باقة ورد للمناضل الاسير عبد الناصر فروانة ..
بقلم: ريموندا حوا طويل..
جريدة القدس 14-4-2013
مؤسسة في شخصية.. إنسان فرد محررا وكاتبا وممولا ومتواصلا مع كل فلسطيني وعربي وإنسان حر تؤرقه قضية أسرى الحرية.
* كان طفلا في الثالثة من عمره، عندما اعتقل الجيش والده من مكان عمله ، واقتحموا ليلاً بيت العائلة، ليزرعوا في وجدان الطفل ذكريات لا تنسى
* بعد صفقة جبريل ولأول مرة منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما يلتئم شمل الأسرة.. الأب الذي أمضى خمسة عشر عاما، والأخ الذي كان في رحم أمه
* المناضل والأسير السابق الذي أسس ( فلسطين خلف القضبان ) وتحول إلى مرجع لقضية الأسرى وأحوالهم وتعدادهم وحكاياتهم وأسرارهم
الحياة قضية وموقف، وما أتعس ذلك الإنسان الذي يمضي في حياته بلا موقف أو
قضية، ويؤكد لنا تاريخ الحضارة والبشرية، ان هناك عشرات الأعلام ممن حفظ
التاريخ أسمائهم لأنهم كانوا علما على قضية معينة، فغاندي مثلا، علم على
النضال السلمي، وياسر عرفات علم على الدفاع عن العدل ضد الظلم، ومانديلا
علم
على المطالبة بالمساواة ومحاربة العنصرية، وعمر بن الخطاب علم على
العدل، وعمر المختار علم على النضال من اجل الحرية والتحرير، وعبد الناصر
علم
على القومية العربية، وسبارتكوس علم على مقاومة نظام العبودية والعبيد،
والشيخ احمد ياسين علم على إرادة المقاومة وتحدي العجز، وهيلين كلر علم
على
قهر العجز والضعف.
لكل إنسان قضية وموقف، كما يقول احمد شوقي:
الناس ساع في الحياة لغاية
ومضلل يجري بغير عنان
ولا
يشترط في صاحب القضية ان ينقش اسمه على صفحات الخلود، ولا يشترط فيه
أن
يقضي شهيدا في سبيل قضيته ومبدأه، يكفي ان يكون للإنسان هدف واضح محدد،
يُمضي كل حياته في سبيله فلا يأكل ولا يشرب ولا يتعاطى في الحياة، إلا وهذا
الهدف ملء جوارحه وحواسه، ماثل أمامه في كل كبيرة وصغيرة من شؤونه وشجونه.
انه بذلك يكسب حياته معانٍ نبيلة، ويجعل لوجوده قيمة وهو قد يعيش فترة طويلة أو قصيرة من الزمن، ليس ذلك مهما على الإطلاق، المهم، أنه عاش حياة خصبة عميقة عريضة غنية، لا تقاس بالأيام والأسابيع والشهور والسنين، وإنما تقاس بما أنجزه وحققه لنفسه وأمته ولكل من حوله، إنها تقاس بالقيم العظيمة النبيلة التي زرعها في حدائق الإنسانية لتفيض على إخوته في الإنسانية بالخير والجمال والعطاء لتعطي الدفء والحنان والسلام والإحساس بالرضا والسعادة التي يعيش في ظلالها، هؤلاء الذين نحبهم ونعيش من أجلهم ولا معنى لحياتنا بعيدا عن منبتهم وحياتهم ووجودهم، فالعطاء قيمة عظيمة من القيم التي طغت المفاهيم المادية والحسية عليها، وإذا كان هناك من يجد اللذة في أن يأخذ فان هناك بعض الطاقات الإنسانية التي تجد سعادتها في أن تعطي.
وقد استحضرت هذه المعاني النبيلة وأنا أتتبع مسيرة المناضل الانسان عبد الناصر فروانة.
لقد ملأت هذه الأفكار وجداني وعقلي، وأنا أتأمل حياة عبد الناصر فروانة المناضل والأسير السابق الذي وهب كل طاقاته، وقدراته لقضية إنسانية وقومية، من أهم قضايا حياتنا المعاصرة، قضية الأسرى.
فنحن شعب فلسطين، تعيش في وجداننا وفكرنا وحياتنا قضية أرضنا التي اغتصبت والتي فقدناها، في حادثة سير على حد تعبير محمود درويش، وكل ما بذلناه، ونبذله من أجل استرجاع فردوسنا المفقود، يدخل ضمن، أن الإنسان قضية، وأي قضية أروع وأهم من استرداد أرضنا والعودة إلى مدننا وقرانا.
