العشرون من آيار عصي على النسيان

 

 

بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

20آيار/مايو2019

 

يوم الاثنين الموافق 20 آيار/مايو من عام ألف وتسعمائة وخمسة وثمانين، لم يكن يوما عاديا، وهو ليس كباقي الأيام في مسيرة شعب يقاوم من أجل انتزاع حريته. يوما استثنائيا في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة والحركة الوطنية الأسيرة. يوماً محفوراً عميقاً في الذاكرة الفلسطينية وعصي على النسيان.

وإذا كان التاريخ الفلسطيني يحفظ ذاك التاريخ بفخر وعزة، وهذا ما يجب أن يؤرخه المؤرخون، فإن الذاكرة الشخصية تحفظه بسعادة منقطعة النظير. ليس لأن أبي تحرر في مثل هذا اليوم فقط. أو لأنني تمكنت من احتضانه وللمرة الأولى في حياتي دون قيود ومراقبة السجان والجنود، في لقاء مفتوح دون تحديد للوقت والزمن، بعد اعتقال وفراق امتد لما يزيد عن خمسة عشر عاما. أو لأن مجموعة كبيرة من الأقارب والأصدقاء قد أفرج عنها في ذاك اليوم فحسب، وانما لأن ذاك اليوم شهد انتصاراً باهراً للإرادة والعزيمة الفلسطينية على عنجهية السجان وصلفه، وكُسرت خلال ساعاته القيود وتحرر فيه ما يزيد عن الألف أسير في إطار صفقة التبادل الشهيرة والتي لعلها من أروع صفقات التبادل في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة. انها عملية "الجليل" التي تمت ما بين الجبهة الشعبية -القيادة العامة وحكومة الاحتلال.  فيا أيها الفلسطينيون أحفظوا هذا التاريخ في ذاكرتكم، واحفروه في سجلات تاريخ ثورتكم ومسيرة مقاومتكم. فهو مفخرة لكم ولكل من عشق المقاومة.

لقد شهد تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي العشرات من عمليات تبادل الأسرى، فيما بين الدول العربية وفصائل المقاومة العربية والفلسطينية من جهة، وسلطات الاحتلال الإسرائيلي من جهة ثانية. ولم تكن تلك العملية التي نتحدث عنها وفي ذكراها اليوم هي الأولى من بين تلك العمليات - حيث سبقها وتلاها عمليات تبادل عديدة – إذ وصل مجموعها إلى تسعة وثلاثين عملية تبادل، وكانت جمهورية مصر العربية قد بدأتها في شباط/فبراير عام 1949، فيما على صعيد الثورة الفلسطينية فان للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الحق بأن تفخر بأنها أول من بدأتها فلسطينيا وذلك في تموز/يوليو عام 1968. وأن حركة "فتح" حققت مثيلاتها أكثر من مرة وحررت العدد الأكبر من الأسرى، وحركة "حماس" أنجزت آخر تلك الصفقات في تشرين أول/أكتوبر عام 2011 والتي تُعرف بصفقة "شاليط" أو كما يُطلق عليها الفلسطينيون بصفقة "وفاء الأحرار".

لكن تلك العملية التي نحتفي بذكراها اليوم كانت هي الأبرز والأروع من بين مجموع عمليات التبادل، والأكثر زخماً. تلك العملية التي اكتسبت بُعداً فلسطينياً وقومياً وعالمياً، فشملت ألف ومائة وخمسين أسيراً من بينهم أسرى أجانب وعرب وفلسطينيي 48 والقدس، بالإضافة إلى أسرى من الضفة الغربية وقطاع غزة، ولم يُستَثنَ أحدٌ، وجميعهم من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، وخُيِّر هؤلاء المحررون في تحديد الجهة التي يرغبون التوجه لها بعد تحررهم. وبالمقابل أطلق الفلسطينيون في منظمة الجبهة الشعبية-القيادة العامة سراح ثلاثة جنود إسرائيليين هم: (الرقيب أول حازييشاي)، أسر خلال معركة السلطان يعقوب، بتاريخ 11حزيران1982، خلال قيادته واحدة من رتل الدبابات الإسرائيلية. أما الجنديان الآخران فهما (يوسف عزون) و(نسيم شاليم)، كانا قد أسرا في "بحمدون" بلبنان بتاريخ 4 أيلول1982، مع ستة جنود آخرين، كانوا بحوزة حركة فتح، وأطلق سراحهم ضمن عملية تبادل سابقة عام 1983.

