الأسير المحرر عوني فروانة: صمود الأسرى يحطم كل مؤامرات ومخططات الاحتلال
واصل مركز أبو جهاد لشؤون الحركة الأسيرة في جامعة القدس نشر تجارب الأسرى المحررين وذلك بالتعاون مع جريدة الحياة الجديدة، وننشر في حلقة هذا الأسبوع تجربة الأسير المحرر عوني فروانة من مدينة غزة.
الأسير المحرر عوني عبد القادر حسن فروانة من مواليد مدينة يافا في العاشر من أيار عام 1940 ويقيم في مدينة غزة بعد أن لجأت أسرته إليها في حرب عام 1948 وهو من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأمضى في سجون الاحتلال أكثر من 15 عاما، يروي تجربته لمركز أبو جهاد.
انتمى للثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها وناضل من خلال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وقاوم الاحتلال وشارك في العديد من العمليات الفدائية بشهادة رفاقه ومحبيه ومعارفه. وعن يوم اعتقاله يقول:
"كان لدي محل لتنجيد كراسي السيارات في مدينة غزة، حضر عندي مجموعة من رفاقي الفدائيين وشربوا الشاي ثم غادروا، ويبدوا أن هناك أحد العملاء شاهد الفدائيين، وقام بإبلاغ الاحتلال عنهم، وبعد لحظات حضر جيش الاحتلال والمخابرات واقتحموا المحل وسألوني: أنت عوني؟ قلت لهم نعم، فسألوني عن الفدائيين، فقلت لهم لا يوجد عندي أحد، فشاهدوا أكواب الشاي المشروبة، فسألوا عمن شربها ؟ فقلت لهم: إن من شربها زبائن، عند ذلك قاموا بتفتيش المحل، ثم أمروني بالركوب في الجيب العسكري، وادّعوا أنهم سيأخذونني بعض الوقت ومن ثم سيطلقون سراحي. كان هذا بتاريخ 3-3-1970.
لكنني تفاجأت وإذا بهم يوصلونني إلى سجن غزة المركزي، وهناك أدخلوني إلى غرف السجن الداخلية، وجدت مجموعة من رجال المخابرات الذين بدأوا يسألونني عن الفدائية، والسلاح، كانوا يسألون أسئلة اعتيادية بدون ضرب أو تعذيب، ثم بدأوا يستخدمون التعذيب واستمر هذا الأمر عدة أيام.
بعد فترة جاء ضباط المخابرات وقالوا إنهم سيأخذونني في أحد الجيبات قرب سوق فراس (الحسبة) بغزة، وسيغطونني ببطانية، و وإذا رأيت أي أحد من الفدائيين يمر من السوق أقوم بالإبلاغ عنه، فرفضت أن تتم تغطيتي بالبطانية وقلت لهم أنني سأذهب معهم لكن بشرط أن أكون مكشوفاً، وبالفعل أخذوني إلى السوق وقيدوا يدي وقدمي، واصطف الجنود بجانبي، كما قاموا بمنع التجول وأمروا الناس المرور من أمامي في الشارع، وهناك بدأ ضابط المخابرات يسألني عن أي شخص اعرفه من المقاومين، فكنت لا أرد على ضباط المخابرات ولا أجيب عليهم كنت أقول لهم إنني لا اعرف أي أحد.
حقيقة هذه تجربة قاسية ووسيلة اعتقال وتعذيب نفسي بأن يتم أخذ الأسير إلى مكان عام،
والطلب منه أن يبلغ عن شعبه، كانت تجربه قاسية بأن يقوم جنود الاحتلال بمنع التجول
ويأمرون الناس تحت تهديد السلاح بالسير أمامهم، وكأنهم اعتقلوا جميع من تواجد
بالسوق ، بالفعل ما شاهدته يمكن أن يسجل اعتقالا جماعيا للمواطنين في بداية
السبعينيات.
كانوا يضعونني تحت تعذيب وتهديد وضغط نفسي كي اعرفهم عن أي شخص يمر، لكنني صمدت
وكان لدي إصرار وتحدي بعدم الحديث والكلام، وبالفعل نجحت ولم يتم اعتقال أي شخص من
السوق، وتم إنهاء منع التجول، وبسبب أنني لم اعترف لهم أو ابلغ عن أي شخص قاموا
بدفعي بقوة في الجيب، وهناك نقلوني على الفور إلى السجن وبدأوا مرحلة تعذيب وتحقيقا
قاسيا للغاية.
