عبد الناصر فروانة لـ”موقع حرمون”: الأسرى هم قضية وطن محتل وشعب يقاوم لانتزاع حريته

مَن حقّق معنا وعذّبنا وتلذّذ بتعذيبنا مازال طليقاً بلا عقاب ويحميه العالم بأسره

 

16-10-2018

منذ كان الاحتلال كان الظلم وكان الأسر. لأنه استوجب بطولة التصدي واطلق في شعبنا روح المقاومة المتصاعدة بلا حدود حتى التحرير والعودة.

والمناضل الأسير المحرر عبد الناصر فروانة، احد أبطال الشعب الفلسطيني، الذي عانى معاناة الأسر وجاور مسلخ الموت وشهد بعنينه قتل أسرى وسمع انينهم الذي رفض أن يفارق قلبه واذنيه وروحه فتطوع مناضلاً لإنصافه وانصفه الشعب الفلسطيني بانتخابه عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني..

في حديث لموقع حرمون، عرف عن نفسه، وقضية الأسرى، وعذاباتهم وانتهاكات الاحتلال بأبسط حقوقه، وكشف عن ضرورة استمرار النضال الوطني للتحرر من الاحتلال بتحرير الأسرى والأرض. والأبشع باستحالة معاقبة المحتل وإداراته ما دام العالم كله يحميه.

هنا نص الحوار..

 

حاورته فاديا خالد

1- من هو الأسير المحرّر عبد الناصر فراونة؟

أنا عربي فلسطيني، وأعتز بعروبتي وأفتخر بفلسطينيتي، وأنحدر من عائلة فلسطينية هجرت من مدينة يافا عقب النكبة عام 1948، واستقر بها الحال في مدينة غزة. وأنتمي لأسرة صغيرة العدد ولي أخ واحد واسمه (جمال) ومن الأخوات اثنتان. وولدت في مدينة غزة عام 1967، ونشأت وتربيت في حي بني عامر بمحلة الدرج شرق مدينة غزة، وتزوّجت بعد خروجي من السجن عام 1995، ولي خمسة أبناء.

ويعود انتمائي لقضية الأسرى منذ اعتقال والدي (عوني فروانة – أبو العبد) – أدام الله له الصحة والعافية وأطال عمره – في الثالث من آذار/ مارس 1970، حيث بدأت معرفتي بالسجون الإسرائيلية، حينما اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي، بتهمة الانتماء لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ومقاومة الاحتلال، وزجّت به في سجونها لأكثر من خمسة عشر عاماً متواصلة قبل أن يتحرر في إطار صفقة تبادل الأسرى الشهيرة عام 1985. وحينما أعتقل والدي كنتُ طفلاً صغيرا، ولم يكن عمري قد تجاوز الثلاث سنوات، فتعلمت أبجديات الاحتلال وحفظت مفردات السجن والاعتقال منذ الصغر، ونشأت علاقتي بالأسرى والسجون مبكراً. ومن الواجب الدفاع عنها، فهي قضيتنا ونحن جزء منها ولا يجوز التخلي عنها، لذا فنحن ملتصقون بها.

 

الاعتقال دائماً ليلاً ومرارة السجن تذوّقتها على جسدي واجساد الأسرى وعيون الأمهات والأخوات

