في مثل هذا اليوم .. تحرر أبي
*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
20-5-2012
في الثالث من مارس / آذار عام 1970 ، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي والدي " أبو العبد " - أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره - ، وزجت به في سجونها سيئة الصيت والسمعة ، وذلك بتهمة الانتماء لـ " الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين " التي حكمت القطاع ليلاً ، وأذاقت مجموعاتها الجيفارية قوات الاحتلال مرارة الهزيمة وعلقمها بعملياتها النوعية في قطاع غزة خلال سنوات النار .
" أبو العبد فروانة " اسم يعرفه كل من تعرض للاعتقال وأمضى سنوات في السجن ، فمن لم يعش معه ، سمع عن نوادره وطرائفه في السجون التي كانت تخفف من معاناة الأسرى وآلامهم ، وحكاياته التي يحب أصدقاؤه سماعها ، وهو وحدوي كانت تربطه علاقة حميمة مع كافة الأسرى بمختلف انتماءاتهم ، وفي إحدى المرات ارتدى شارة الصليب الأحمر ليفض اشتباكا - وفضه بالفعل - ما بين رفاق الجبهة الشعبية والإخوة في حركة فتح !.
وفي مثل هذا اليوم من عام 1985 ، تحرر أبي من سجون الاحتلال الإسرائيلي رغم أنف السجان ، وقبل انتهاء مدة محكوميته في إطار صفقة التبادل الشهيرة والتي تُعتبر الأزخم في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة ، بل الأكثر روعة من بين العشرات من عمليات التبادل التي نفذت قبلها وبعدها على الصعيدين العربي والفلسطيني... بعد أن أمضى أكثر من خمسة عشر عامأ من الفراق والمعاناة متنقلاً من سجن إلى آخر ، ومن زنزانة انفرادية إلى أخرى جماعية .
وفي مثل هذا اليوم وقبل سبعة وعشرين عاماً كان اللقاء الأول بيننا بعد فراق استمر لسنوات طوال .. لقاء مباشر في غرف مفتوحة دون حواجز أو قضبان ، ودون تحديد للوقت أو الزمان ، لقاء تعانقنا خلاله بعيدا عن الرقابة والإرهاب ونظرات الحقد .... في مشهد لم أذكر مثيلاً له طوال حياتي ، بل وحتى في طفولتي .
الحكاية بدأت فصولها قبل أكثر من أربعين عاماً ولم تنته بعد ... تخللها عشرات القصص والروايات ، ومئات الأحداث والمشاهد .. ففي الثالث من مارس / آذار عام 1970 وهو اليوم الذي أعتقل فيه والدي ، لم أكن قد تجاوزت الثالثة من عمري ، ولم أكن قد تعلمت بعد أبجديات ومفردات الاحتلال والسجن .
والذاكرة لم تسعفني يوماً في استحضار ولو دقائق قليلة تسبق اعتقاله وهو يداعبني خلالها ، أو حتى لحظات معدودة وأنا في حضنه وهو يقود دراجته النارية التي نفذ من خلالها عملياته .
بل وأستجدي الذاكرة لإستحضار مجرد مشهد أو صورة واحدة لا غير وهو يقبلني في طفولتي .... ولكن شيئا من هذا القبيل لم يحدث ! .
لكن - وربما لدى أطباء علم النفس تفسيراً له - أذكر وبالتفصيل مشهد اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المدججين بالسلاح لبيتنا الصغير الواقع في حي بني عامر بمحلة الدرج بغزة ، في ليلة ذاك اليوم والعبث بمحتوياته ، وركلهم لنا ونحن نياما بأقدامهم وأعقاب بنادقهم ، على الرغم من أن والدي كان قد أعتقلته قوات الاحتلال من مكان عمله في حي التفاح شرق مدينة غزة في وقت سابق من نهار ذاك اليوم .
هذا المشهد لا يزال ماثلا في ذهني ، وهو ذاته وما أضيف له من مشاهد لاحقا جراء السجن والإعتقال ، هو ما يدفعنا للالتصاق طواعية أكثر فأكثر بقضايا الأسرى ...
فطفولتنا بدأت بمشهد اقتحام وتنكيل، واعتدنا على طريق السجون قبل أن نعرف لرياض الأطفال طريقاً ، وحفظنا أسماء السجون قبل أن نحفظ أسماء مدارسنا ، وجلسنا على شبك الزيارة قبل أن نجلس على مقاعد الدراسة ... فاي مستقبل لطفولة كهذه يمكن أن تكون خارج نطاق الأسرى وقضاياهم العادلة ؟.
والأمر لم يقتصر على ذلك فبعد تحرره بفترة وجيزة اعتقل شقيقي الأصغر والوحيد " جمال " الذي أنجبته أمي بعد اعتقال والدي بخمسة شهور ، ولم يكن حينها قد تجاوز السادسة عشر من عمره ليمضي خمس سنوات ، قبل أن يعتقل ثانية ويمضى عامين ، وفي نفس الفترات تقريبا اعتقلت 4 مرات وأمضيت ست سنوات في سجون الاحتلال ، وأذكر بأننا أمضينا سنوات في السجون دون أن نتمكن من الالتقاء ، فكل واحد منا في سجن ولم تسمح إدارة السجون بتجميعنا .
والوالد ومعه الوالدة كان يتنقل معنا من هذا السجن الى ذاك المعتقل ، بعدما كنا نتنقل معه .. . الأمور تغيرت وانقلب الحال ، فالوالد الأسير أصبح زائر ، والأبناء الزوار كبروا وأصبحوا أسرى .. وهاهي السجون باقية ، والسجن والإعتقال أصبحت من المفردات الثابتة في قاموسنا .
وصدقاً كلما كتبت شيئاً عن الأسرى ومعاناتهم وأبنائهم ، كلما تذكرت تجربتي الشخصية ، وحكاية عائلتي مع السجن، فتجدني أشعر بالألم وأحياناً تكاد عيناي تُذرف الدمع .. وكلما تذكرت تجربتي ، كلما ازددت اصراراً على المضي قدماً من أجلهم.. فحياتنا يجب أن تكرس من أجل حريتهم ، وتجربتنا مع الأسر ، وحكايتنا مع السجن والسجان قد تكون أقل مرارة عشرات المرات من حكاية الآخرين ..
وخلال تنقلي بين السجون لزيارة أبي ، تعرفت على آلاف الأسرى ، وإلتقيت بالكثيرين منهم بعد تحررهم في اطار صفقة التبادل ، وعشت مع بعضهم في السجون بعدما أعيد اعتقالهم مرة ثانية ... ومنهم من لا زالت أسمائهم محفورة في ذاكرتي ، وكلمات بعضهم ستبقى عالقة في ذهني ، وأفخر بأن علاقات حميمة تربطني مع بعضهم رغم فارق السن .
فيما أكثر ما يؤلمني الآن هو عدم إنصاف مئات الأسرى ممن تحرروا معه في إطار تلك الصفقة وممن لا يزالوا يتقاضون راتب محدود جداً لا يفي الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية ولا يكفل لهم ولأسرهم حياة كريمة .. فهؤلاء من سينصفهم ؟.
*عبد الناصر فروانة
أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية
عضو اللجنة المكلفة بمتابعة شؤون الوزارة بقطاع غزة
0599361110
الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان