012
- أسير يُضرب عن الطعام 75 يوما لإنهاء الانقسام .. بقلم / عبد الناصر 28-7-2012
عبد الناصر فروانة
أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية
عضو اللجنة المكلفة بمتابعة شؤون الوزارة بقطاع غزة
0599361110
الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان