حافظ قُندس ما بين يافا وحكاية ربع قرن في السجن

 

 

*بقلم / عبد الناصر عوني فروانة

14-5-2010

 أرشيف المقالات

حافظ .. اسم ليس ككل الأسماء ، فهو الحافظ والحارس ، وهو من حفظ مكانة شعبه وقضيته ووطنه في حدقات عيونه وفي فؤاده ، وحافظ على مبادئه وأخلاقه وإخلاصه لكل من أحبهم وانتمى إليهم وسكنوا عقله ووجدانه ، فهو حافظ على شمعة الأمل ، وحرَّس الحلم الذي لازال قائماً رغم مرور ربع قرن في الأسر .

 فحافظ هو الأسير الفلسطيني الشامخ رغم قساوة السجن وهمجية السجان ، وهو أحد قدماء الأسرى و يحتل الرقم الثاني عشر على قائمتهم عموماً ، والرابع على قائمة أسرى الداخل من حيث الأقدمية ، واليوم يكون قد تمم عامه السادس والعشرين في الأسر بالتمام والكمال  ، ليدخل غد عامه السابع والعشرين ، فأي حافظ أنت يا حافظ وأي الكلمات تلك التي يمكن لنا انتقائها كي نحفظ لك حقك فينا وعلينا ولدينا ، ونحفظ تاريخك في سجل شعبك الناصع ، ونحافظ على علاقتنا بك أيها الحافظ للعهد .

انه الأسير " حافظ نمر محمد قندس " ( 52 ) من مدينة يافا الجميلة ، يافا العربية الفلسطينية الساحرة بمنظرها وجمالها الخلاب وجوها العطر وعبق رائحة ترابها ، يافا عروس البحر كما رآها حافظ وأمثاله ، أرض البرتقال الحزين كما وصفها غسان كنفاني ورفاقه ، يافا المدينة العتيقة بآثارها التاريخية وحضارتها المشرقة التي كانت وستبقى عربية فلسطينية كما يراها شعبه الفلسطيني .

وفي أحد بيوت يافا العتيقة ، وبين أزقتها وشوارعها نشأ " حافظ " ، وترعرع في كنف عائلة عربية أصيلة عرفت كيف تربي أبنائها وتوفر لهم عوامل التنشئة السليمة ، وعرفت كيف تساهم في تنمية الحس والشعور الوطني والقومي لديهم ، فكبر حافظ وكبرت معه القضية شأنه شأن الكثيرين من أمثاله من فلسطينيي الداخل ، ليؤكدوا بأنهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني ، فانخرطوا في النضال بكل أشكاله ، فمنهم من دفع حياته ثمناً لذلك ليلتحق بقافلة الشهداء ، ومنهم من أفنى زهرة شبابه وسنوات طويلة من عمره في غياهب سجون الاحتلال ، فيما لايزال الكثيرين منهم قابعين هناك خلف قضبان السجون بانتظار المجهول ، يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة القاسية والإنتهاكات الفاضحة لحقوقهم الأساسية كونهم جزء أساسي من الحركة الوطنية الأسيرة ، بل وفي كثير من الأحيان يعانون أكثر من غيرهم جراء فصلهم وعزلهم في أقسام لوحدهم ، ناهيكم عن المواقف المؤلمة في التعاطي مع قضيتهم   .

 والأهم أن من بين هؤلاء يوجد عشرين أسيراً ضمن قائمة الأسرى القدامى وأقل واحد منهم مضى على اعتقاله ثمانية عشر عاماً ، فيما بينهم ( 16 أسير ) مضى على اعتقالهم أكثر من عشرين عاماً ، فيما بينهم أيضاً أربعة أسرى ضمن قائمة " جنرالات الصبر " وهو مصطلح يُطلق على الأسرى الذين مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن  .

ويعتبر الأسير " سامي خالد يونس " ( 80 عاماً ) المعتقل منذ أكثر من سبعة وعشرين عاماً هو عميد أسرى الداخل وأقدمهم أكبرهم سناً .

