هل أصبحت ثقافة تبادل الأسرى جزءا من هوية الفلسطينيين؟
غزة ـ عربي21 ـ مصطفى عبد الرحمن
الخميس، 24 يونيو 2021 08:07 ص بتوقيت غرينتش
لا يختلف الشعب الفلسطيني عن باقي شعوب المنطقة العربية والإسلامية لجهة القيم التي تربط بين أفراده وتماسكه الأسري الذي ظل أهم مقوم من المقومات الفلسطينية، التي حالت دون الاحتلال وتفكيك هذا المجتمع أو تذويبه في نسيجه.
وعلى مدى تاريخه نشأت عائلات فلسطينية كبرى مثل: القدوة، والعلمي، والريس، والشوا،
والنجار، وثابت، البرغوثي وغيرها من العائلات ذات الامتداد المتشعب وتوزعت في مختلف
أنحاء فلسطين، حتى لما جاء الاحتلال منتصف القرن الماضي نجحت هذه التركيبة في
الدفاع عن نفسها ووطنها وهي لا تزال تفعل ذلك إلى يومنا هذا على الرغم من فداحة
الثمن الذي يتكبدونه جراء ذلك إلا أنهم يدركون أنه ضريبة الحرية والتحرير.
وعمد الاحتلال منذ أن وطئت قدماه أرض فلسطين عام 1948م عبر العصابات الصهيونية
المشهورة على تقطيع أوصال الشعب الفلسطيني عبر النفي والتشريد والقتل، والأسر مما
اضطر الناس للدفاع عن أنفسهم وعن دمائهم وأعراضهم وأرحامهم بأساليب مختلفة، بهدف
الحفظ والسلامة.. وأعطى الشعب الفلسطيني دروسا ملموسة للعالم في تثبيت القيم
الإنسانية والفطرة التي خلق الله الإنسان عليها.
ولأن الحروب والمعارك سجال، فقد اعتمد الشعب الفلسطيني في هذا السياق سياسة
المعاملة بالمثل، من خلال اختطاف الجنود الإسرائيليين لمبادلتهم بالأسرى في سجون
الاحتلال بعدما فشلت الوسائل الأخرى في تحريرهم من الأسر لتصبح بذلك أداة فلسطينية
هدفها إنساني بامتياز، وهو تحرير آلاف الأسرى والهدف الأسمى تبيض السجون.
لم يكن الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط" الذي يحتفي الفلسطينيون هذه الأيام في
الذكرى السنوية الخامسة عشرة لأسره من داخل دبابته بعد عملية "الوهم المتبدد"
الفدائية التي نفذت في موقع كرم أبو سالم العسكري شرق مدينة رفح جنوب قطاع غزة في
25 حزيران/ يونيو 2006؛ الجندي الأول الذي تقوم المقاومة بأسره ولن يكون الأخير في
ظل احتفاظ المقاومة بأربعة جنود آخرين في قبضتها ولكنه يبقى الجندي الأشهر.
كافة السياسيين في العالم ورؤساء الدول حفظوا اسم "شاليط" عن ظهر قلب، على الرغم من أن أسره لم يدم سوى 5 سنوات، في حين أن مئات الأسرى أمضوا أكثر من ربع قرن من الزمان في سجون الاحتلال لا أحد يذكرهم من ساسة العالم وهم في غياهب السجون..
ويقول عبد الناصر فروانة، الأسير المحرر والمختص بشؤون الأسرى: "إن عملية
تحرير الأسرى، ليست واجبا وطنيا ودينيا وأخلاقيا وإنسانيا وقانونيا فحسب، وإنما هي
ضرورة حيوية ليس فقط لتعزيز ثقافة الصمود وروح المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، وإنما
أيضا
لحماية النسيج الوطني الفلسطيني ودعم قيم السلام والأمن التي يطمح لها كل بني
البشر.. ومن هنا حاولت الفصائل كثيرا ونجحت مرارا وسجلت انتصارات عديدة عبر ما
يُعرف بصفقات تبادل الأسرى، وتمكنت منذ العام 1967 من تحرير أكثر من 7000 أسير
وأسيرة".