وضعوني في زنزانة ووجدت بها شابا اسمه فريح أبو عريبان وكان هذا الشاب يعاني من إصابات نتيجة التعذيب، لكنه كان صامداً حيث قال لي: الضرب ما بيموت، الصمود أمر مهم، ولقد كان لهذه الكلمات أثر ايجابي في نفسي حيث رفعت من معنوياتي.
كنت امكث في الزنزانة بعض الوقت ثم يحضرونني للتحقيق، حيث ينوعون في أساليب التعذيب فأحيانا يكون هناك ضرب صعب للغاية وأحيانا تحقيق دون ضرب، ومكثت على هذا الحال 32 يوماً متواصلة، ثم أخرجوني من الزنزانة إلى غرف الأسرى العلوية وهناك علمت أن الجيش قام بنسف محلي.
بعد فترة تم نقلي إلى المحاكمة التي استمرت عدة جلسات وفي الجلسة الأخيرة أصدروا علي حكماً بالسجن لمدة 22 عاما بتهمة القيام بأعمال فدائية وسلاح.
بعد الحكم قرروا نقلي إلى سجن المجدل واحضروا سيارة عسكرية وهي ما نسميها سيارة البوسطة، قاموا بتكبيل يدي وعصب عيني ووضعوني في هذه السيارة، وأثناء السير تعرضت للضرب داخل السيارة حتى وصلنا إلى سجن المجدل، وهناك نقلوني إلى غرفة تغيير الملابس كان معي عدد من الأسرى، وأثناء قيامنا بتغيير الملابس كان هناك شرطي إسرائيلي يدعس على أصابع أقدامنا.
استقبلنا الأسرى، وأصبحنا نعيش في الغرف العادية، الحياة كانت قاسية، فخلال الليل هناك نوم، وفي النهار يجب على كل أسير أن يحزم ملابس وأغطية النوم ويجلس بجانبها، وعندما تخرج في الساحة فعلى كل أسير أن يرتدي البستار.
اذكر أن هناك ضابط إسرائيلي اسمه "جورنو" كان قصيراً للغاية، كان عندما يرى أي أسير طويل في الساحة ينادي على هذا الأسير ويقوم بضربه على رقبته، وهنا نلاحظ حجم الاستهتار بالحياة الآدمية الإنسانية فبالرغم من أن الأسير معتقل فإنه يعامل بإهانة من قبل الاحتلال.
من التجارب في عسقلان أيضا كان الاحتلال يحضر لنا طعاما سيئا للغاية ويتم تقسيم البيضة على أسيرين، أما غرفة السجن فهي باردة جداً وكنا ننام على جلدة صغيرة، ويتم منحنا أغطية قليلة، وإزاء هذه الأوضاع الصعبة قررنا الإضراب عن الطعام، استمر الإضراب عدة أيام إلى أن بدأت إدارة السجن بتحسين شروط الحياة، كانوا يخشون من إطالة مدة الإضراب لأنه قبل عدة أشهر كان هناك إضرابات نتج عنها استشهاد عبد القادر أبو الفحم نتيجة الإهمال الطبي.
ومن القصص التي يمكن أن أتحدث عنها وقد شاهدتها في سجن عسقلان هي أن هناك حدثت مشكلة بين حركة فتح والجبهة الشعبية، وتصاعدت هذه الإشكالية، لكن في خضم تصاعد المشكلة اتفق 4 أسرى أسيران من الجبهة الشعبية وأسيران من فتح على نقل الخلاف الداخلي بين فتح والجبهة إلى معركة بين الأسرى والاحتلال، وفي هذا الصدد قام هؤلاء الأسرى بضرب ضابط اسرائيلي يدعى تيرودانو، فشنت إدارة السجن هجوما على الأسرى وقاموا بتعذيب الشباب الأربعة في ساحة السجن.