ولكن الإنسان الفلسطيني الأسير، الذي فقد حريته وهو يحارب من أجل الحرية والكرامة والعزة والانتصار، هذا الإنسان، الذي ينظر إليه العدو، نظرة ملؤها القصور والغباء والعنصرية، فلا يتعامل مع هؤلاء الأسرى باعتبارهم، محاربون من أجل الحرية، وإنما يصنفهم بطريقة جاهلة غبية، مغرورة، حمقاء، فيجردهم من شرف النضال والفروسية والبطولة.
وهذه هي أهم قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية آمن بها الإعلامي الرائد عبد الناصر فروانة، ان محاربة الرواية الإسرائيلية التي تسوقها للإعلام الغربي، عن أبطالنا الأسرى، ووصفهم بنعوت أبعد ما تكون عن الحقيقة هي أهم ما يؤمن به ويناضل من أجله.
لا بد أن تصل الرواية الفلسطينية، بكل أبعادها وحقائقها ومفاهيمها إلى العالم، فإذا كنا حريصين على إطلاق سراح أسرانا، فلا بد ان نجد الوسيلة، وان نعمل بمنطق وعقلانية وحسب إستراتيجية مستوحاة من التاريخ والواقع، ولا بد أن يكون صوتنا قويا واضحا صريحا مسموعا، فليس أعجب من أن يكون خصمنا على باطل وينتصر، ونكون نحن على حق ونتراجع وننكمش.
وأقول بصدق، ان قضية أسرى الحرية، هي أكثر ما يؤرقني ويستفز قلمي ويدعوني للكتابة، ويخيل اليّ أني لو كتبت كل يوم مقالة عن الأسرى، لما وفيتهم حقهم، وكيف لي أن اشعر بالرضا والطمأنينة وأنا أعبر عن وجداني بالكلمات والحروف، في حين يعبرون هم عن قضيتهم بالدم والجراح والألم، والموت.
من هنا وجدتني في حالة توافق وانسجام روحي وفكري وعاطفي مع هذه الرسالة الخطيرة التي وهب عبد الناصر نفسه له.
لقد جند حياته وفكره وقلمه، من أجل الدفاع عن "الأسرى" وأنت تلمس ذلك في تعبيراته وكلماته، وتدفق أفكاره وفي صدق نبراته وملامح صوته، وحرارة انفعالاته وإذا كان القدماء يقولون ان الأسلوب هو الرجل، فلا شك ان عبد الناصر فروانة، بأسلوبه وأفكاره في كل ما يكتبه يعبر عن الأسرى.
ذاكرة ليست للنسيان
يقول عبد الناصر، كنت طفلا صغير في الثالثة من عمري، عندما واجهت أصعب تجربة قد يمر بها طفل في العالم، لا زلت أذكر كيف اقتحم الجنود المدججين بالأسلحة والرشاشات بيتنا، وأخذوا يفتشون ويكسرون ويحطمون، وسط أصوات الهلع والخوف وموجات الرعب التي اندلعت بالحارة كلها، ودموع أمي وهلعها وبكائها.
لقد انطبعت هذه المناظر المرعبة على صفحة ذاكرة الطفل الوليد، وظلت مغروسة في كيانه طوال حياته، كان والدي قد اعتقل وهو يعمل في محله لتنجيد السيارات. وبعد اعتقاله جاء التتار ليلاً لتفتيش البيت وبث الرعب في نفوسنا فغرسوا في عقلي ووجداني هذه الذكرى التي لن تمحى.
وعرفت بعد ذلك ان الجيش هاجم بيتنا في بداية شهر آذار في 3/3/1970، علما أن ميلادي كان في 10/5/1967.
وكان اعتقال والدي، قد جعلني أعيش حياة اليتم ووالدي على قيد الحياة، فقد حرمت من حنانه وعطفه ورعايته لي ولإخوتي. لقد ذقت اليتم، بصورة فريدة، على يد جلاد لا يرحم، غابت شمس والدي، وحرمت من إطلالته وحبه ورعايته، ورغم أني بعد ذلك تنقلت بين العديد من السجون والمعتقلات، ولكن ذكرى اعتقال والدي، ومهاجمة الجيش لبيتنا ظلت ماثلة في ذهني وفكري حتى الآن.
