" الأسرى القدامى " .. كلمة السر التي لا يمكن تجاوزها

 

 

بقلم / عبد الناصر فروانة

 أسير سابق ومختص بشؤون الأسرى

مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى في دولة فلسطين

17 ابريل 2013

الأديب المصري " يوسف إدريس " كان قد قال منذ زمن " أيها الناس اقرأوا قصص غسان كنفاني مرتين ، مرة لتعرفوا أنكم موتى بلا قبور ، ومرة أخرى لتعرفوا بأنكم تجهزونها وأنتم لا تدرون " .

واليوم نقول اقرأوا قصص الأسرى القدامى وحكاياتهم مع الأسر ثلاث مرات ، مرة لتعرفوا  فظاعة الاحتلال وعنجهيته في التعامل معهم ، ومرة أخرى لتعرفوا كم هي معاناتهم ومعاناة ذويهم مؤلمة وقاسية ، واقرأوها مرة ثالثة لتدركوا كم نحن مقصرون في إسنادهم وتجاه حقهم علينا ، وأن قصورنا هذا كان سببا في استمرار معاناتهم وإبقائهم في سجون الاحتلال .

 

" الأسرى القدامى " ، مصطلح شمولي يحمل في ثناياه الكثير من الدلالات والمعاني ، منها ما هو مؤلم يكشف عن وجه الاحتلال البشع وعنجهيته وقسوة ممارساته ، ومنها ما هو مشرق يعكس شموخهم ، وثباتهم وصمودهم وإصرارهم على تمسكم بالأمل رغم الألم ، ومنها ما هو مخجل يفضح عجزنا وفشلنا جميعاً في تحريرهم .

 

ولهؤلاء قصص طويلة وحكايات لا تُنسى ، وتجارب جماعية وفردية ، تشكل نماذج فريدة ومميزة ، تحتاج بمجموعها إلى أشهر الكتاب والشعراء والمؤرخين لتدوينها وتوثيقها لتملأ مجلدات ومجلدات .

 

" الأسرى القدامى " مصطلح يُطلقه الفلسطينيون على من هم معتقلين منذ ما قبل توقيع اتفاقية إعلان المبادئ " أوسلو" وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية في الرابع من مايو / آيار عام 1994 ولا يزالوا في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، باعتبارهم " قدامى الأسرى " حيث أن أقل واحد منهم مضى على اعتقاله تسعة عشر عاماً متواصلة ، فيما بعضهم أمضى في السجن من سنوات عمره أكثر مما أمضاه خارج السجن ، وبينهم من ترك أبنائه أطفالاً ، ليلتقي بهم شباناً داخل السجن ، وهم من ذاقوا مرارة السجون وألم القيد وقسوة التعذيب بأشكاله الجسدية والنفسية ، وهم من عاصروا أجيال وأجيال ، فاستقبلوا آلاف الأسرى الجدد ، وودعوا أمثالهم ، فيما أجسادهم لا تزال مقيدة بين جدران السجون .

 

" الأسرى القدامى " .. كريم وماهر يونس ، مصطفى وزياد غنيمات ، ابراهيم ورشدي أبو مخ عيسى عبد ربه وأحمد شحادة ، سمير أبو نعمة وياسين أبو خضير ، وليد دقة وضياء الفالوجي والقائمة تطول ، يعيشون أوضاعاً قاسية كباقي الأسرى ، فلا اعتبار لكبر سنهم أو لعدد السنين الطويلة التي أمضوها وآثارها السلبية عليهم جراء ظروف السجن وتأثيراتها ، ولا اكتراث  لأوضاعهم الصحية الصعبة .. فالمعاناة مضاعفة ، وسنوات العمر تمضي وتمضي .  

 

" قدامى الأسرى " هم ليسوا مجرد أرقام ، وان كانت الإحصائيات مهمة في بعض الأحيان ، حيث بلغ عددهم مع بداية نيسان / ابريل الجاري ( 105 ) أسيراً فلسطينياً من مناطق جغرافية مختلفة ، منهم ( 57 ) أسيراً من الضفة الغربية ، و( 25 ) أسيراً من قطاع غزة ، و( 14 ) أسيراً من المناطق المحتلة عام 1948 ، و( 9 ) أسرى من القدس المحتلة .

وأن ( 79 ) أسيراً منهم يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد لمرة واحدة أو لمرات عدة ، والباقي ( 26 ) أسيراً يقضون أحكاماً بالسجن لفترات مختلفة تتراوح ما بين 20 – 40 عاماً .