2- كيف تم اعتقالك..؟

إن فصول الحكاية وتفاصيلها دفعتني إلى الالتحاق مبكراً بالثورة ومقاومة الاحتلال، وهذا سبب اعتقالي لأكثر من مرة، فتذوّقت مرارة السجن على جسدي، بعدما رأيته على جسد أبي ومن ثم على جسد أخي وأقربائي وفي عيون أمي وأخواتي. فكبرت وكبرت بداخلي قضية الأسرى، قبل أن أكبر وأتحوّل أنا الآخر بدوري إلى أسير لأربع مرات، ولست سنوات، وجميعها كانت من البيت وبعد منتصف الليل، مرتين منها كانتا اعتقالاً إدارياً، ولم يحدث لي ذلك فقط، ولم يحدث لأبي فحسب، بل حدث مثل ذلك لأخي الأصغر والوحيد جمال – الذي أنجبته أمي ليبصر النور بعد اعتقال والدي ببضعة شهور – حين اعتُقل وهو في سن الطفولة وكان طالباً في الصف العاشر لسنوات خمس متواصلة، قبل أن يتحرّر ويُعاد اعتقاله للمرة الثانية ويمضي سنتين إضافيتين. وهو ما زال ملتصقاً وبقوة بقضية الأسرى ومدافعا شرساً عنها. هكذا نشأت طفولتنا، وهكذا كان اعتقالنا. فحياتنا بدأت بالاعتقال والأسر ولن تكون يوماً خارج نطاق هذه القضية. ونشعر أن الدفاع عنها والكتابة حولها هو غذاؤنا الأساسي وقوتنا اليومي.

 

اعتقلت أربع مرات وبقيت مئة يوم تحت التحقيق في مسلخ الموت

 

3- ظروف وكيفية التحقيق معك وبالتالي ما الحكم الذي صدر بحقك؟

اعتقلت أربع مرات، الأولى كانت فترة تحقيق وتوقيف لقرابة الشهرين، ومن ثم مرتين إداري، دون تهمة أو محاكمة، والمرة الرابعة والأخيرة كانت الأقسى والأطول ومكثت نحو مئة يوم في أقبية التحقيق وزنازين القهر ومسلخ الموت في سجن غزة المركزي، واستمرت حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، ومع ذلك فإن تجربتي الشخصية هذه تتشابك مع التجربة الجماعية لمئات الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين والعرب. ولربما ظروف التحقيق في سجون الاحتلال الإسرائيلي متشابهة وإن اختلفت من أسير لآخر في مدتها وطبيعة الأشكال المستخدمة معه وحجم قسوتها.

لقد عشت وعاش الآخرون تجارب لا يمكن تصوّرها، بل ويصعب على الإنسان تخيلها ووصفها، واستمعت لشهادات عديدة روت فظائع الموت، من أناس قُدر لهم أن يخرجوا من السجن أحياء، وكان حديثهم يفيض بالألم والمرارة. وكلما طُلب مني الحديث أو الكتابة عن تلك الفترة، وجدتني أشعر بالحزن والألم، وينتابني شعور الكراهية وأحياناً الانتقام. فتجربة التحقيق مريرة ومؤلمة، وذكريات التعذيب حاضرة وراسخة، ترفض الرحيل أو الانفصال، فتزيد من آلامنا ألماً، وللأسف فإن الألم باقٍ لا ينتهي بفعل الزمن، خاصة أن من حقق معنا وعذبنا وتلذذ بتعذيبنا مازال طليقاً بلا عقاب. لكننا ومع ذلك وبالرغم مما مورس بحقنا لم ولن ننكسر بفعل تأثيراته، بل بالعكس فإن ذلك يشكل دافعا لنا لبذل مزيد من الجهد والعمل لأجل هذه القضية العادلة.

 