الأسرى قضية عمري
دخلت بعد ذلك كل سجون دولة الاحتلال، في قطاع غزة وفي بئر السبع والمجدل والرملة، وذقت كل ألوان الاضطهاد والمعاناة، والتقيت بمئات بل بآلاف المناضلين والثوار والقيادات، وتشربت ثقافة المقاومة وتعمقت في أساليب النضال وخبرت فقه الثورات، ودرست الحركات الثورية وارتويت من نبع الفكر الإنساني الثوري على مر العصور، ومن شتى المشارب، وعشت أدق تفاصيل حياة الأسير الذي تُسلب حريته، ويبعد عن أهله ووطنه وذقت حلاوة قوة الإرادة وصلابة المواقف وصمود الرجال وكبرياء الأحرار، وكل ذلك غرس في نفسي، تلك الشعلة الثورية الرائعة، لمناصرة الأسير، وإذا كان المتصوفة يقولون لا يعرف الشوق إلا من يكابده، فاني عايشت بكل صدق وحرارة حياة الأسير، وعرفت، بالمعايشة والمكابدة، مدى ما يلقاه جنود الحرية من الأسرى، وراء القضبان فأخذت عهدا على نفسي، ان أكرس كل حياتي، للدفاع عنهم، فهم قضية عمري.
ولا أخالني أذهب بعيدا، إذا قلت ان كثيرين يشغلهم هاجس الأسرى، ويقض مضاجعهم، ويؤرق ليلهم، وينغص عليهم صفو حياتهم، لكن الذين يمضون في حياتهم متناسين جراح ومعاناة هؤلاء الأبطال هم الأكثر.
عائلة، في ظلال الأغلال
لم يكن أبي هو المعتقل الوحيد في العائلة
ولكنه كان الرائد..
كان
هو البداية، فقد كان معتقلا لمدة خمسة عشر عاما وثلاثة شهور، ودخل بعد
تحرره باشهر قليلة أخي جمال لمدة 5 سنوات قبل أن يعتقل لمرة ثانية لمدة
سنتين ، ومع بداية الإنتفاضة الأولى دخلت السجون أربع مرات وأمضيت فيها 6
سنوات.
إن سرد تفاصيل الاعتقال التي حدثت في أسرتي، يبعث الأسى والحزن، ويقدم صورة حقيقية لمأساة حياتنا كشعب وكأسرة، ولكن هناك لحظات، لا أستطيع ان أنساها، وهي تأتي بترتيب قدري، كأنها فصول أو حلقات في مسلسل محكم من المآسي والكوارث الإنسانية لأسرة فلسطينية، تعد نموذجا لما حل بالشعب الفلسطيني.
عندما أفرج عن والدي بعد أن أمضى في المعتقل خمسة عشر سنة في صفقة التبادل التي تمت بين أحمد جبريل وإسرائيل في 20/5/1985، كنت يومها أعمل في مدينة يافا، وعندما اتصلوا بي بالهاتف وأبلغوني الخبر، لم أصدق، ولكني عاودت الاتصال بمن أثق بهم، فعلمت ان الخبر صحيح، فأسرعت عائدا إلى غزة لألتقي بوالدي الذي خطفوه مني وأنا في الثالثة من عمري ولأراه وأرتوي منه بعد خمسة عشر عاما.
لأول مرة تجتمع الأسرة
إبي.. العائد من اعتقال تواصل خمسة عشر عاما ، و خالي الذي حكم بخمسة عشر عاما ، وابن خالتي الذي امضى خمس سنوات في الاعتقال، وثلاثتهم افرج عنهم في صفقة احمد جبريل ، وأخي جمال الذي كان في رحم أمه ، وأمي التي جفت دموعها لكثرة البكاء ، والتقينا جميعا
لاول مرة كأننا في حلم خيالي.
ذلك هو المشهد الثاني، في كتاب حياتي، الأول اعتقال والدي ومهاجمة الجيش لبيتنا وأنا في الثالثة من عمري، والثاني اجتماع أسرتي حول والدي بعد ان خرج من معتقل العدو، بعد خمسة عشر عاما.
قدري.. أن أعايش جراح الأسرى
ولد عبد الناصر عوني فروانة يوم 10/5/1967 في حي الزيتون بمدينة غزة وا نتقل بعدها مباشرة للعيش في حي الدرج ، ولا شك ان شهر حزيران عام 1967 يحمل ذكرى مثقلة بالأسى والحزن والانكسار، فهي السنة التي حلت بها النكسة التي ألقت بظلالها على تاريخ المنطقة العربية، ولا زالت حتى اليوم.
