17/4  يوم الأسير الفلسطيني

 

عبد الناصر فروانة

عضو المجلس الوطني الفلسطيني

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى

17-4-2019

مقاومة الاحتلال شرفٌ تعتز به الشعوب، وتتباهى به الأمم، فما من شعبٍ وقع تحت الاحتلال إلا ومارس المقاومة. وما من شعبٍ قاوم الاحتلال دفاعاً عن حقوقه إلا وانتزع حريته. لقد أيقن الشعب الفلسطيني هذه الحقيقة منذ بدايات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فكان النضال المستمر والمتصاعد. وكان من جراء ذلك الشهداء والأسرى. وعلى مدار اكثر من سبعين عاما متواصلة قدم الشعب الفلسطيني أرقاماً كبيرة من الشهداء والأسرى.
لقد لاحظ كل إنساني وحقوقي في الدنيا بأن كيان الاحتلال، لا يولي أي اهتمام لكرامة الإنسان الفلسطيني، وبدت الأوامر العسكرية واضحة، بملاحقة كل من يُعتقد أنه يشكل، أو يمكن أن يُشكل، خطراً على الأمن الإسرائيلي. ووفقاً لهذه القاعدة تم تصنيف جميع الفلسطينيين باعتبارهم (من أشد المهددين لأمن إسرائيل). وعليه فقد وضعت سلطات الاحتلال كل الفلسطينيين في قفص الاتهام، استناداً لاعتقادها بأن ضمان أمنها واستمرار وجودها يتطلب ضرورة القضاء على الآخر، بكل وسيلة ممكنة. فكانت الاعتقالات واحدة من تلك الوسائل التي شكّلت عقاباً جماعياً للفلسطينيين، وأداة لقمعهم وترهيبهم والانتقام منهم، بهدف إفراغهم من محتواهم الوطني والسياسي والنضالي والثقافي، وقتلهم معنوياً ونفسياً- وإن أمكن جسدياً داخل السجن - أو توريثهم أمراضاً خطيرة تبقى تلازمهم إلى ما بعد خروجهم من السجن، ليتحولوا إلى عالة على أهلهم. ومع الوقت باتت الاعتقالات ظاهرة وسلوكاً يومياً، وأضحت جزءاً أساسياً من منهجية سيطرة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، والوسيلة الأكثر قمعاً وقهراً وخراباً للمجتمع الفلسطيني.

وشملت الاعتقالات الكل الفلسطيني، وطالت كافة فئات وشرائح المجتمع، ذكوراً وإناثاً، أطفالاً ورجالاً، صغاراً وشيوخاً. ومنذ النكبة عام 1948، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي من الفلسطينيين فقط نحو مليون، ستة عشر ألفاً منهم من النساء، إضافة إلى عشرات ألوف أخرى من الأطفال. هذا هو الإحصاء العام. أما إذا أردنا أن نقدم إحصاءً لآخر الاعتقالات، فيمكن أن نبدأ من بدء العقد الجاري، إذ إن الخط البياني للاعتقالات سار بشكل متصاعد خلال السنوات القليلة الماضية، وقد سُجل في الفترة بين عامي 2011 -2018 اكثر من 40 الف حالة اعتقال طالت كافة المحافظات الفلسطينية، بالإضافة إلى نحو 1600 حالة اعتقال منذ بداية العام الجاري.
كافة الوقائع والمعطيات تقود للتأكيد على القول: إن منسوب الاعتقالات تصاعد أكثر منذ اندلاع "انتفاضة القدس"، والتي سُجل خلالها في الفترة الممتدة من (الأول من تشرين أول/أكتوبر 2015- الأول من نيسان/إبريل 2019) قرابة 27 الف حالة اعتقال في كافة المحافظات الفلسطينية. وكانت النسبة الأكبر في محافظات الضفة الغربية، يليها محافظة القدس، كما ولم تكن غزة ببعيدة عن الاعتقالات وسجل فيها اكثر من مئتي حالة اعتقال (من الصيادين في عرض البحر وبعد اجتياز الحدود أو أثناء مرورهم عبر معبر بيت حانون/إيرز)، بالإضافة إلى عشرات آخرين من المناطق المحتلة عام 1948.

ولقد شهدت الاعتقالات خلال "انتفاضة القدس" استهدافاً واضحاً للأطفال الفلسطينيين، في سياق الاستهداف المتصاعد والممنهج للطفولة الفلسطينية، وسجل خلالها نحو 5700 حالة اعتقال لأطفال تتراوح أعمارهم ما بين 11-18 عاما. بالإضافة إلى قرابة 600 حالة اعتقال لفتيات قاصرات ونساء وأمهات.