بعد فترة قامت إدارة سجن المجدل بإصدار قرار بنقل 35 أسيراً إلى سجن السبع، وكنت واحدا من هؤلاء الأسرى وهناك وجدنا الواقع صعب للغاية، فقررنا خوض عدة خطوات احتجاجية استمرت 9 أشهر ومن هذه الخطوات رفضنا الزيارات والحلاقة وعدم الخروج إلى الفورة، كنا نأكل الشيء اليسير من الطعام، ونكتفي بالماء والملح.
لكننا وجدنا أن الاحتلال أصبح يواجه إضرابنا وخطواتنا الاعتقالية، كما قام بمنع إدخال الملح إلى السجن عدة أيام وذلك كي يؤثر على إضرابنا، كما قام الاحتلال بإحضار حلاقين إلى السجن كي يكسروا إضرابنا عن الحلاقة، وبالفعل كان الجنود يدخلون إلى السجن ومعهم شفرات حلاقة ويحلقون للأسرى بشكل إجباري، كانوا يحلقون رؤوس الأسرى وذقونهم بشكل بشع وليس بشكل منظم، فيعمدون إلى أن يجعلوا منظر الأسرى بشعاً.
ومن وسائل كسر الإضراب التي اتبعوها أنهم اخذوا الأغطية من السجن وتركوا غطاء واحدا لكل أسيرين، وهذا أدى إلى إصابة الأسرى بالبرد الشديد، خاصة ونحن كنا في منتصف الشتاء وسجن السبع من أشد السجون برودة، كما هاجمونا عدة مرات لكننا تحملنا وصبرنا في سبيل تحقيق أهدافنا النضالية وخدمة قضية الأسرى بشكل عام.
وخلال فترة الإضراب في العام 73 تفاجأنا بإدارة السجن تقوم بدهان النوافذ باللون الأسود من الخارج، ومنعوا الفورة وأغلقوا السجن بشكل كامل، لم نعرف ما السبب، كنا نسمع صوت طائرات، وبعد فترة جاء وفد من قطاع غزة بقيادة الشيخ هاشم الخزندار لزيارة السجن سألناه عما يحدث في الخارج، فقال إن هناك كانت حرب، ومصر هزمت إسرائيل ووصلت قناة السويس، ففرحنا كثيراً، وهنا يمكن أن نقول أن الاحتلال في الكثير من الحالات يحاول منع الأسرى من التواصل مع العالم الخارجي ومعرفة ما يحدث خارج السجون.
استمررنا في الإضراب وجرت مفاوضات مع مصلحة السجون انتهت بحصولنا على بعض الامتيازات ومنها زيادة مدة الفورة وتحسين الطعام والشراب وجلب الأسرة وإدخال الراديو وبموجب ذلك قمنا بفك الإضراب.
من تجاربي في سجن السبع أن إدارة السجن طلبتنا للعمل في مجال خياطة ملابس لمحلات إسرائيلية مقابل أن يعطونا امتيازات مثل نقود ومواد غذائية من الكنتين، بالفعل بدأنا العمل من خلال ماكنة احضروها داخل السجن، وفي يوم من الأيام تفاجأنا أثناء تصفحنا إحدى الجرائد العبرية أنه مكتوب عليها " المخربون الذين يقتلون أطفالنا يصنعون الملابس لأطفالنا" عرفنا أن المقصود بهذا الكلام هو نحن الأسرى، لذلك توقفنا عن العمل في الخياطة بالرغم من التهديد الذي تعرضنا له، لقد كان موقفنا حازماً بأن لا نعمل مع من يتهمنا بأننا مخربون، فنحن مناضلون نريد تحرير فلسطين.
ومن التجارب التي يمكن أن اذكرها أن الاحتلال كان يعتدي على الأسرى أثناء نقلهم بسيارة البوسطة إلى المستشفيات للعلاج أو السجون الأخرى لكن كان لنا موقف رافض لذلك، وحذرنا إدارة السجن من هذه التصرفات وقلنا أن أي أسير يتعرض للضرب في سيارة البوسطة فعليه الرد فوراً وضرب من يضربه من جنود الاحتلال، وفي أحد الأيام كان هناك أسيراً اسمه محمد أبو النصر وكان معه أسير ضرير وهو علاء البازيان وأثناء نقلهما إلى مستشفى سجن الرملة، قام أحد جنود البوسطة بضرب الأسير الضرير البزيان، فما كان من الأسير محمد أبو النصر إلا الرد الفوري وضرب الجندي بشدة، وحقيقة كانت هذه الحادثة مفصلية حيث لم يتم الاعتداء على أي أسير بعد ذلك في سيارات البوسطة.