ولكنه قدري الذي وضعني على خارطة الأحزان، ومشوار الألم في رحلة معاناة تواصلت طوال خمسة وأربعين عاما، أمضيت معظم أيامها ولياليها، على أبواب السجون وبين جدرانها ، وفي مواكبة حياة الأسرى، وحمل أمانة الدفاع عنهم، فهم أهلي وحياتي وبعض قلبي ومشاعري.
وعندما أستذكر شهر حزيران عام 1967 اشعر بأنه محفور على صفحات قلوب الجيل الناصري بمداد من الدم والنار والقهر والغضب والإحساس بالانكسار، ومن ثم فان أبي سرعان ما لملم جراحه وعلا على مشاعر المرارة والهزيمة، لقد رفض الجيل الناصري كله من المحيط إلى الخليج التسليم بالهزيمة، ورفض أن يكفر بجمال عبد الناصر أو يتخلى عن حلمه وفارسه وقائده.
رفض الجيل الناصري في الستينيات وهو جيل الحلم والأمل والفن، والكتاب والمبادئ والمسرح والصحافة والجامعة، جيل صلاح جاهين وعبد الحليم حافظ وكمال الطويل وعبد الرحمن الابنودي وعبد الرحمن الشرقاوي، وأحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس، ويوسف شاهين ومحمود السعدني وصلاح عبد الصبور ومحمد الموجي، ورجاء النقاش وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى، ومئات المفكرين والمبدعين رفضوا التسليم بالهزيمة والتفوا حول عبد الناصر، حول الأمل والحلم والإيمان بأن ما اخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة.
وكان أبي واحدا من مئات الآلاف من الشباب في غزة الذين رفضوا التسليم بالهزيمة، وظل إيمانهم بجمال عبد الناصر شعلة خفاقة في صدورهم، جمال عبد الناصر الذي لملم الجراح وواصل الثورة والنضال وبدأ يتجاوز سلبيات النكسة وذلك بإعلان حرب الاستنزاف بعد فترة وجيزة من انتهاء حرب حزيران.
أبي ثائر من الرعيل الأول
من هنا أستطيع أن أقول كيف انتظم أبي في العمل الوطني، وكيف حمل البندقية وكيف تم أسره واعتقاله بعد شهور قليلة من جراح النكسة، إذ تم اعتقاله في3-3-1970 وكانت والدتي حاملا في شقيقي جمال الذي ولد في 10/8/1970 وكانت وصية أبي لأمي إذا أنجبت ولدا أن تسميه "جمالا"، وبهذا يظل اسم البطل الثائر يرن في أصداء بيتنا، فشقيقي جمال وأنا عبد الناصر.
حيث نشأ وترعرع خليل وصلاح
في غزة هاشم وفي حي بني عامر خلف مدرسة الزهراء بمنطقة الدرج حيث ترعرع ونشأ خليل الوزير (أبو جهاد) وصلاح خلف ( أبو اياد) نشأت وترعرعت، وكان هذان المناضلان فيما علمت بعد ذلك من أكثر النماذج الثورية في تاريخنا المعاصر صفاء ونقاء وثورية، كلاهما نشأ وترعرع في أحضان غزة، خليل الوزير مسقط رأسه الرملة، وصلاح خلف مسقط رأسه يافا، وكلاهما تشرب مبادئ الثورة والنضال منذ ان درج على رمال غزة وسهولها وهضابها، وتغذى من شمسها وهوائها وأمضى شطرا من صباه يستنشق عبير شواطئها، وينهل شذى الفداء والبطولة من أمواج بحرها على شواطئ الأبيض – الأزرق، وكلاهما كان معلما.
كان صلاح خلف مدرسا للغة العربية في مدرسة خالد بن الوليد ومن ثم في مدرسة الزهراء، وكان خليل الوزير مدرسا للجغرافيا وكانت فرص الحياة المادية في تلك الفترة متاحة لمن يعمل في التدريس، لكن الشابين الثائرين كانت عيونهما على فلسطين، على الرملة ويافا، على طريق البندقية والثورة.
ترى أين ذهب ذلك النقاء الثوري، ذلك الحلم الرومانسي المجبول بالانتماء والدماء وصدق الثورية.. أين ما كانوا عليه، وأين ما صرنا إليه في فتح وحماس والنهج النضالي العذري في كافة فصائلنا.