 

وان من بين هؤلاء " القدامى " يوجد ( 77 ) أسيراً مضى على اعتقالهم عشرين عاماً وما يزيد بشكل متواصل وهؤلاء يُطلق عليهم مُصطلح " عمداء الأسرى " ، فيما قائمة " جنرالات الصبر " وهو مصطلح يُطلقه الفلسطينيون على من مضى على اعتقالهم ربع قرن وما يزيد باعتبارهم أكثر الناس والأسرى صبراً وتحملاً للبطش والعناء والعذابات ، تضم أسماء ( 25 ) أسيراً ، ويقف في مقدمتهم الأسيران كريم وماهر يونس من قرية عرعرة وهي إحدى المناطق التي أحتلت عام 1948 واللذان مضى على اعتقالهما أكثر من ثلاثين عاماً .

 

أرقام مذهلة ، مؤلمة ، محزنة ، دخلت قسراً موسوعة " غينس " للأرقام القياسية العالمية ، ومصطلحات ثلاثة هي " الأسرى القدامى " ، " عمداء الأسرى " ، " جنرالات الصبر " دخلت القاموس الفلسطيني ووجد لها مكانة ثابتة فيه ، وباتت معتمدة للحركة الأسيرة في سجون الاحتلال الإسرائيلي ولمن يتابعون شؤونها وهمومها وقضاياها ، وهي تحمل في ثناياها معاني ودلالات كبيرة ومؤلمة .

 

ولكل واحد من هؤلاء " القدامى " حكايته الطويلة وتجربته الخاصة مع الأسر وآلامه ومعاناته والتي تتشابك مع التجربة الجماعية في الكثير من جوانبها .

 

واعتقد بأننا لو نجحنا في توثيق تلك الحكايات والقصص وتدوين التجارب بشكل علمي في إطار عمل توثيقي ممنهج ، وتم نشرها بلغات عدة ، يمكن أن ننجح إلى حد كبير في التأثير على الرأي العام ويمكن أن نحرك مشاعر وسواعد أكثر من مليار مسلم ومعهم كل الأحرار في العالم ، ويمكن أن نجعل من قضيتهم ، قضية رأي عام دولي متفهم لمعاناتهم ومدافع عن حقهم بالحرية ، كمقدمة أساسية لإحلال السلام العادل والشامل بالمنطقة والذي يبدأ بإنهاء الاحتلال وإطلاق سراح كافة الأسرى .

 

ولكن يؤسفني القول في هذا المقام بأننا لم نمنح " القدامى " الأهمية التي يستحقونها ، ولم نولِ قضيتهم الاهتمام الكافي على كافة الصعد ، بدءا بالاتفاقيات السياسية ومرورا بالإعلام والتوثيق وحملات المساندة ، وليس انتهاء بدور فصائل المقاومة وعجز صفقة " شاليط " على إغلاق ملفهم .

 

حيث أن اتفاق إعلان المبادئ الموقع في أوسلو بتاريخ 13 أيلول / سبتمبر عام 1993 لم يشمل نصاً واضحاً يمكن أن يُلزم حكومة الاحتلال بالإفراج عن جميع الأسرى ، وترك هذه القضية لـ " حسن النوايا " الإسرائيلية .

 

فيما أن بعض الاتفاقيات اللاحقة حملت نصوصا ، لكنها غامضة في بعض جوانبها و فضفاضة في جوانبها الأخرى ، وافتقرت في الوقت ذاته لآليات وضمانات التنفيذ والسقف الزمني ، مما أتاح للحكومات الإسرائيلية ومنذ " أوسلو " لاستغلال ذلك لتمارس الضغط السياسي على القيادة الفلسطينية وفرض شروطها ومعاييرها وتصنيفاتها في التعامل مع الأسرى حسب الإنتماء السياسي والتنظيمي ومكان السكن والتهمة الموجهة لهم ، مما يعتبر مساسا بوطنيتهم ووحدتهم النضالية والجغرافية وتكريس التفرقة بينهم .

 

فاستثنت " الإفراجات " ما اصطلحت على تسميتهم " إسرائيل " باطلاً بـ " الأيادي الملطخة بالدماء " ، كما واستبعدت أسرى القدس وفلسطين المحتلة عام 1948 بذريعة  أنهم مواطنين إسرائيليين لا يخضعون لإشراف وولاية السلطة الوطنية الفلسطينية وأن اعتقالهم والإفراج عنهم شأنا إسرائيلياً .

