محمد القيق .. بجوعه يقاوم وينتصر
بقلم/ عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى
15-2-2016
ان العالم لم يعرف يوماً قوة ذات تأثير أعظم مما يتمتع به الإعلام في عصرنا هذا. وأن الدول أصبحت تتقوى بإعلامها الموجه خدمة لمصالحها وتوجهاتها، وأنه ليس هنالك من انتصار لأية قضية مهما كانت درجة عدالتها دون إعلام قوي. لذا فإن الاحتلال الإسرائيلي يخشى الإعلام الفلسطيني ودوره الهام في توثيق الأحداث ونقل الأخبار، وبث الصورة التي يجسدها بممارساته القذرة وانتهاكاته الفظة وجرائمه المروعة. كما ويخشى أيضاً تأثير الإعلام في تأنيب الرأي العام الفلسطيني والعربي والدولي. لهذا يمعن في انتهاكاته بحق الإعلاميين الفلسطينيين كافة، بغض النظر لأي جهة يتبعون، ومع أي وسيلة إعلامية يعملون، فلسطينية كانت أم عربية أم عالمية، فجميعهم يقفون سواسية أمام شواخص استهدافه وممارساته القمعية، إما بالإصابة والقتل، أو بالاعتقال والإبعاد.
نعم.. هكذا هو حال الصحافة والصحفيين في فلسطين. فالاحتلال الإسرائيلي يكبل الصحافة بالأغلال، ويقيد الصحفيين بالأصفاد والسلاسل. ليس هذا فحسب وانما يوظف أجهزته الأمنية المختلفة وقواته المدججة بالسلاح، وما يُسمى بالقضاء لخدمة سياسته القاضية بملاحقتهم والتضييق عليهم ومصادرة معداتهم وتحطيم كاميراتهم، لغرض الانتقام منهم وبث الرعب والخوف في نفوسهم، وبهدف تحييدهم وحجب الصورة واغتيال الحقيقة التي ينقلونها بمهنية.
وفي هذا السياق ومنذ اندلاع "انتفاضة القدس" في الأول من تشرين أول/أكتوبر 2015، وبعد النجاح اللافت للصحفيين في توثيق جرائم الاحتلال بحق شعبنا، بالصوت والصورة، وفضح ممارساته التعسفية واجراءاته القمعية بحق المواطنين العزّل، صعّد الاحتلال من استهدافه للصحفيين الفلسطينيين وبشكل غير مسبوق، واقترف انتهاكات وجرائم كثيرة بحقهم، وأصاب وقتل العديد منهم، واحتجز واستجوب واعتقل عشرات آخرين بذريعة التحريض، ولا يزال حتى الثلث الأول من شباط/فبراير2016 يحتجز في سجونه ومعتقلاته ثمانية عشر صحافيا، أبرزهم الصحفي "محمد القيق" الذي يعمل مراسلا لقناة المجد السعودية.
"محمد القيق" .. صحفي فلسطيني يبلغ من العمر (33 عاما) وله بيت وأسرة، وزوجة وأطفال، أعتقل من بيته بتاريخ 21/11/2015 في الخليل لنقله الصورة حسب ما تقتضيه المهنية الصحفية وأخلاقياتها وأعرافها، والاحتلال اعتبر أن في ذلك تحريضا على أمنه، فزج به في سجونه رهن "الاعتقال الإداري" دون تهمة واضحة، أو محاكمة عادلة..!
فعن أي تحريض يتحدثون.؟ فإن كان نقل الحقيقة يشكل تحريضا، وفقاً للتصنيف الإسرائيلي، فعلى الصحفيين وعلينا جميعا أن نفخر بأننا من (المحرضين)، وان أراد الاحتلال بأن لا نكون من (المحرضين) حسب وصفه، عليه أن يغير من سلوكه وممارساته التي ترسم ملامح الصورة المنقولة. وهو لم ولن يفعل ذلك. لأن ذلك ليس من سماته وعاداته في تعامله مع الفلسطينيين عبر العقود الماضية. وإذا كان ذلك كذلك فإننا سنستمر وسيستمر الاعلاميون في نهجهم وعملهم بكل مهنية وشفافية من أجل إيصال الرسالة الإعلامية الهادفة في تداول ونقل الأخبار بمسؤولية عالية وموضوعية فائقة، وسيستمرون كذلك في نقل الصورة التي تعكس الحقيقة كما تلتقطها عدسات الكاميرات وتوثقها شهادات الضحايا وتخطها أقلام الأوفياء.