أسرة غزة على درب النضال
ويقول عبد الناصر فروانة: نحن أسرة تشكل نموذجا للفكر القومي ، والنهج الثوري الذي أشعل الثورة بقيادة ياسر عرفات ورفيقاه صلاح خلف وخليل الوزير.
فقد انضم أبي للثورة بعد شهور من نكسة حزيران واعتقل خمسة عشر عاما وثلاثة شهور، وأخي جمال اعتقل وهو في السادسة عشرة من عمره ليأخذ حكما بخمس سنوات قبل أن يعتقل ثانية بعد تحرره بأربعين يوما فقط ويقضي سنتين أخريتين ، وأنا تنقلت في السجون والمعتقلات على امتداد ست سنوات ، وخالي كان معتقلا وابن خالتي كان مناضلا وكان في سجون الاحتلال ، ومن ثم اعتقل العشرات من أقربائي.
لقد اكتويت بنيران الاحتلال وأساليبه وممارساته وشربت حتى الثمالة مرارة العدوان وقسوته، ورأيت بأم عيني كيف يسمح الإنسان لنفسه ان يسترق أخاه الإنسان، وكيف يكفر بمبادئ العدل والحق والإنسانية ويستبيح لنفسه سرقة أرض غيره والعدوان على شرائع وسلوكيات تطوح به بعيدا عن مربع الإنسانية وتجره إلى مربع الشيطان.
لقد أدت هذه المقدمات جميعها إلى إيماني بان الأسير (ظاهرة إنسانية نضالية نبيلة وبأنه من معدن شفاف محارب في سبيل الحق، ومقاتل يدافع عن حق بلده وأرضه ووطنه، وأن أضعف الإيمان ان نقتدي به وأن نسير على خطاه، وأن ننهج نهجه في التضحية والبذل والجود بالروح من أجل الوطن، فإن لم نستطع ان نفعل ذلك فلا أقل من أن نقف مدافعين عنه في ميادين الرأي العام وقضايا الإنسانية لإطلاق حريته واستعادة إنسانيته وكسر جبروت من يلقي به وراء الشمس.
وعندما أستذكر والدتي ( صبحية شاكر السنداوي) من مدينة يافا أذكر تلك الأيام أنها كانت ولا تزال سيدة فلسطينية صابرة، مناضلة، كتلة من المشاعر والأحاسيس، تقف بجانب والدي وتحملت مسؤولية رعايتنا وهو في المعتقل، فكانت لنا بمثابة الأب والأم، وكانت شجرة العائلة قد طرحت مزيدا من المناضلين منهم خالي محمد السنداوي الذي اعتقل وأخذ حكما بخمسة عشر عاما، وابن خالتي جمال كحيل الذي حكم باثني عشر عاما، وقد تفاعلت هذه المعطيات وتجمعت وتأكسدت في مشاعري لتجعلني أربط حياتي كلها بقضية الأسرى، ليس بحكم عملي المهني ووظيفتي ولكن بحكم تكويني وبحكم نفسيتي وثقافتي.
وفي حي الدرج العتيد
أمضيت المرحلة الابتدائية في مدرسة صلاح الدين في حي الدرج، والإعدادية في مدرستي الفلاح شرق مدينة غزة والزيتون في غرب المدينة ، كما أمضيت المرحلة الثانوية في مدرسة يافا.
وكانت سنوات الدراسة في المرحلة الثانوية حافلة بالنضال، فالطلاب هم دائما وقود الحركة الوطنية وروادها، وكان إحساسي بان والدي سجين يغذي فيّ مشاعر الثورة ويشحنني بطاقات من النضال والأعمال الجريئة، وكنت لذلك أتعرض للاعتقال والاستدعاء من قبل سلطات الاحتلال، وكان صاحب السلطان يهددني ويتوعدني ويساومني ويقول لي:
- سأمنعك من الامتحانات، سأمنعك من السفر، لن تلتحق بالجامعة.
ولذلك تركت التعليم وانخرطت في العمل لاسحب منه هذه الأوراق التي يحاول ان يبتزني من خلالها.
كانت ظروفنا المعيشية بائسة، وكانت مستحقات والدي من الصندوق القومي في عمان لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تصلنا إلا عبر تكاليف وسفريات تمتص أكثر المخصصات ولا تبقي إلا النذر اليسير.
