في اليوم العالمي للطفل: تجربة شخصية

 

بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

أسير محرر وكاتب مختص بشؤون الأسرى

21-11-2019

 

يُخطئ الاحتلال الإسرائيلي إن اعتقد أن تحقيق أمنه واستقراره، وتأمين سلامة مواطنيه سوف يتأتى عبر اعتقاله للمواطنين العُزل. ويُخطئ كذلك ان ظن أن السنين بإمكانها أن تمحو الصورة المؤلمة التي طُيعت في أذهان الأطفال الفلسطينيين. فلا هو نجح باعتقاله للآباء في القضاء على كره أطفالهم له وتغيير سلوكهم تجاه وجوده، ولا باعتقاله لعشرات الآلاف من الأطفال قد حافظ على أمنه وسلامة مواطنيه من خطر ما بعد بلوغهم. فالحقيقة التي يجب أن يدركها الاحتلال، أن الأمن والاستقرار لم ولن يتحقق إلا بإنهاء الاحتلال.

ومخطئ من يعتقد أن مرور السنون والعقود يمكن أن تمحو صورة قاسية انطَبعت في ذهن طفل تعرض لحادث يفوق قدرته على التحمل، وما يصطلح على تسميته بـ (الصدمة)، فالصدمات النفسية في الصغر لا تُمحى. تلك التي عادة ما تكون ناتجة عن أحداث مؤلمة بشكل كبير مرّ بها الطفل نفسه أو تعرض لها شخصياً، وقد تكون نتيجة مراقبة لأحداث كبيرة شاهدها الطفل أو راقبها. وواهم من يظن كذلك أن  بمقدور السنين أن تُنسي الطفل تلك الأحداث مع تقدمه بالعمر، أو أن تُزيل تأثيرات الصدمة التي أحدثت له آثارا عميقة في صغره. فهي يمكن أن تتكرر في الظهور في كبره كلما تذكر أو شاهد أي شيء يرتبط بالحدث الأصلي. هكذا يقول علماء النفس وهذا ما يؤكده الواقع.

ان "صدمة" الاعتقال والسجن والتعذيب، تترك تأثيرات فظيعة على الصحة النفسية للأطفال وتكوين شخصياتهم وسماتهم النفسية وخصائصهم بدرجة أعلى من البالغين، سواء أكانوا أولئك الذين مرّوا بتجربة الاعتقال والسجن بشكل مباشر، أم أولئك الأطفال الذين عُذبوا وعانوا من تداعيات اعتقال أحد الوالدين أو كليهما. فيما الحالة الفلسطينية تشير الى أن غالبية الأطفال الذين تعرضوا للاعتقال والسجن بشكل مباشر أو غير مباشر، بقيت صور معاناتهم في أذهانهم، ونما لديهم شعور متزايد من الكراهية للاحتلال، مما يدفعهم دوما نحو العنف والانتقام.

هذا ما حدث معي، وهذه حكاية اسرتي مع السجن الإسرائيلي. حيث اعتقل والدي –حفظه الله- في الثالث من آذار/مارس عام1970، فعرفت السجون من يومها، وحفظت مفرداتها، ومن ذاك اليوم والصورة بكل ملامحها وتفاصيلها عالقة في ذهني وماثلة أمام ناظري، تُلازمني وتُصر على البقاء والتجذر عميقاً في الذاكرة وترفض الرحيل الأبدي، أو حتى لمجرد المغادرة المؤقتة.

حكاية، بدأت فصولها باقتحام قوات الاحتلال لبيتنا الصغير في منتصف تلك الليلة، في حي "بني عامر" شرق مدينة غزة، لغرض ارهابنا وتخويفنا، بل وبث الرعب لدى كل المحيطين بنا، وكنت حينها صغيرا ولم يكن عمري قد تجاوز الثلاث سنوات، وكنت أهجي حروف اللغة العربية، ولم أكن قد تعلمت بعد أبجديات الاحتلال، وبعدها أصبحت أمي –أطال الله في عمرها- تحملني في حضنها وبين ذراعيها وأخذت تنقلني رغما عنها بين السجون حيثما يكون الأب متواجداً، فحفظت مفردات الاعتقال والسجن قبل أن أجيد تعلم حروف اللغة. واستمر هذا الحال لأكثر من خمسة عشر عاما متواصلة، قبل أن يتحرر أبي في إطار صفقة التبادل عام 1985.

وعلى الرغم من مرور نحو قرابة خمسين عاما على تلك الحادثة، وصغر سني حينذاك، إلا أنني لا زلت أتذكر المشهد وأروي تفاصيله وطريقة اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالسلاح لبيتنا الصغير والعبث بمحتوياته، وركلهم لنا ونحن نياما بأقدامهم وأعقاب بنادقهم، فاستيقظنا على وجوه الجنود المتوحشة، بالرغم من أن قوات الاحتلال كانت قد اعتقلت "أبي" من مكان عمله شرق المدينة في وقت سابق من نهار ذاك اليوم.

هذا المشهد لا يزال ماثلا في ذهني، ولم تستطع الأيام والعقود محوه أو إزالته، وهو ذاته وما أضيف له من مشاهد، كان سببا رئيسيا في التحاقنا المبكر بالمقاومة ويدفعنا للالتصاق دوما بقضية الأسرى.

فيما الذاكرة لم تسعفنِ يوماً في استحضار الفترة التي سبقت اعتقاله، أو حتى استحضار دقائق معدودة وهو يداعبني خلالها، أو حتى لحظات محدودة وأنا في حضنه. بل واستجديت الذاكرة مرارا لاستحضار مجرد مشهد واحد، أو حتى لصورة تجمعني به هنا أو هناك وهو يداعبني ويقبلني في طفولتي. ولكن شيئا مما تمنيته لم يحدث.!

فطفولتنا بدأت بمشهد اقتحام وتنكيل، واعتدنا على طريق المحاكم العسكرية قبل أن نعرف لرياض الأطفال طريقاً، وترددنا على السجون وحفظنا أسماءها قبل أن نحفظ أسماء مدارسنا، وجلسنا على شبك الزيارة قبل أن نجلس على مقاعد الدراسة، وحفظنا مفردات السجن والاعتقال قبل أن نتعلم حروف اللغة العربية، فأي مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تكون خارج نطاق الأسرى وقضاياهم العادلة ؟.

فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأتحول أنا الآخر بدوري إلى أسير لأربع مرات، لم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد جمال -الذي أبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور- حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالب في الصف العاشر لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضى سنتين إضافيتين.

لقد اعتُقلنا سويا، وفي سجون متباعدة المسافة، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصور مدى معاناتنا ومعاناة والدينا، فبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أخرى. فالأمور تغيرت وانقلب الحال، فالوالد الأسير أصبح زائراً، والصغار كبروا وأصبحوا أسرى، والسجون بقيت على حالها، والوالدة -أطال الله في عمرها- باتت تحفظ أسماء السجون ومواقعها. وكانت زائرة دائمة التردد على السجون طوال ربع قرن دون انقطاع.

واليوم، وبعد مرور عقود طويلة، مازالت الصورة عالقة في ذهني، وكلما سمعت أو كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم وأبنائهم، اضطررت لاستحضار تجربتي الشخصية، لهذا تجدني أشعر بالألم، وكلما شعرت بالألم، ازددت إصراراً على المضي قدماً لبذل مزيد من العمل من أجل الحرية. ومع حرية الأسرى نقرأ فجر حرية الوطن.