وحينما تعجز كافة الأسلحة المشروعة، والأقل ألما، في الدفاع عن حرية الرأي والكلمة وحماية الصحفيين وإنهاء سياسة "الاعتقال الإداري"، يطل علينا المعتقل "محمد القيق" وينوب عنا جميعا ويشهر السلاح الأقسى والأكثر ألما، السلاح غير المفضل بالنسبة للأسرى، وما يُعرف بـ "الإضراب المفتوح عن الطعام"، كشكل من أشكال المقاومة السلمية المشروعة، ويعلنها ثورة في وجه السجان بجوعه وأمعائه الخاوية، رفضا لمصادرة حقه في نقل الحقيقة، واحتجاجا على استمرار اعتقاله التعسفي وفقا لما يُسمى "الاعتقال الإداري". هذا الاعتقال التعسفي الذي يلجأ إليه الاحتلال كإجراء بديل ومريح للإجراءات الجنائية، دون الالتزام بالضوابط الإدارية والإجراءات القضائية التي حددها القانون الدولي حينما أجاز اللجوء الاستثنائي إليه كتدبير شديد القسوة في الظروف الطارئة، وذلك لتبرير استمرار احتجاز الفلسطينيين دون تهمة أو محاكمة، وفي هذا السياق أصدرت سلطات الاحتلال منذ اتمام احتلالها للأراضي الفلسطينية عام 1967 أكثر من خمسين ألف قرار بالاعتقال الإداري، مابين قرار جديد وتجديد الاعتقال الإداري، ولازالت تحتجز في سجونها ومعتقلاتها نحو سبعمائة معتقل إداري، وبذلك تكون سلطات الاحتلال قد مارست ما كان قد حذّر من ممارسته القانون الدولي حينما جعلت منه وسيلة للعقاب الجماعي بحق كافة فئات وشرائح المجتمع الفلسطيني، ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وهذا السلوك يشكل جريمة من منظور القانون الدولي.
"محمد القيق".. الصحفي الفلسطيني الذي بدأ إضرابه المفتوح عن الطعام في الخامس والعشرين من تشرين ثاني/نوفمبر 2015، أي منذ ما يزيد عن ثمانين يوما، رافضا تناول أي نوع من المدعمات أو المقويات، ويصر على الاستمرار في إضرابه وصولا الى انهاء اعتقاله التعسفي وانتزاع حريته المشروعة، ليسجل بذلك تجربة نضالية فردية وفريدة، نوعية ومميزة، تضاف إلى العشرات من التجارب الفردية السابقة التي حظيت وتحظى دوما باحترامنا وتقديرنا لما سجلته من صمود أسطوري، ولما قدمته من تضحيات فردية قلما شهدت السجون الإسرائيلية مثيلاتها من قبل.
"محمد القيق" .. يُعيد بنا للوراء أربع سنوات مضت لنستحضر كوكبة من المعتقلين الذين خاضوا تجارب الإضرابات الفردية عن الطعام على مدار تلك الفترة، وسطرّوا صفحات مضيئة في المقاومة السلمية المشروعة خلف القضبان، وحققوا نجاحات عديدة، بالرغم مما يمكن أن يُسجل على تلك المسيرة من مآخذ وملاحظات. كما ويدفعنا "محمد" قسراً لأن نستحضر كذلك، تجاربنا الشخصية مع الإضرابات الجماعية عن الطعام، لنعيش حالة "القيق" بمرارتها ومعاناتها، بمعانيها ودلالاتها، فنلتصق به أكثر ونلتحم معه بقدر أكبر، بكل مشاعرنا وأحاسيسنا وجوارحنا حتى النهاية وتحقيق الانتصار المأمول بإذن الله.
"محمد القيق" وبغض النظر إلى أي فصيل ينتمي، لحماس أم للجهاد، لفتح أم للشعبية أم للديمقراطية أو لغيرهم، وبغض النظر أيضا من أي منطقة جغرافية ينحدر، من القدس أم من قطاع غزة أم من رام الله والخليل ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية.. ، فيكفينا فخرا أنه فلسطيني ويقطن في احدى محافظات الوطن ويقيم فوق الأراضي الفلسطينية، وهو من قرر أن ينوب عنا جميعاً ويشعلها بجوعه ثورة في وجه السجان الإسرائيلي.
"محمد القيق".. نستسمحك عذراً إن كنا قد قصَّرنا في مساندتك، أو ان كنا قد تخلفنا عن الاستجابة للمشاركة في فعاليات وأنشطة نظمت هنا أوهناك دعما واسنادا لإضرابك، أو ان كنا قد صمتنا في لحظات ما كان يجب أن نصمت أمام جوعك لأجل الحياة الكريمة. لكن تأكد تماما أننا نقف بجانبك في معركتك ونبذل جهدنا قدر المستطاع من أجل نصرتك، وسنكون دوما سندا لكل من يشهر سلاح الأمعاء الخاوية في وجه السجان ذودا عن كرامة الأسير الفلسطيني، ودفاعا عن حرية الرأي والكلمة، واحتجاجا على سوء الظروف والمعاملة، ورفضا لسياسة الاعتقال التعسفي.
محمد القيق .. بجوعه يقاوم وينتصر .. حرا أو شهيدا
انصروه ولو بالدعاء .. حراً وليس شهيداً