ورغم كل شيء استطعت أن احصل على الثانوية العامة عام 1985.
التعذيب بقرارات ومراسيم حكومية
ارتبط عبد الناصر فروانة بقضية الأسرى وأصبح مرجعا في كل ما يخص شؤون هذا القطاع الوطني الخطير، فمن حيث التعذيب الذي يتعرض له الأسرى يقول فروانة: لقد جاء قرار التعذيب عبر توصيات لجنة تسمى لجنة "لنداو" عام 1987 التي شكلت أساساً لاقرار وشرعنة تعذيب الأسرى وبذلك تكون إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم التي توافق على التعذيب وتشرّع ممارسته وتجعله أمرا مشروعا ، وجراء التعذيب استشهد عدد كبير من الأسرى لعل آخرهم الشهيد عرفات جرادات من الخليل .
ومن ذلك أيضا قانون حرمان الأسرى من الزيارات الذي صدر عام 1996 والذي لا يسمح بزيارة الأسرى إلا من الأقارب على أن يكونوا من الدرجة الأولى.
قانون قراقوش اولمرت
لقد شكل رئيس الوزراء الإسرائيلي (ايهود اولمرت) في شهر اذار/مارس عام 2009 لجنة وزارية برئاسة وزير العدل آنذاك ، وضمت بعضويتها المستشار القانوني للحكومة لاستحداث أساليب جديدة للتضييق على الأسرى ، ومن ثم تمت المصادقة على توصيات اللجنة أواخر الشهر ذاته من قبل حكومة اسرائيل ، بالإضافة الى اقرار العديد من القوانين من أعلى المستويات ومن الكنيست منها ما يعرف بقانون " شاليط " الذي صادر حقوق اساسية للأسرى ، أي ان أكبر وأهم ثالوث قضائي وتنفيذي في إسرائيل أقر تلك التوصيات والقرارات وتم تطبيقها على أرض الواقع ،. ووضع في أيدي صغار الضباط القوة والصلاحية للبطش بالأسرى وللتنفيس عن الحقد العدواني وعن الكراهية وتفريغ شحنات الغضب في جنود الحق الأسرى المجردين من أي سلاح سوى سلاح الصبر والإرادة والتحدي.
اختراق الرواية الإسرائيلية
ويقول عبد الناصر فروانة بألم وحرقة وبلهجة صادقة أننا جميعا مقصرون، في حق الأسرى لا أستثني أحدا، إن وزارة الخارجية لها أكثر من مئة سفارة في العالم، ولها مكاتبها واتصالاتها وميزانياتها ولغتها وقنواتها، ولكنها لا تفعل شيئا لهذه الشريحة الوطنية من صفوة المناضلين. إلا ما ندر.
وهناك وزارة الإعلام ووزارة الثقافة ولكل منهما رجالاتها ومفكروها وكُتّابها وفُرصها وهيلمانها، ولكن قضية الأسرى معزولة أغلب الأحيان في كواليس النسيان في هاتين الوزارتين.
أما وزارة الأسرى، وفعاليات نادي الأسير فهما يعملان جهد المقل في مواجهة إخطبوط الرواية الإسرائيلية التي تصور أسرانا على أنهم (إرهابيون) وليسوا جنود حق يطالبون بحرية بلادهم واستقلالها.، ولكن ملفات الأسرى ثقيلة ومتعددة وبحاجة لمزيد من الجهد وليس بامكان جهة لوحدها أن تحملها .
إنني أستطيع بصدق أن ألمس مواضع القصور والإهمال والسلبية في التعامل مع هذا الملف، ولا أستطيع أن أجد الفعاليات والحراك الشعبي والجماهيري والرسمي الذي يهز ضمير العالم لينال الأسير الفلسطيني حقه في الحرية والحياة الكريمة.
صرخة في وادي العدم
يقول عبد الناصر فروانة: في الشهر الماضي كنت في سويسرا وفرنسا ، توجهنا نهاية شباط/فبراير 2013 ضمن وفد المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان ، ضم خمسة أفراد بينهم جبر وشاح وعبد الناصر فروانة وبعض أمهات الأسرى.. توجهنا وشاركنا في جلسات مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف حول التعذيب والاعتقال التعسفي وأدلينا بشهاداتنا في احدى قاعات قصر الأمم ، واجرينا العشرات من اللقاءات الرسمية ، والتقينا بالجمهور عبر الندوات والمحاضرات في كل من سويسرا وفرنسا ، ووجدنا أن الرواية الإسرائيلية هي الطاغية، وأدركنا أنهم في الدول الغربية والولايات المتحدة غير مطلعين على حقيقة الأوضاع عندنا.