أما الأسير " حافظ قندس " فانه يحتل المرتبة الرابعة على قائمة أسرى الداخل  من حيث الأقدمية ، وهو ومن تقدموا عنه على القائمة قد تجاوزوا الربع قرن في الأسر .

" حافظ " تم اعتقاله في الخامس عشر من مايو / آيار عام 1984 ، وكان عمره آنذاك ( 26 عاماً ) وهو ليس متزوجاً ، وحكم عليه بالسجن الفعلي لمدة ثمانية وعشرين عاماً ، قضى منها ستة وعشرين عاماً بالتمام والكمال ، بمقدار السنوات التي أمضاها من عمره قبل الأسر ، متنقلاً ما بين كافة السجون تقريباً ، فيما هو موجود الآن في سجن ( جلبوع ) المجاور لسجن شطة ، وربما ينتق قريباً إلى سجن آخر ، هكذا هو حال الأسرى ، تنقلات مستمرة دون استقرار .

والدته العجوز .. تنتظر الزيارة بفارغ الصبر .. وتخشى الرحيل قبل عودته واحتضانه

وتنقلاته ما بين السجون وعدم استقراره ، تفاقم من معاناة والدته المسنة " أم حافظ "التي قالت لي قبل عام خلال حديثي معها عبر الهاتف (( أنها تذهب لزيارة " حافظ " أينما كانت وأنها تعد الأيام الفاصلة مابين زيارة وأخرى باليوم والساعة ، وأنها لم تترك زيارة واحدة إلا وتذهب لزيارته لتُكحل عيناها برؤيته حتى وان كان ذلك من خلف الأسلاك أو ألواح الزجاج ، وأنها عرفت كافة السجون رغم كبر سنها وما تعانيه من أمراض وما تسببه لها الزيارة من إرهاق ومتاعب ومضاعفات ، ولكن هذا من أجل رؤية ولدها يهون – هكذا قالت - )) .

وهذا يعني بان المعاناة لم تقتصر على الأسير " حافظ " فحسب ، بل تمتد لطال والديه ولمن يسمح لهم بزيارته من شقيقيه ( إبراهيم وأحمد ) والأول توفى منذ سنوات والثاني ممنوع من الزيارة منذ سنوات طويلة ، فيما في الغالب يسمح لشقيقتيه ( وفاء وفاتنة ) بزيارته ، والزيارات مؤلمة وقاسية ، مؤلمة بكل ما تعنيه الكلمة من معاني وما يصاحبها من عذاب وإرهاق ، فيما فقد والده وشقيقه إبراهيم دون أن يودعهما ويلقي عليهما نظرة الفراق الأخيرة ، ولم يسمح له سوى بالحضور مباشرة من السجن للمقبرة لحظة دفن جثامينهما ومن ثم إعادته للسجن ، وفي صورة صعبة وجديدة فإن الحالة الصحية لوالدته المسنة " أم حافظ " ( 76 عاماً ) قد تدهورت في الآونة الأخيرة ، ويكاد يفقدها دون أن يراها كما حدث مع والده وشقيقه – لا سمح الله –  .

وفي هذا الصدد وخلال حديثي معها عبر الهاتف (( دعت الله  أن تُكحل عيناها برؤيته دون قضبان وأن تحتضنه دون حواجز وأن تنام معه في بيتها دون حراسات قبل الرحيل الأبدي .. )) اللهم تقبل دعواها وحقق لها أمانيها .

وصباح هذا اليوم ( الجمعة 14-5 ) وخلال حديثي معها أعادت نفس الكلمات وكأنها أصبحت جزء من حياتها ، بل هي كل حياتها ، تعيش وتنام وتصحو على أمل اللقاء به ، وأبلغتني بأنها زارته يوم الإثنين الماضي ( 10-5 ) في سجن جلبوع ويتمتع بمعنويات عالية رغم سني الإعتقال الطويلة ، وأنها تنتظر على أحر من الجمر مرور ما تبقى من سنوات حكمه ليعود الى بيته في يافا ، قبل رحيلها .