ولقد أصدرت سلطات الاحتلال خلال "انتفاضة القدس" (أكتوبر2015- إبريل2017) ما يزيد عن 4 آلاف قرار بالاعتقال الإداري، ما بين قرار جديد وتجديد الاعتقال الإداري، وقد شملت تلك القرارات الذكور والإناث، الصغار والكبار.

إن كافة الاعتقالات التعسفية التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين تجري بمعزل تام عن قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتتم بشكل مخالف لأبسط قواعد القانون الدولي، وأن سلطات الاحتلال لم تلتزم بالضمانات الخاصة بحماية السكان المدنيين، ولم تلتزم كذلك بالقواعد الناظمة لحقوق المحتجزين وأوضاعهم، وتُصر على معاملتهم وفقاً لقوانينها العسكرية وإجراءاتها الأمنية ورؤيتها السياسية، ومفهومها لهم كـ"مجرمين وإرهابيين" دون الاعتراف بهم كمناضلين من أجل الحرية، مما انعكس سلباً على ظروف احتجازهم داخل السجون والمعتقلات، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية وأبسط احتياجاتهم الإنسانية.

والأخطر من ذلك، وجود هذا التلازم المقيت والقاسي، بين الاعتقالات والتعذيب، بحيث يمكن القول إن جميع من مروا بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، وبنسبة (100%)، قد تعرضوا - على الأقل - إلى واحد من أحد أشكال التعذيب الجسدي أو النفسي والإيذاء المعنوي والإهانة أمام الجمهور أو أفراد العائلة، فيما الغالبية منهم تعرضوا لأكثر من شكل من أشكال التعذيب. هذا التعذيب الذي يبدأ منذ لحظة الاعتقال ويستمر طوال فترة الاعتقال وتبقى آثاره تلازم الأسير إلى ما بعد الخروج من السجن، وقد تضاعف هذا التعذيب خلال السنوات الاخيرة بشكل لافت. من حيث شدة وقسوة التعذيب وبشاعة أساليب المُعذبِين، وتنوع أساليب التعذيب "النفسية والجسدية"، وتعدد الأشكال المتبعة وكثرتها مع الشخص الواحد، ما جعل من السجن الإسرائيلي مكاناً لقمع الفلسطينيين، ونموذجاً تتجلى فيه الحالة الأسوأ في الاحتلال، على مدار التاريخ؛ لأن أهدافه وآثاره لا حدود مكتوبة لها، فهي تطاول الجسد والروح، كما تطاول الفرد والجماعة، وتعيق من تطور الإنسان والمجتمع. إذ لم يكن السّجن الإسرائيلي يوما في المفهوم الإسرائيلي أداة لتطبيق العدالة المجرّدة، أو وسيلة للعقاب، أو مكانا لإعادة تأهيل المواطنين وإصلاحهم، واحترام إنسانيّتهم وتوفير احتياجاتهم الخاصّة- كما تطالب المنظّمات الحقوقيّة- وإنّما جعل الاحتلال منه مكانا لقمع الأسرى وردعهم والتّأثير على أفكارهم ومعتقداتهم، ومؤسّسة لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. وجعل منه أيضا أداة لقتل الأسرى معنويّا وتصفيتهم جسديّا، وإلحاق الأذى المتعمّد بأوضاعهم الصّحّية وتحويلهم إلى جثث مؤجّلة الدّفن، وأن أهدافه العقابية والتعذيبية لا حدود لها، فهي تطال الجسد والروح، كما تطاول الفرد والمجتمع. وما ذاك إلا لأنها ترى في الفلسطينيين أعداء لها، ويجب التخلص منهم أو على الأقل ردعهم والسيطرة عليهم. ومع الوقت باتت فلسطين خلف القضبان، وأصبحت كل بقعة على الخارطة الفلسطينية مطرزة بسجن أو معتقل أو مركز توقيف.

وتشير الإحصائيات الفلسطينية كذلك إلى أن هناك 218 أسيرا سقطوا شهداء بعد اعتقالهم، منذ عام 1967، منهم 73 بسبب التعذيب الذي تمارسه سلطات الاحتلال ضد المعتقلين الفلسطينيين. كما تشير نفس الإحصائيات إلى استشهاد 63 منهم، نتيجة الإهمال الطبي المتعمد وسوء الرعاية الصحية والحرمان من العلاج. إضافة إلى 7 معتقلين آخرين سقطوا جراء إصابتهم برصاصات قاتلة من جنود الجيش الإسرائيلي، وقوات قمع السجون المدججة بالسلاح، تحت حجج واهية، أقلها محاولة الهروب من السجن، أو أثناء الاقتحامات والاعتداءات على الأسرى، بما يخالف القانون الدولي، الذي ألزم الدولة الحاجزة بحماية الأسرى من خطر الموت، وتوفير كل سبل الحماية لهم من الإصابة بالأمراض. إضافة إلى كل هؤلاء بلغ عدد من قتلتهم قوات الاحتلال عمداً، بعد اعتقالهم، 75 أسيراً، إما بالتصفية الجسدية المباشرة خلال الاعتقال، أو بإطلاق النار بعد إتمام عملية الاعتقال. هذا بالإضافة إلى مئات الأسرى المحررين الذين سقطوا شهداء بعد خروجهم من السجن بفترات وجيزة بسبب أمراض ورثوها عن السجون.