"صفقة" مميزة بكل حيثياتها، وشكلت حدثاً نوعياً وانتصاراً تاريخيا في مسيرة النضال الوطني الفلسطيني، وسابقة ثورية في كافة نتائجها. كما وشكّلت صفعة قوية للاحتلال بكل مكوناته، وأذلت أركانه، واعتبرت الأكثر وجعاً لأجهزته الأمنية وقيادته السياسية وفقاً لتصريحاتهم عقب العملية.

واشادتي بها اليوم وبالأمس، ليس لأن والدي كان من ضمن المحررين فيها، أو لأنني أعرف الكثير ممن تحرروا بموجبها، أو كون عدد المحررين في اطارها يزيد عن الألف والذين كان لهم دور لافت في اشعال وقيادة انتفاضة الحجارة عام 1987، وانما لأنني متابع لتفاصيلها وعلى دراية بحيثياتها، وأن كافة الوقائع والشهادات والنتائج تؤكد ودون شك أنها كانت الأفضل من غيرها بكل المقاييس.

لهذا وبغض النظر عن تباين المواقف من الجبهة الشعبية-القيادة العامة التي أنجزت تلك العملية، أو حتى عن طبيعة العلاقة بالمحررين أنفسهم وانتماءاتهم الحزبية، فان الواجب الوطني يحتم علينا الإشادة بتلك العملية وبما حققته من انتصار باهر. بالضبط كما اشدنا لاحقا وما زلنا نشيد جميعا بصفقة "شاليط" بغض النظر عن طبيعة مواقفنا ومستوى علاقاتنا بحركة "حماس". إذ أن حرية الأسرى تتطلب التعاون مع كل من يمكن أن يساهم في انتزاعها، وتستدعي الاشادة بكل من ينجح في تحقيقها، بغض النظر عن موقفنا منه وطبيعة علاقتنا به وما يمكن أن يُسجل من تحفظات على سلوكه.

وتحل علينا الذكرى الرابعة والثلاثون لـ "عملية الجليل"، وهناك الآلاف من الفلسطينيين يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأن أكثر من خمسمائة أسير منهم يقضون أحكاما بالسجن المؤبد لمرة أو لمرات عديدة. وأن العشرات من بين أولئك قد مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاما، بل ثلاثين عاما وما يزيد. وأن حرية الكثيرين منهم لن تتحقق إلا في إطار "صفقات التبادل" وهذه الحقيقة المرة التي يجب أن ندركها جميعا ونعمل على اساسها.  

وحيث ان الواجب الفلسطيني يتطلب البحث عن كل الوسائل الممكنة والمشروعة من أجل اطلاق سراح الأسرى وضمان حريتهم، وعدم ابقائهم لسنوات وعقود طويلة في سجون الاحتلال الإسرائيلي. فالكل الفلسطيني مطالب بالعمل بكل الوسائل المشروعة من أجل ضمان ذلك، وفي ظل انسداد الأفق السياسي فان الكل يعلق آمالاً على ما لدى حركة "حماس" في غزة من أوراق يمكنّها من اتمام صفقة تبادل جديدة تنهي معاناة بعضهم وتطلق سراح المئات منهم.

وهنا لابد من التأكيد على أن السلوك الإسرائيلي المتعنت في التعامل مع قضية الأسرى، وتهربها من استحقاقات "العملية السلمية"، واستمرار احتجاز الأسرى لعشرات السنين، هو من يدفع بعض الفلسطينيين الى اللجوء لخيار القوة وبذل المزيد من المحاولات لأسر الجنود الإسرائيليين لتحرير هؤلاء، وأن دولة الاحتلال هي من تتحمل المسؤولية عن ذلك.

إن الشعب الفلسطيني متمسك بحرية الأسرى، شرطاً أساسياً لاستمرار العملية السلمية، حيث لا يمكن لأي اتفاق أو تسوية أن تحقق السلام العادل دون إنهاء الاحتلال وإطلاق سراح الأسرى جميعا. ومن حق الشعب الفلسطيني وقواه الحية والفاعلة اللجوء الى استخدام كافة أشكال الكفاح من أجل ضمان حرية أسراه ودحر الاحتلال والعيش بحرية وكرامة فوق تراب فلسطين.

فكل الاحترام والتقدير لكل من جعل من ذاك اليوم تاريخا تتوارثه الأجيال وتردده الألسن، وعلامة بارزة في مسيرة الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة. والتحية لكل من تحرر من الأسرى في اطار تلك الصفقة الرائعة التي تمت في ذاك اليوم الاستثنائي الذي سيبقى محفورا في ذاكرة شعب ما زال حي ويقاوم.