محاولة الهروب ..

وعودة إلى " حافظ " وحكايته مع الأسر ، ففي العام 1997 تمكن " حافظ " مع مجموعة من الأسرى على مدى شهور من حفر خندق طويل أوصلهم إلى مكان الزائرين في محاولة منهم للهرب ، وبالفعل تمكنوا من الوصول إلى حيث قرروا ولكن بعد خروجهم انكشف أمرهم ففشلت محاولتهم .

 وبعد مرور ( 26 عاماً ) لا يزال الأسير " حافظ " على الأمل يحيا ، يستمد منه قوة صموده ، ينتظر مرور ما تبقى من فترة حكمه ، لينعم بالحرية ويعود إلى بيت العائلة الدافئ ولشوارع يافا الجميلة التي اشتاقت له وتنتظر عودته إليها ، ليستنشق هوائها العطر ويستمتع بجمالها الساحر ومناظرها الخلابة وساحلها الجميل ، فلا زالت صورتها عالقة في أذهانه كما عرفها في طفولته .

أسرى الداخل .. جزء أصيل من الحركة الأسيرة ..

ولكن إذا كان حُلم حافظ بالحرية سيتحقق بعد سنتين أو أقل ببضعة شهور ، ونأمل أن يكون قبل ذلك بكثير ، فان الآخرين من رفاق دربه وأصدقاء القيد والمعاناة ، قدامى أسرى الداخل أو أراضي 1948  ، قد لا ينعمون بذلك على المدى القريب ، ولربما قد لا يتمكنوا من العودة لديارهم في المثلث وباقة الغربية ويافا واللد والرملة وكفر قاسم وأم الفحم لسنوات طويلة قادمة ، في ظل نسيانهم وتهميشهم وعدم إدراجهم ضمن صفقات التبادل السابقة أو ضمن الإفراجات السياسية .

ومن الأهمية بمكان التأكيد هنا بأن أسرى أراضي 1948 هم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وجزء أصيل من الحركة الوطنية الأسيرة ، ويجب عدم السماح باستبعادهم من الإفراجات السياسية أو من صفقة التبادل التي يدور الحديث حولها مع آسري " شاليط " ، وأن مدى تمسكنا بحريتهم والعمل من أجل تحريرهم ، إنما يعكس مدى تمسكنا بتحرير مدنهم وقراهم ، مدى تمسكنا وسعينا لتحرير يافا وحيفا والرملة والمثلث وباقة الغربية وعكا واللد وأم الفحم .

وبتقديري فان أية صفقة تبادل يمكن أن تتم وتستثني أسرى الداخل ، لا سيما القدامى منهم ، هي صفقة مرفوضة وغير مقبولة فلسطينياً ، فالحركة الأسيرة هي قضية واحدة وموحدة غير قابلة للقسمة .

 وفي الختام نذكر بأن قائمة الأسرى القدامى تضم عشرين أسيراً من أرضي 1948 هم حسب الأقدمية : سامي وكريم وماهر يونس المعتقلين منذ يناير 1983، حافظ قندس ، إبراهيم ورشدي أبو مخ ، وليد دقة ، إبراهيم بيادسة ، أحمد جابر ، محمد زيادة ومخلص برغال و بشير الخطيب ، محمد ومحمود جبارين ، علي عمرية وسمير سرساوي ، إبراهيم ومحمد ويحيى اغبارية ، محمد توفيق جبارين المعتقل منذ ابريل 1992 .

 

لا بد من التنويه إلى أن هذا المقال ( مُحدَّث ) حيث سبق ونشرناه بنسخته الأولى وتحت نفس العنوان في مثل هذا اليوم من العام الماضي 2009 .. فاقتضى التنويه

 

* أسير سابق ، وباحث مختص في شؤون الأسرى

مدير دائرة الإحصاء بوزارة الأسرى والمحررين في السلطة الوطنية الفلسطينية

 

أرشيف الأسرى القدامى