وللأمانة فإنهم دائما على استعداد لإعارتنا أذنا صاغية، ومن واجبنا عبر الفيسبوك وعبر النشرات والدراسات والصحف والمطبوعات والسفارات ومؤسسات حقوق الإنسان من واجبنا أن نعبر عن قضيتنا باللغات الأجنبية، على الأقل بلغتين الفرنسية والانجليزية، وليس من الصعب تأسيس موقع الكتروني مجهز عصري يكرس للعالم كله وباللغات والمفاهيم والحقائق التي تجعل قضية أسرانا تكتسب الصفة الدولية خاصة وأن الحكمة العربية القديمة تقول: "إن الله لا يسمع من ساكت".
مؤسسة اسمها عبد الناصر فروانة
منذ أن أفرجت عنه إسرائيل أخذ المحرر عبد الناصر فروانة على عاتقه الدفاع عن قضية الأسرى لإبراز معاناة زملاء كانوا بالأمس رفاق زنزانة واحدة، واليوم وقد تحرر أضحى من الواجب عليه أن يُذكر العالم بهم.
لقد أمضى فترات طويلة من حياته متنقلا بين السجون الإسرائيلية، وقد جاوزت تلك الفترة ست سنوات اكتوى فيها بنيران الأسر، ومن ثم فقد رأى لزاما عليه أن يعبر بالكتابة اليومية عن الأسرى وعن معاناتهم وشرحها لوسائل الإعلام والإجابة عن استفسارات وسائل الإعلام بدقة وبرحابة صدر، وكرس جل وقته لأجل قضيتهم.
وهو يرى أن ما يفعله رغم أهميته لا يصل إلى مستوى التضحية التي يقدمها جنود الحرية.
ويجتهد لمتابعة كل ما يجري داخل السجون والمعتقلات عبر وسائل عدة ومن ثم ينقلها لوسائل الإعلام بقصد تشكيل رأي عام ضاغط للتحرك باتجاه إنهاء معاناة الأسرى.
وقد أنشأ فروانة موقع "فلسطين خلف القضبان" عام 2004 الذي يتابع باستمرار كل ما يتعلق بقضايا الأسرى ومعاناتهم، ويخرج بشكل شبه يومي إصدارا أو أكثر يخص الأسرى وتتناقله وسائل الإعلام.
يقول فروانة، ان موقعي ليس ملكا شخصيا، بل هو للأسرى وذويهم وقد رأيت ان أقدم لهم هذه الجهد في ظل نسيان كبير في العالم لقضيتهم، وحتى فلسطينيا على أني اعتز بما أقدمه وأرى فيه خندقا متقدما في الدفاع عن قضية فلسطين، وعن قضية الأسير الفلسطيني الذي هو الوقود المقدس لإشعال ثورة الحق في وطننا المغتصب.
وليس عيبا أن نستفيد من تجارب الآخرين، فان إسرائيل جعلت من قضية جندي واحد فرد قضية عالمية، وجندت لها كل المنابر والمؤسسات في إسرائيل والخارج لشرح قضية هذا الجندي وطوال خمس سنوات، لم تتوقف الحملات الصحفية من أجل أسير واحد فرد، فكيف نبيح لأنفسنا السكوت على اعتقال خمسة آلاف أسير أمضى كثيرون منهم سنوات عديدة تفوق العشرين في الأسر وسقط كثيرون فريسة لمرض السرطان المخيف.
ان المفارقة بيننا وبينهم تدين أجيالنا كلها، وتدين مؤسساتنا كلها، بل وتدين كل حكوماتنا ذلك أن الدم الفلسطيني مقدس وعزيز علينا كما الدم الإسرائيلي عزيز على كل يهودي.
صديق على درب الانتماء
ويقول المفكر والكاتب خالد بركات من كندا في معرض حديثه عن فروانة :
( نتعرف من خلال كتابات المناضل عبد الناصر على اسماء وقصص وحكايات مناضلين ومناضلات كثر ، ونقرأ عن أخلاق وقيم ثورية ووطنية ، ارست مداميكها نضالات طويلة وصعبة لشهداء قضوا في السجون وفي اقبية التحقيق. ولأن الاسرى ظلوا بوصلة هذا المناضل ، فانه ظل بدوره " رهينة " مستمرة لهم ، ولقضية وطنيه كبرى ونبيلة سوف تنتصر حتما).