بقيت في السبع فترة طويلة ثم تم نقلنا إلى سجن المجدل وعلمنا في العام 85 بوجود صفقة تبادل للأسرى، وكان اسمي ضمن الأسرى المفرج عنهم وتم تخييري بين الذهاب إلى غزة أو الخارج فاخترت غزة.
اعتقلت وأنا متزوج وكان لدي 4 أبناء، وأنا في السجن ولد ابني جمال الذي لم أره، وعندما خرجت من السجن كان جمال يبلغ من العمر 15 عاماً، ثم بعد أشهر قليلة تم اعتقاله، ثم بعد فترة قصيرة أيضا تم اعتقال ابني عبد الناصر، فترات طويلة حرمت من أبنائي حيث حرمت من رؤيتهم بسبب اعتقالي، وبعد الإفراج حرمت من رؤيتهم بسبب اعتقالهم، كما حرمت من رؤية بناتي مها وفاطمة في صغرهما، أما زوجتي أم العبد فقد تحملت وصبرت وكانت نعم الزوجة فكانت تزورني في السجن وتحملت المسؤولية بغيابي.
لقد عشت معاناة حقيقية في اعتقالي أو اعتقال أبنائي وهي تجربة تسجل بأن الاحتلال يحاول دائماً التأثير على الإنسان الفلسطيني بسبب وجوده في هذه الأرض فلسطين، لكن صمودنا وإرادتنا وصبرنا أمور تتحطم عليها كل المؤامرات والمخططات الاحتلالية.
كانت لدي هواية القراءة والتثقيف، فقرأت عدة كتب، كما تعلمت اللغة العبرية ومن هوايتي كنت أمارس النحت على الصخور والحجارة إضافة إلى الرسم والتطريز وتصميم قبة الصخرة وخارطة فلسطين، ومن الأشياء الطريفة انه في إحدى الزيارات أبلغتني زوجتي أن الأولاد نجحوا في المدارس، فأعطيتها أحجاراً منحوتا عليها شكل وردة ورأس قلب كهدية بمناسبة نجاح الأولاد، فأخذتها لكنني عرفت في نفسي أن هذه الهدية غير مجدية فالناس يعطون زوجاتهم الذهب والنقود والهدايا في المناسبات ويعطون أولادهم الحب والألعاب، لكنني أعطيهم الحصى، لقد آلمني هذا الموقف.
وبخصوص وضعي الصحي في السجن، فبشكل عام السجن يجلب المرض للأسير خلال فترة الاعتقال وبعدها، لقد عانيت خلال الاعتقال من ألم في المعدة بسبب الطعام السيئ، فصار عندي انفتاق قرب السرة وصار الألم شديدا، فنقلوني إلى مستشفى برزلاي وقرروا إجراء عملية، لقد أخذوني لإجراء العملية ويداي وقدماي في الأصفاد، ولم يفكوها إلا عندما أعطوني إبرة التخدير، وبعد انتهاء العملية أفقت فوجدت قدمي مكبلتين في السرير لقد أجروا العملية وأنا مكبل القدمين وهو انتهاك صارخ للحياة الإنسانية.
وحقيقة مازلت أعاني من ألم في المعدة حتى اللحظة كما أصبت بانغلاق في بعض الشرايين وأجريت عملية قلب مفتوح بعد الخروج من السجن.
السجن بشكل عام معاناة حقيقية وعذاب هو وسيلة إسرائيلية للضغط على شعبنا ومنعه من مواصلة مشوار التحرير، لكنه في الحقيقة نجد أن السجن تحولت إلى مدارس وأكاديميات تعلم فيها الشعب الفلسطيني النضال والإرادة والتحدي والصبر نحو تحقيق أهدافه وفي مقدمتها القدس والعودة وفلسطين.
http://www.alhaya.ps/arch_page.php?nid=298532