وفي ذكرى "يوم الأسير الفلسطيني" التي تحل في السابع عشر من نيسان/ إبريل من كل عام، لا يزال هناك نحو 6000 أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي، غالبيتهم العظمى هم من سكان الضفة الغربية، موزعين على اثنين وعشرين سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف، فمن صحراء النقب وريمون ونفحة وبئر السبع جنوباً، ومروراً بالرملة وعسقلان وهداريم وجلبوع والشارون وعوفر، وليس انتهاء بالجلمة وسجن الدامون شمالاً.

وبين هؤلاء المعتقلين، هناك 250 طفل وطفلة، و47 أسيرة فلسطينية بينهن 22 أماً. وهناك في السجون 430 معتقلا إداريا دون تهمة أو محاكمة، و 7 نواب في المجـلس التشـريعي الفلسـطيني، و 19 صحافياً، ومئات من الأكاديميين والكفاءات العلمية والرياضيين.

ومن الملفات المؤلمة وجود قرابة 1800 أسير يعانون من أمراض مختلفة، بينهم 180 أسيراً يعانون من أمراض خطيرة، و 30 أسيراً يعانون من مرض السرطان، بالإضافة إلى 80 أسيرا يعانون من إعاقات جسدية وذهنية ونفسية، أو من الإعاقة الحسية (السمعية أو البصرية)، بعضهم فقد القدرة على أداء الأنشطة اليومية الاعتيادية بنفس الكفاءة، ومن لم يعد يستطيع قضاء حاجته الشخصية، دون مساعدة رفاقه في السجن، بحيث يمكن القول بأن العشرات من هؤلاء هم، في الحقيقة، إنما يحتضرون في انتظار ساعة الوفاة والرحيل الأبدي، والتي يتمناها بعضهم أن تأتي مسرعة لشدة الألم.

وهناك من بين الأسرى نحو (540) أسيرا يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد "مدى الحياة" لمرة واحدة أو لمرات عدة. وهناك من كبر وشاب وهَرِم في السجن، خاصة إذا ما علمنا أن (47) أسيراً قد مضى على اعتقالهم عشرون عاماً، بل وأكثر، بشكل متواصل، وأن (26) أسيراً منهم معتقلون منذ ما قبل اتفاقية "أوسلو"، وهؤلاء ممن كان يفترض إطلاق سراحهم ضمن الدفعة الرابعة في آذار/مارس عام 2014، إلا أن دولة الاحتلال تنصلت من الاتفاقيات وأبقتهم رهائن في سجونها. وها هي السنوات والعقود تمضي من أعمارهم، وأن جميعهم قد مضى على اعتقالهم أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وأن من بينهم (13) أسيرا مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثين عاماً، وأقدمهم الأسير "كريم يونس" من المناطق المحتلة عام 1948، والمعتقل منذ ما يزيد على ستة وثلاثين سنة. بالإضافة إلى (54) أسيرا ممن أعيد اعتقالهم بعد تحررهم في إطار صفقة وفاء الأحرار (شاليط) أبرزهم نائل البرغوثي الذي أمضى ما مجموعه تسعة وثلاثون عاماً على فترتين.
كما تحل ذكرى "يوم الأسير الفلسطيني" هذا العام، والحركة الأسيرة تمر في أسوأ أوضاعها وأخطر مراحلها، الأمر الذي دفع الأسرى للجوء إلى الخيار الأصعب والأقسى رغماً عنهم، وإعلان الإضراب المفتوح عن الطعام عشية حلول يوم الأسير ذوداً عن كرامتهم ودفاعاً عن حقوقهم ومطالبة بتحقيق مطالبهم الإنسانية. وقد توصلوا الى اتفاق مع ادارة السجون يضمن تحقيق بعضا من مطالبهم الانسانية.

ويبقى يوم الاسير الفلسطيني الذي يصادف في السابع عشر من نيسان من كل عام، يوما للوفاء للحركة الاسيرة وتضحياتها وشهدائها، ويوم لشحذ الهمم وحشد الطاقات لنصرتهم واسنادهم. يوما للعمل من اجل تعزيز مكانتهم القانونية ومشروعية نضالهم والعمل من اجل ضمان حريتهم.