الشهيد الأسير حسين عبيدات وفلسفة الإضراب عن الطعام

 

 

بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة

رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين

16-1-2017

 

     شكّلت الحركة الوطنية الأسيرة في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، مسيرةً طويلةً وتجربةً رائدةً، ضاهت في مستواها المدارس الفكرية خارج السجن. فإذا ما أُريد للأجيال الفلسطينية القادمة أن تفخر بمحطة ما، فعليها أن تفخر بهذه التجربة الفريدة، ذات النتاج الملموس، طوال مراحل الثورة الفلسطينية.

 

ومن أبرز فصول التجربة، وأكثرها إشراقة، كان رفض الظلم والاضطهاد ومواجهة الاحتلال وأدواته خلف القضبان، ومقاومة سجانيهم وقمعهم، والنضال المتواصل من أجل انتزاع الحقوق الأساسية الخاصة بالفرد أو الجماعة والعيش بكرامة، فابتدعوا أشكالاً عديدة، وخاضوا في هذا المضمار معارك كثيرة، لا يمتلكون فيها سوى سلاح الإرادة والعزيمة وعدالة القضية، وقدموا نموذجاً يُحتذى في النضال ومقاومة الاحتلال في السجون.

 

ولعل الإضراب عن الطعام وما بات يعرف بـ "معركة الأمعاء الخاوية"، والتي كان عنوانها دائما: "نعم لآلام الجوع ولا لآلام الركوع" هي أشد قسوة من بين تلك الأشكال النضالية التي لجأت إليها الحركة الأسيرة وأكثرها ألماً، لذا يلجأ إليها الأسرى رغماً عنهم، وهي خيارهم الأخير، وغير المفضل، وبعد فشل الخطوات والأشكال النضالية الأخرى الأقل ألماً وقسوة.

ولم يكن الإضراب عن الطعام مجرد موقف ضد إدارة السجون، لتحسين أوضاع بائسة وكسب مواقع وحسب، وإنما كان تعبيراً عن قيم وأخلاق المقاومة، وفرض الذات، وتأكيد حق الحركة الأسيرة في الوجود وتنظيم ذاتها، والعيش بعزة وكرامة، ورغم علم الأسرى بأن الإضرابات عن الطعام قد تؤدي إلى تدهور صحتهم، أو إلى موت بعضهم، إلا أنهم واصلوا إضراباتهم كخيارات لا بديل عنها، كلما شعروا بفشل الوسائل الأخرى.

        وخاضوا عشرات الإضرابات عن الطعام منذ بدايات الاحتلال، وقدموا في هذا السياق تضحيات جسام، وسقط من بينهم العديد من الأسرى شهداء خلال معارك الأمعاء الخاوية.

والقدس لم تكن يوماً خارج ساحات النضال الفلسطيني ضد الاحتلال، وأبناؤها هم جزء أصيل من الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، كما وأنهم جزء أصيل من الحركة الوطنية الأسيرة ومقاومتها للسجان خلف قضبان السجون "الإسرائيلية"، وشاركوا في كافة المواجهات والإضرابات عن الطعام.

 

ولأنها القدس، قضيتنا الأولى، وقضية كل مسلم، ولأنهم الشهداء الأحياء في قلوبنا وعقولنا ووجداننا وأمانة في أعناقنا، نبحث عنهم دوماً، فإن لنا الشرف أن تخط أقلامنا حروف أسمائهم، وبضع كلمات من قاموس اللغة تقديراً لتضحياتهم، وبما يليق بهم، ويحافظ على تاريخهم وإرثهم العريق.

 

فالقدس قدمت آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين، ومن أسرى القدس ارتقى سبعة عشر شهيداً على مذبح الحرية خلف قضبان السجون منذ العام 1967 وحتى الآن، جراء التعذيب والإهمال الطبي وخلال مشاركتهم الإضرابات عن الطعام؛ لينضموا في الذاكرة الفلسطينية إلى قائمة طويلة، ممن حُفرت أسماؤهم في سجل الخالدين، ولم ولن تُمحى من الذاكرة ومن قلوب الملايين.

 

والأسير حسين أسعد عبيدات هو واحد من أولئك الشهداء المقدسيين الذين استشهدوا خلف أسوار وقضبان سجن عسقلان في الرابع عشر من تشرين أول/أكتوبر عام 1992، أثناء مشاركته في الإضراب المفتوح عن الطعام الذي انطلق في السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر، واستمر لتسعة عشر يوماً متواصلة.

