أول الشهداء من الأسرى المقدسيين ..
" قاسم أبو عكر ".. ناضل فاعتقل فصمد ثم نال الشهادة خلف القضبان الإسرائيلية
جنين – كتب / علي سمودي
الأسرى المقدسيون هم جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية الأسيرة ، يتعرضون لما يتعرض له الآخرين من انتهاكات وتعذيب واهانة وقسوة وحرمان ، بل أن معاناتهم تفوق معاناة الآخرين لكونهم من القدس وهذه حقيقة ، ومع ذلك شكَّلوا حلقة مميزة من حلقات الحركة الأسيرة ، بنضالاتهم وتضحياتهم وصمودهم خلف القضبان ، وسطروا صفحات مضيئة في تاريخ الحركة الأسيرة بصمودهم وعطائهم وتضحياتهم ، وأن قائمة شهداء الحركة الأسيرة تضمنت أسماء ( 16 ) أسيراً مقدسياً ، كان أولهم الشهيد الأسير قاسم عبد الله قاسم أبو عكر الذي استشهد في 23 مارس / آذار عام 1969 في معتقل المسكوبية بالقدس المحتلة ، تلاه الحاج رمضان واسحق مراغة وعمر القاسم والعكاوي وعبيدات وأبو هدوان وأبو اسماعيل وغيرهم.
الباحث المختص في قضايا الاسرى عبد الناصر فروانة مدير دائرة ومدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطيني يسلط الضوء على أول الشهداء المقدسيين خلف القضبان الشهيد أبو عكر " في الذكرى اـ42 لإستشهاده .
الشهيد في سطور
مع انطلاقة الثورة وحركة "فتح " لم يتاخر ابو عكر عن حمل راية النضال في سبيل فلسطين ، فالتحق في صفوفها وكان له دور نضالي بارز في مدينة القدس المحتلة حيث ولد ونشا وتربي وعاش وتزوج ورزق بطلفلين لكن كل ذلك لم يؤثر على قراره وواصل مسيرته النضالية . وافاد فروانة ، ان قوات الاحتلال الاسرائيلي اعتقلت ابو عكر من بيته في القدس، أوائل آذار من عام 1969 ، على رأس مجموعة بتهمة الإنتماء لحركة " فتح " ومقاومة الإحتلال ، وزُج به في معتقل المسكوبية أو " المسلخ " كما يصفه الأسرى ، وتعرض لصنوف مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي ،تستدعي صفحات طويلة لوصفها وتفنيدها.
الصمود والتحدي
ورغم حداثة تجربته ، شكل ابو عكر عنوان للصمود ، ويقول فراونة " منذ اللحظات الاولى كان قراره الفدائي بعدم الاعتراف ، وأصَّر أن يبقى صامداً شامخاً ، شموخ العظماء المنتصرين فوق الأرض ، أو مع الشهداء القديسين في جوفها ، فأطبق فمه وشل عضلة لسانه عن الحركة طواعية ، ولم ينبس ببنت شفه ، فقهر المحقق بصمته ، ولم تنل فترة التعذيب من عزيمته ، أو تزعزع ارادته ، وفشل السجان بجبروته في انتزاع ولو حرف واحد منه، فانحنى السجان ومن معه وكل من يقف من ورائهم أمام صمود هذا الرجل العظيم ، الذي فضَّل الإستشهاد على الإعتراف ، فضَّل التضحية بحياته على أن يفرط باسرار الوطن والمقاومة ورفاقه ، فضَّل الصمود والإنتصار في أصعب الظروف وأحلك اللحظات ، فضّل الإستشهاد والرحيل الأبدي بكرامة وعزة على البقاء مذلولاً ومهاناً ، تاركاً خلفه زوجته تغريد " أم خالد " وطفليه .
شهادة الزوجة
ويرصد فروانة في تقريره ، رواية الزوجة الوفية الصابرة " أم خالد " التي أعتقلت معه في الأيام الأولى لإعتقاله ، للضغط عليه واجباره على الإعتراف ، وتقول ( بعد صموده وتحديه حاولوا الضغط عليه باعتقالي ، ولكنه لم يتراجع او يستسلم ، لانه كان يؤمن بقضيته العادلة ورسالته الوطنية التي وهب حياته لها " ، وتضيف مع فشل الضغوطات واساليب التحقيق المروعة و بعد مضي أسبوعين جاءني أحد المحققين يقول لي قررنا اطلاق سراحك بكفالة والدك ، وخرجت من السجن ، وذهبت إلى منزل والدي حيث كان طفلاي، فوجدته يعج بالأقارب دون أن أعرف السبب ، ولم أفكر حينها أن شيئاً قد حدث لزوجي ، وفي اليوم التالي أبلغني والدي بنبأ استشهاده ،
طريق الشهادة
لم يتوقف التحقيق رغم تدهور حالته الصحية ، ويقول فروانة " الذين قابلوه خلال التحقيق اكدوا تمتعه بمعنويات عالية رغم اوضاعه الصحية الصعبة لان المحققين رفضوا وقف التعذيب ، وهكذا استشهد استشهد في الثالث والعشرين من مارس/آذار عام 1969 في أقبية التحقيق في معتقل المسكوبية ، جراء تعرضه لتعذيب قاسي ، فكان من أوائل من استشهدوا جراء ذلك ، فيما سجل اسمه كأول أسير مقدسي يصمد ويستشهد في سجون الإحتلال ليحتضنه ثرى الوطن ".ويضيف فروانة " في ذلك الزمن الصعب أسس الشهيد لمرحلة جديدة من المواجهة المباشرة وامكانية الإنتصار خلف القضبان ، فغدى اسمه عنواناً للصمود ، ونموذجاً رائعاً ، حاضراً في ذاكرة الأسرى في أقبية التحقيق ، فتغنى الجميع باسمه الذي أصبح يتردد على كل لسان ، ودُرسَّت تجربته في الجلسات الثقافية لكافة التنظيمات باختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية " .
اطمس الحقيقة
لكن في المقابل ، كان الاحتلال يحاول قلب الحقيقة حول ظروف وملابسات استشهاده لذلك اتخذ كل الاجراءات لتسريع دفنه ومنع فضح تفاصيل الجريمة ، وتتذكر الزوجة ام جهاد تلك اللحظات وتقول " بين الصدمة والحزن والالم عشت في انتظار رؤيته والتاكد من استشهاده ، خاصة وان الاحتلال حاول طمس الحقيقة ، فارغمنا على دفن جثمانه في ساعات الليل الحالك ، حيث جرى تسليم الجثة إلى المستشفى لتشريحها ثم تم دفنها فوراً وبمشاركة بضعة أفراد من الأسرة تحت رقابة العشرات من رجال الشرطة والجنود المدججين بالسلاح، وجرى دفنه في مقبرة باب الساهرة بالقدس التي تحولت إلى ثكنة عسكرية في ساعات الليل" .
واضاف فراونة " شكل وطريقة دفن جثمان الشهيد واجبار ذويه على وضع كتلة اسمنتية فوق القبر وقبل مغادرتهم للمقبرة ، اثار العديد من التساؤلات واهمها انه ربما يكون جثمانه قد تعرض لسرقة بعض أعضائه لا سيما بعدما اكتشفت حالات كثيرة تم خلالها سرقة أعضاء الشهداء من قبل سلطات الإحتلال ، وبالرغم من ان سلطات الإحتلال حاولت أن تفبرك أسباب كاذبة مدعية بأنها هي التي أدت لوفاته ، فتارة زعمت مريض بالكلى وتوفي بسببها، الا ان زوجته اكدت أنه لم يعاني من أي أمراض قبل اعتقاله ، وفي رواية اخرى قالت انه أصيب خلال نقله إلى سجن آخر في حادث سير تعرضت له السيارة التي كانت تقله وتوفي على الفور ، وفي رواية ثالثه أنه ألقى بنفسه منتحراً من الطابق الرابع لمبنى المسكوبية ، إلا ان ما أشاعته لم يلقَ رواجاً ولا قبولاً عند أحد ، حتى أن " مستشفى شعاري تصديق " الذي نقلت الجثة اليه لتشريحها أصدر تقريراً أكد فيه أن الشهيد وصل إلى المستشفى جثة هامدة ولم يفقد الحياة وفق ما ذكرته السلطات خلال علاجه من اصابته في المستشفى. واكد فراونة ان كافة شهادات من رأوا الجثة قبل دفنها ، يؤكدون بأن " الجثة " كان عليها آثار التعذيب والكدمات والضرب كانت اضحة جداً ، لتحتضن القدس عريس الثورة .