وأضاف فروانة لـ "عربي 21": "إن صفقات التبادل، برغم اختلاف الظروف وتفاوت النتائج فيما بينها، حققت انتصارات نضالية وسياسية في غاية الأهمية، وشكلت حالة معنوية عالية ودعما كبيرا للأسرى وعوائلهم وشعبهم، ومع كل محاولة أسر جديدة كان الأمل يكبر. فصفقات التبادل السابقة فرضت معادلات جديدة ونجحت في كسر اللاءات الإسرائيلية وما كانت تعتبره إسرائيل محرمات، وأثبتت أن بمقدور المقاومة الفلسطينية الإفراج عن أسرى فلسطينيين وعرب كثيرا ما رفضت دولة الاحتلال الإفراج عنهم، أو كانت تزعم استحالة إطلاق سراحهم وخاصة من كانت تصنفهم ظلما بـ (الأيادي الملطخة بالدماء)".
وتابع: "إن تعامل إسرائيل الشاذ مع الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين وتصنيفاتها
الظالمة عقب اتفاقية أوسلو، وتهربها من استحقاقات العملية السلمية وتنصلها من
الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى المعتقلين قبل أوسلو في إطار التفاهمات
السياسية عام 2013، ولّد شعورا لدى الفلسطينيين بعجز الحل السلمي في الإفراج عن
الأسرى، وبالمقابل عزز لديهم الشعور بأن خيار القوة المتمثل بـصفقات التبادل هو
الخيار المجدي لانتزاع حرية أسراهم، وكأن إسرائيل تدفعهم أو تدفع بعضهم قسرا إلى
هذا الخيار الذي أثبت جدواه ويرونه بديلا عن الحل السياسي. كما ويدفع من يمتلكون
بعضا من أوراق القوة اليوم إلى التمسك بها والتشدد بمطالبهم خلال مفاوضات صفقات
التبادل. وفي كل مرة نجح الفلسطينيون فيها في إجراء عملية تبادل، كان هذا يشجعهم
على تكرار المحاولة من جديد، لاسيما أن كثيرا من الفلسطينيين يدركون أن من بين
الأسرى، من لا أمل لهم بالإفراج، إلاّ في إطار صفقات التبادل".
وأشار فروانة إلى أن الدولة العبرية سعت عقب صفقة وفاء الأحرار1 عام 2011م إلى
التضييق أكثر على الأسرى وملاحقة المحررين وإعادة اعتقال العشرات منهم، في محاولة
يائسة لانتزاع الفرحة ونشوة الانتصار وإفراغ الصفقة من مضمونها وبث الإحباط لدى
الفلسطينيين، وما زالت تحاول بين الفينة والأخرى ربط ملف جنودها المأسورين في غزة
بملفات رفع الحصار والتهدئة وإعادة الاعمار عقب العدوان الأخير، وذلك للتقليل من
استحقاقات التبادلية وإفراغ الصفقة القادمة من مضمونها حتى لا تشجع الفلسطينيين
على تكراراها، حسب معتقداتها.
وقال: "ما تحقق من انتصار في صفقة وفاء الأحرار وما تابعناه لاحقا وكُشف عنه مؤخرا بعد العدوان الأخير على غزة من خفايا إخفاء شاليط وماراثون المفاوضات بشأن صفقة التبادل السابقة، يعزز من فرص التفاؤل والقدرة على إدارة هذا الملف بنجاح، وربما تحمل الفترة المقبلة مفاجآت سارة بهذا الخصوص، ونحن على ثقة بأن صفقة تبادل جديدة تلوح بالأفق، وهي آتية، عاجلا أم آجلا".
وأوضح المختص في شؤون الأسرى أن مجمل عمليات تبادل الأسرى، التي جرت بين دولة
الاحتلال والعرب منذ العام 1948م قد وصل إلى40 عملية، بدأتها عربياً جمهورية مصر
العربية في 27 شباط/ فبراير 1949، ثم فلسطينياً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،
بتاريخ 23 تموز/ يوليو 1968م، وكانت أخيرا صفقة "وفاء الأحرار1" في 18 تشرين
أول/
أكتوبر 2011م.