 

ولد الشهيد في مدينة القدس عام 1970، وينتمي لعائلة فقيرة وكادحة تقيم في جبل المكبر جنوب شرق المدينة المقدسة، وينحدر من أسرة مناضلة تتكون من الأب والأم وسبعة أولاد، ثلاث أخوات وأربعة أخوان، ذاقت جميعها معاناة الاحتلال، فاندفعت نحو التجذر بالأرض والتمسك في البقاء في حدود مدينة القدس المقدسة.

 

اثنان وعشرون عاماً هي مجمل سنوات حياته قبل أن يفارق الدنيا وهو في ريعان شبابه، كانت قصيرة نسبياً، لكنها اتسمت بالكدح والصمود، حافلة بالعطاء والتضحية، وفي السنوات الأخيرة من حياته ومع اندلاع انتفاضة الحجارة في كانون أول/ديسمبر عام 1987 ، كان من السباقين المقاومين للاحتلال ووجوده، ليُعتقل عام 1988 بتهمة الانتماء لـ"الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين" ومقاومة الاحتلال، وبعد تعذيب قاسٍ أصدرت إحدى المحاكم الاحتلال ضده حكماً بالسجن الفعلي لمدة سبع سنوات.

 

        كان الشهيد حسين شاباً يشهد له كل من عرفه من أصدقائه وجيرانه، وكل من رافقه وعايشه في السجن، بدماثة أخلاقه وتفانيه بآداء واجبه، وما يتمتع به من حس نضالي قوي وحرص عالٍ على توسيع دائرة علاقاته الاجتماعية والوطنية على أسس من الاحترام والتقدير، كما وتحلى دوما بمعنويات عالية وإرادة قوية حتى في أصعب الظروف وأكثرها قسوة.

 

      وفي السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر عام 1992 كانت انطلاقة الإضراب المفتوح عن الطعام والذي شمل كافة السجون والمعتقلات "الإسرائيلية" بشكل متفاوت، واستمر 19 يوماً، واصطلح على تسميته بـ"أم المعارك" كونه شكّل مرحلة مهمة في الذود عن كرامة الأسرى. وقد شارك في هذا الإضراب أكثر من سبعة آلاف أسير، وحظي بمساندة جماهيرية واسعة في الوطن والشتات، وتمكنت الحركة الأسيرة من خلاله من انتزاع العديد من الحقوق الأساسية.

 

ومع بدء الإضراب المفتوح عن الطعام، كان شهيدنا يقبع في إحدى غرف سجن عسقلان الذي أعلن الانضمام للإضراب الشامل منذ اليوم الأول لبدئه، فيما هناك بعض السجون قد التحقت بالإضراب بعد أيام من انطلاقته وفقاً لظروفها، وبإصرار شديد ومعنويات عالية قرر حسين مشاركة إخوانه ورفاقه معركة الأمعاء الخاوية، والانخراط في ما اصطلح على تسميته بـ"أم المعارك" لينال شرف مقاومة السجان بأمعائه الخاوية.

 

   ومرت الأيام ثقيلة، وتفاقمت خلالها معاناة الأسرى المضربين عن الطعام، في ظل تصاعد عمليات التنكيل والمضايقات والضغط النفسي لإجبارهم على إنهاء الإضراب وإفشاله، وتدهورت الأوضاع الصحية للعديد من الأسرى دون أن يتلقوا الرعاية اللازمة، ورغم ذلك استمر الإضراب، وصبر الأسرى، وتحملوا معاناة الجوع وآلام الجسد، ووصل إلى لحظة الانتصار التي توجت باتفاق ما بين ممثلي الأسرى وإدارة السجون، ينهي بموجبه الأسرى إضرابهم، وتلبي إدارة السجون مطالبهم، وليحققوا من خلاله العديد من الحقوق الأساسية، فيما استمر إضراب سجن نفحة ليومين آخرين.

وفي الوقت الذي كان يحتفل فيه الأسرى في سجن عسقلان، بانتهاء إضرابهم وتحقيق الانجاز دون سقوط شهداء، صعقوا بنبأ استشهاد الأسير المقدسي حسين عبيدات في الرابع عشر من أكتوبر 1992، ليسطر بدمائه الطاهرة حروف البطولة والانتصار في "أم المعارك"، كما سطرها عشرات الأسرى من قبله ومن بعده في معارك عدة خاضها الأسرى خلف قضبان سجون الاحتلال، ليلتحق بقافلة شهداء الحركة الأسيرة، وليسجل اسمه بحروف من نور وعزة.

 

وتبقى مقاومة الاحتلال في السجون بطولة، وأسرى القدس وفلسطين نموذجاً..