تعاطي الاحتلال مع الأسرى سجل من الانتهاكات المطلقة لأبسط حقوق الكائن الإنساني

٤ لمحة عن حياة الأسرى ومعاناتهم في سجون الاحتلال

ان كافة الاعتقالات التعسفية التي تنفذها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين تجري بمعزل تام عن قواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتتم بشكل مخالف لأبسط قواعد القانون الدولي، وأن سلطات الاحتلال لم تلتزم يوماً بالضمانات الخاصة بحماية السكان المدنيين، ولم تلتزم كذلك بالقواعد الناظمة لحقوق المحتجزين وأوضاعهم، وتُصرّ على معاملتهم وفقاً لقوانينها العسكرية وإجراءاتها الأمنية ورؤيتها السياسية، ومفهومها لهم كـ “مجرمين وارهابيين” دون الاعتراف بهم كمناضلين من أجل الحرية، مما انعكس سلباً على ظروف احتجازهم داخل السجون والمعتقلات، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية وأبسط احتياجاتهم الإنسانية، وهذا كله انعكس على مجريات الحياة اليومية بتفاصيلها المختلفة. فحياة السجن، حياة ملؤها الألم والمرارة والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، ومعاناة متعدّدة الأوجه والصور، تصعب الإحاطة بجميعها، فالسّجن لم يكن يوماً في المفهوم الإسرائيلي أداة لتطبيق العدالة المجرّدة، أو مجرد وسيلة للعقاب، أو حتى مكاناً لإعادة تأهيل المواطنين وإصلاحهم -كما تطالب المنظّمات الحقوقيّة -، وإنّما جعل الاحتلال الإسرائيلي من السجن مكاناً لقمع الأسرى وتعذيبهم، وساحات لإلحاق الأذى المتعمد بهم، نفسيا ومعنويا وجسديا، كما وتسعى سلطات الاحتلال لأن تحوّل السجن الى مؤسسة للتّأثير على أفكارهم ومعتقداتهم، وإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين. فأهداف السجن العقابية لا حدود لها، وهي تطال الجسد والروح، كما تطال الفرد والأسرة والمجتمع. وما من فلسطيني إلا وذاق مرارة السجن. لذا دائماً أقول: إن الأسرى هي قضية وطن محتل وشعب يقاوم من أجل انتزاع حريته.

 

مواقف قاسية جداً استشهاد أسيرين وتجاوري وأخي في زنزانتين متباعدتين قريبتين لسنوات

5- موقف لا ينسى معك خلال فترة الأسر؟

المواقف كثيرة، والأحداث متعدّدة، وكل يوم قضيناه في السجن الإسرائيلي يشكل بحد ذاته محطة مازالت راسخة في الذاكرة ولم تُنسَ. فالسجن يعيش فينا. لقد خرجنا منه ولم يخرج منا. ومع ذلك يمكن في هذا السياق استحضار ثلاثة مواقف وهي:

استشهاد الأسير جمال أبو شرخ في نوفمبر 1989 داخل زنزانته المقابلة لزنزانتي، واستشهاد الأسير خالد الشيخ علي في ديسمبر 1989 أثناء التحقيق معه في غرف الموت في سجن غزة المركزي وكنت في “المسلخ” حينها وشاهداً على الحدث.

والموقف الثالث حينما كنت أنا وأخي معتقلين، وفي سجون متباعدة المسافة، ولسنوات طويلة، ولأي من القراء أن يتصوّر مدى معاناتنا ومعاناة والدينا، ونحن نعلم أننا متجاوران ومتفرقان، في آن واحد: لا نتمكن من الالتقاء! وبعدما كنا نتنقل برفقة الوالدة، لزيارة الوالد في هذا السجن أو ذاك، أصبحت الوالدة تتنقل بصحبة زوجها (والدنا) لزيارتي في هذا السجن تارة، وزيارة أخي في ذاك السجن تارة أخرى.

 

تعلّمت من الأسرى الصبر والتحمل.. ولا انام وأسير من بلادي يتوجّع

6- كلمة توجّهها للأسرى الذين مازالوا يعانون تحت حكم السجان

أنتم في عيوننا وقلوبنا وقضيتكم هي في صلب اهتمامنا. وأن الدفاع عنها هو جزء من واجبنا ولا يمكن أن نتخلى عن قضيتكم أو أن نتراجع عن الدفاع عن حريتكم، أو أن نغفل معاناتكم، فلن نخون الألم والصداقة ورفاق القيد، فقضيتكم هي قضيتنا. وصدقاً كلما كتبت حرفاً أو سمعت شيئاً عما يحدث معكم في السجون، تذكّرت تجاربنا الفردية والأسرية في سياق التشابك مع التجربة الجماعية. فمن آهات الأسير وألمه تعلّمت أن أتحمل أكثر. كما وتعلمت من صبره وقوة تحمله أن أعمل أكثر وأن أجتهد لما فيه خير للقضية، وأن لا أنام ما دام الأسير يتوجّع ويتألم. ويخيل لي أني لو كتبت كل يوم مقالة أو في كل دقيقة كلمة وعبارة، لما أفيهم حقهم. وكيف لي أن أفيهم حقهم ببضع كلمات، وهم يصنعون التاريخ بالدم ويخطون حروفه بالألم والتضحيات، ومع ذلك سنمضي نحو تحقيق حلمهم بالحرية. فللحرية مذاق آخر. وللأسرى المحرومين من الحرية حلم يراودهم.