 

وعلى ضوء ذلك مرّ " الأسرى القدامى " بتجربة صعبة ومريرة ما بين القيود والمعايير المجحفة التي فرضتها حكومات إسرائيل المتعاقبة حول إطلاق سراحهم ، وما بين استخدام قضيتهم كورقة سياسية للضغط والابتزاز والمساومة .

 

وبعد ست سنوات من توقيع إعلان المبادئ جاءت اتفاقية شرم الشيخ الموقعة بتاريخ 4 أيلول عام 1999 لتشمل نصاً واضحا يكفل إطلاق سراح كافة القدامى ( أن الحكومة الإسرائيلية ستفرج عن المعتقلين الفلسطينيين الذين ارتكبوا مخالفاتهم قبل 13 أيلول 1993 ، والذين اعتقلوا قبل 4 أيار 1994 ، أي قبل إعلان المبادئ وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية )

 

ولكن بتقديري وان كان الأمر مهماً للغاية ، لكنه كان بحاجة الى سقف زمني واضح ، والى قوة سياسية وأدوات ضاغطة تلزم " إسرائيل " بتنفيذها .

وخلال انتفاضة الأقصى أفرجت إسرائيل عن عدة دفعات من الأسرى كـ " بوادر حسن نية " وفقا لشروطها ومعاييرها .

 

ولا شك بأن الثغرات والأخطاء التي تضمنتها الاتفاقيات ، والتصنيفات والمعايير التي استندت إليها " إسرائيل " في تحديدها لأسماء الأسرى الذين أطلق سراحهم  قد أثرت سلباً على مجمل نواحي الحركة الأسيرة.

وبعد أسر الجندي الإسرائيلي " جلعاد شاليط " بتاريخ 25 يوليو / حزيران 2006 ، انتعشت آمال الأسرى القدامى وانتظروا صفقة تبادل تتجاوز أخطاء أوسلو والاتفاقيات السياسية ، وتفرض شروطا عجز عن فرضها المفاوض ، وتحقق ما عجزت عن تحقيقه العملية السلمية باطلاق سراحهم جميعا .

 

ولكن وللأسف صفقة " شاليط " التي نفذت في أكتوبر عام 2011 لم تنجح هي الأخرى في إغلاق ملفهم بالرغم مما حققته من انجازات في هذا الصدد ، لتثير الكثير من الاستياء لدى من استثنتهم الصفقة وأبقتهم في السجون ، حيث كانت فرصتهم الوحيدة بعد أن فشلت الجهود السياسية وجولات المفاوضات في تحريرهم .

 

واليوم وبعد مرور ما يزيد عن العشرين عاما على اتفاقية " أوسلو" ، ومرور قرابة أربعة عشر عاماً على توقيع اتفاقية " شرم الشيخ "، أشعر بالألم والمرارة لبقائهم بالأسر طوال تلك السنوات ، ويجب أن نخجل جميعنا من أنفسنا ومن آدائنا وقصورنا تجاههم ، ويجب أن نُقر بعجزنا الفلسطيني والعربي والإسلامي عن تحريرهم .

 

ويجب أن نوجه انتقاداتنا الصريحة لمؤسساتنا الرسمية والأهلية ، وللمفاوض الفلسطيني الذي لم يذكرهم في نص اتفاقيات أوسلو، وراهن على حسن نوايا حكومة " إسرائيل " ، ولفصائلنا الوطنية والإسلامية ، بالرغم مما تحقق من إفراجات من خلال " العملية السلمية " في سنوات سابقة ، أو الانجازات التي حققتها صفقة " شاليط " الأخيرة.

 

وهذا يدفعنا لأن نختتم بالقول بأن ( لا ) معنى لمفاوضات قادمة وناجحة يمكن أن تبقيهم أو تُبقي بعضهم في السجون ، أو لمقاومة مثمرة تعجز عن تحريرهم .

وأن نصرة الأسرى هو واجب شرعي ووطني وديني ، وأيضاً أخلاقي وإنساني .

 

 ملاحظة / نشر المقال اليوم في جريدة أسرانا في لندن

والأرقام المذكورة حتى مطلع ابريل الجاري

 

عبد الناصر فروانة

أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى

مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في دولة فلسطين

عضو اللجنة المكلفة بمتابعة شؤون الوزارة بقطاع غزة

0599361110

الموقع الشخصي / فلسطين خلف القضبان

www.palestinebehindbars.org