استهداف القدس
ويؤكد فروانة في ذكرى استشهاد ابو عكر وتوالي سقوط قوائم الشهداء الأسرى ، ان القدس لم تكن يوماً كأرض وهوية ، قضية وسكان ، خارج دائرة الإستهداف ، فأصر أبنائها على رفضهم كل أشكال الظلم والإضطهاد والإستيطان والتهويد ، فشاركوا بفاعلية في مقاومة الإحتلال والإستيطان ، وكانوا ولازالوا جزء لا يتجزأ من الحركة الوطنية الفلسطينية وقدموا آلاف الشهداء والجرحى والأسرى ، ولازال منهم المئات قابعين في سجون الإحتلال ، بعضهم منذ عشرات السنين ، فيما أقدمهم الأسير فؤاد الرازم المعتقل منذ يناير عام 1981. واضاف "القدس أنجبت قادة عظام لعبوا دوراً أساسياً في فولذة الحركة الوطنية الأسيرة وتصليب عودها في مواجهة ادارة السجون ،وقدمت خلال العقود الماضية كوكبة من الشهداء الأسرى ، فمنهم من استشهد جراء الإهمال الطبي ومنهم من دفع بحياته ثمناً لصون أسرار رفاقه وأبناء شعبه فكان نداً قوياً في أقبية التحقيق حتى وهو مكبل بالسلاسل كالأسير " أبو عكر " .
استمرار التعذيب
واكد فروانة ان الاحتلال ورغم مرور42 عاما على استشهاد ابو عكر ، فان الاحتلال لا زال يمارس التعذيب ليس كحالات شاذة و نادرة ، أو كمبادرة شخصية من بعض المحققين والسجانين ، بل سياسة ومنهج ،وشكل مع الوقت ممارسة ثابتة وتقليد يومي وجزء لا يتجزأ من المعاملة اليومية مع المعتقلين ،واضاف والتعذيب لم يكن يوماً ممارسة مقتصرة على المحققين، بل هو سلوك يرتكبه كل من يعمل بالمؤسسة الأمنية بمن فيهم المحقق والسجان وليس انتهاءا بالممرض والطبيب وعامل النظافة وموظف الإدارة ، فجميعهم يتبنون ذات الثقافة الإنتقامية من المعتقل باعتباره " عدو " .
اجازة قانونية للتعذيب
وفي تطور خطير جداً، اشار فروانة الى ان الاحتلال اجاز التعذيب قانوناً في منتصف الثمانينات ، وحظىَّ بشرعية قانونية وحصانة قضائية ، مما كفل لمقترفيه الحصانة والحماية القضائية ، وعدم الملاحقة والمحاسبة ، مما دفعهم الى التمادي في ممارساتهم التي أصبحت أكثر قسوة ومنهجية ، وأدت الى استشهاد العشرات من المعتقلين بشكل مباشر ، أو نتيجة أمراض ورثوها جراء التعذيب .
ودعا فروانة ، الى تخليد ذكرى الشهيد ابو عكر وتجربته النضالية ومعركة الحرية والشهادة لتكون ضمن التاريخ الفلسطيني الذي تدرسه وتحفظه الاجيال الفلسطينية وتستمد منه العبر في الصمود والصلابة في اقبية التحقيق من جهة ، ولاطلاق صرخة واسعة النطاق تؤسس لتحرك لكافة الجهات تطالب بوقف كل ما تمارسه اسرائيل من اساليب تعذيب بحق ابناء شعبنا لحماية الاسرى خاصة في مرحلة التحقيق ، واضاف " علينا ان نقرع ناقوس الخطر في ذكرى رحيل ابو عكر لأن الأسباب التي أدت لاستشهاده لا زالت قائمة وهي ذاتها التي أدت لاستشهاد العشرات من بعده داخل السجون ، ومئات آخرين استشهدوا جراء ذلك بعد خروجهم من السجن ، ولا زال المسؤولين عن ذلك طلقاء دون محاسبة ".
ودعا لتشكيل لجنة دولية متخصصة في فتح ملفات شهداء الحركة الاسيرة ومتابعتها في المحافل الدولية لمحاكمة المسؤولين عن سقوط الضحايا بسبب التعذيب وفق القانون الدولي الانساني .
*نشر يوم الأحد 20-3-2011 في صحيفة القدس المقدسية ، وفي العدد الـ12 من ملحق الأسير الذي يوزع مع صحيفة الشعب الجزائرية