 

إدارة سجون العدو ترتكب جرائم مركبة.. لكن بطولات تجاوزت بعض المعوقات

٧ كيفية تواصل الأسرى مع ذويهم وما الصعوبات التي يواجهونها

التواصل صعب. فلا مكالمات هاتفية، ولا زيارات منتظمة. وصعوبات كثيرة تواجه الأسرى وذويهم. فسلطات الاحتلال صادرت حق الأسرى بالزيارات بشكل دائم وحوّلته الى لفتات انسانية تقدمها لهم وقتما تشاء وكيفما تشاء، ووفقاً لشروطها ومعاييرها الظالمة، وأصدرت عام 1996 قانونا يمنع زيارات من هم خارج دائرة القرابة الأولى، ومن ثم منعت الكثير من هؤلاء حتى وصل الحال الى أن أكثر من نصف أهالي الأسرى ممن هم في الدائرة الأولى ممنوعين من الزيارة تحت حجج وذرائع أمنية واهية. وبعد أسر الجندي الإسرائيلي “شاليط” عام منعت بقرار سياسي كل أهالي أسرى غزة من الزيارات لما يزيد عن خمس سنوات متواصلة، وأحياناً كثيرة يتم منع الأسير كإجراء عقابي. وبذلك ترتكب ادارة السجون جريمة مركبة. مع الإشارة الى أن من يسمح لهم بالزيارة من الأهالي يعانون الكثير أثناء ذهابهم الى السجون من عناء السفر وسوء المعاملة والتفتيش والمضايقات.

لكن هنا علينا أن نشير الى أن الأسرى لم يستسلموا لهذا الواقع المرير ونجحوا في تجاوز بعض المعيقات وتخطي الكثير من الصعاب في بعض الأوقات، وفي أقسام عديدة داخل بعض السجون، واستطاعوا بإرادتهم وإصرارهم أن يهرّبوا هواتف نقالة يتواصلون من خلالها مع أهلهم وأبنائهم وأحبتهم. وهذا الإجراء رغم تكلفته المالية الباهظة إلا أنه يعالج جزءاً من المشكلة لدى عدد من الأسرى وليس جميعهم.

 

الشكر لكل من يسلط الضوء على قضية الأسرى

٨ كلمة أخيرة من موقع حرمون للأسرى ولفلسطين.

قضية الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي، هي واحدة من القضايا العادلة، التي هي بحاجة الى محامٍ شاطر ينتصر لعدالتها. ونحن ومعنا الكثير من الأصدقاء والزملاء نعمل من أجل الانتصار لها ولعدالتها، ونرى أن حياتنا يجب أن تُكرّس لأجل حرية أسرانا وسعادة أطفالهم، والسعادة لا تتوفر إلا في الحرية، والحرية تُنتزَع ولا تُستجدَى.

وفي الختام لا بد أن نتقدم بالشكر الجزيل الى موقع “حرمون” لاهتمامه بقضية الأسرى وتخصيص مساحات لها، كما وأشكر الإعلامية “فاديا خالد” التي أتاحت لي هذه الفرصة. وفي السياق ذاته أتقدم بجزيل الشكر الى كافة وسائل الاعلام العربية والفلسطينية التي تبدي اهتمامها وتسلط الضوء على قضايا الأسرى.

 

 

http://haramoon.com/?p=31903&fbclid=IwAR3NGsyY1gKKJHr8iv_MEypuTvsDdxb6asG8r-fzrjrTyL7ML5CsMt97q5Y