ومن جهته أكد رياض الأشقر، مدير مركز فلسطين لدراسات الأسرى أن الاحتلال لا
يفهم سوى لغة القوة، وأن الأحداث قد أثبتت على مدار تاريخ المقاومة الفلسطينية أن
عمليات خطف الجنود ومبادلتهم بأسرى هي أقصر الطرق لتحرير الأسرى من سجون الاحتلال.
وأضاف الأشقر في حديث مع "عربي21": "هذا الأمر ترك انطباعا قويا لدى المواطنين الفلسطينيين بجدوى عمليات خطف الجنود وتنفيذ صفقات تبادل، وخاصة بعد صفقة وفاء الأحرار عام 2011 التي تحرر بموجبها ما يزيد على ألف أسير وأسيرة، نصفهم تقريباً من ذوى المؤبدات والأحكام العالية.
ومن جهته أشاد الكاتب والصحفي حسن جبر بالدور الذي لعبه الإعلام الفلسطيني
في نجاح صفقة وفاء الأحرار الأولى منذ خطف شاليط حتى تنفيذ هذه الصفقة، والتزامه
الوطني بهذه القضية رغم محاولات الاحتلال الحثيثة لحرف دوره من خلال المعلومات
المضللة التي كان ينشرها عن الصفقة.
وقال جبر لـ "عربي21": "الإعلام الفلسطيني سجل نجاحا ملحوظا في قضية شاليط إلى جانب النجاح الكبير الذي سطرته المقاومة واستطاعت من خلاله تحرير ما يزيد على الـ١٠٠٠ أسير وأسيرة من سجون الاحتلال".
وأضاف: "التزم الإعلاميون الفلسطينيون بالتعليمات والتنبيهات التي أصدرتها فصائل المقاومة منطلقين من فهمهم الوطني بضرورة عدم إشاعة أية أخبار أو معلومات وضرورة الحفاظ على معنويات أهالي الأسرى وعدم بث أخبار كاذبة أو أخبار غير صحيحة".
وأشار إلى أن الإعلام الإسرائيلي وبعض وسائل الإعلام الدولية أو الإقليمية حاولوا الوصول إلى أي خبر أو معلومة لتشكل سبقا صحفيا مهما.
مستدركا بالقول: "هنا تجلى الدور الوطني للإعلام الفلسطيني الملتزم وبدأ في الحديث
عن الأسرى في سجون الاحتلال والانتهاكات التي يتعرضون لها منطلقين من ضرورة وأهمية
الإفراج عن الأسرى الذين أمضوا سنوات طويلة من أعمارهم".
وأضاف: "في المقابل بدأت ماكينة الدعاية الإسرائيلية في العمل على ترويج قصة الجندي
جلعاد شاليط ومحاولة تحويلها إلى قصة إنسانية تستوجب التعاطف، إلا أن هذه المحاولات
باءت بالفشل بعد أن نجح الإعلاميون ورجال المقاومة في ترويج القصة الحقيقة له وأنه
جندي إسرائيلي جاء بسلاحه الثقيل على ظهر دبابة ليقتل المدنيين الفلسطينيين ويهدم
منازلهم".
وتابع: "في المقابل أيضا انطلقت حملات إعلامية فلسطينية تتحدث عن بعض الأسماء
البارزة للأسرى الفلسطينيين الذين أمضوا سنوات طويلة في السجن وأولئك الذين يعانون
من أمراض مزمنة إلى جانب قصص النساء والأطفال كانوا يعيشون أوضاعا مزرية".
واستعرض جبر وهو أسير محرر ويكتب باستمرار عن الأسرى في سجون الاحتلال؛ وضع الأسرى
في السجن قبل خطف شاليط وبعد خطفه وكذلك ذويهم الأمل الذي عاشوا عليه حتى تم إتمام
هذه الصفقة ووصلوا إلى ذويهم بسلام.
وقصص الأسرى الفلسطينيين وعائلاتهم مع معاناة الأسر ثم فرحة الإفراج عنهم وعودتهم إلى أهاليهم أصبحت من المظاهر المألوفة في فلسطين.
بالتأكيد ليس الشعب الفلسطيني هو من ابتدع تبادل الأسرى في الحروب والمعارك، فهذه ظاهرة اقترنت بالصراعات والحروب عبر التاريخ، لكن الفلسطينيين طبعوها بطابعهم الخاص..