و
في مقام آخر يقول رئيس الجالية الفلسطينية بالنرويج الكاتب نضال حمد
:
( ان المتتبع لكتابات عبد الناصر فروانة يجد أنه يتجه "بالموقع" نحو الحرفية والمهنية ليجعله مركز أبحاث فعلي يختص بشؤون وقضايا الأسرى، والمعتقلين وبتاريخ الحركة الوطنية الأسيرة في فلسطين المحتلة، فموقعه تأسس لحمل راية الأسرى ومن أجل الدفاع عنهم وتقديم المعلومات الدقيقة عن أوضاعهم وقضاياهم. )
أخي عبد الناصر فروانة
لو أن كل فلسطيني أو عربي فكر بالأسرى كما تفكر أنت، ولو أن كل مؤسسة أو وزارة أو تجمع بشري، أخذ على نفسه زمام المبادرة كما فعلت أنت، لكانت قضية الأسرى موضع اهتمام العالم، ولاستطعنا أن نمد أيدي الحب والتواصل مع هؤلاء الأبطال الذين ضحوا بنفوسهم وأرواحهم من أجل وطنهم.
ان خمسة آلاف أسير فلسطيني ينظرون إلينا متطلعين إلى يوم الخلاص والحرية ومن واجبنا أن لا نخيب رجاءهم، وأن نساعدهم على أن يعودوا إلى أهلهم وذويهم..
تلك رسالة كل إنسان فلسطيني حقيقي مثقف ونبيل، بل تلك رسالة كل مواطن عربي مهما كان موقعه، ومهما كانت انتماءاته، ذلك أن التواطؤ بالصمت أسوأ كثيرا من التواطؤ بالعمل وان شجرة الحرية لا يمكن ان تزهر إلا إذا ارتوت بدماء الأبطال ودموع الأمهات واخترقت جذورها باطن الأرض وأطلت على الكون لتعانق الشمس ولتثبت أننا امة نعرف للمناضلين حقهم مستذكرين ما يقوله احمد شوقي:
قف دون رأيك في الحياة مجاهدا
ان الحياة عقيدة وجهاد
وللحرية الحمراء باب
بكل يد مضرجة يدقُ
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
* * *
(هذا ما كتبته على صفحتي على الفيسبوك بتاريخ31-12-2015)
جل احترامي وفائق تقديري لك سيدة/ ريموندا طويل على هذا الجهد الرائع والعمل المتميز والكتاب العظيم الذي يوثق محطات مهمة. وشكرا جزيلا على اختيارك لي بأن أكون واحد من بين هذه المجموعة الرائعة من الشهداء والأحياء. فهذا شرف كبير وعظيم لي.
لقد تسلمت نسخة من كتاب بعنوان "باقة ورد .. إلى نخبة من الأعلام ممن صنعوا التاريخ" أعدته الكاتبة والاعلامية القديرة /ريموندا الطويل، ويحتوي الكتاب على (620) صفحة ويتضمن (62) سيرة ذاتية لشهداء وقيادات فلسطينية واسرى وشخصيات ساهمت في صناعة التاريخ-كما تقول السيدة ريمونا- ويحمل الغلاف صورهم جميعا. كتاب رائع يوثق محطات ومراحل وتجارب مهمة في مسيرة التاريخ الفلسطيني.
وكنت سعيدا وفخورا جدا حينما قلبت صفحاته لأقرأ محتوياته فأجد لي اسما وسيرة ومكانة بين مجموع هؤلاء القادة العظام أمثال الشهداء أبو عمار وأبو جهاد وجورج حبش وأبو اياد وسعد صايل وممدوح صيدم وأحمد الجعبري وأبو علي شاهين وميسرة أبو حمدية وغيرهم. بالإضافة الى مجموعة كبيرة من القيادات الفلسطينية التي لاتزال على قيد الحياة-أطال الله في عمرها- في مقدمتهم السيد الرئيس أبو مازن و الأخوة خالد مشعل و مروان البرغوثي وأحمد سعدات وفؤاد الشوبكي وام جهاد الوزير وسامر العيساوي غيرهم.
حقا هذا شرف كبير وعظيم أن أكون هنا وبين هؤلاء .. فأولئك الشهداء هم من صنعوا المجد والتاريخ وهم تيجان على رؤوسنا وأحياء في قلوبنا، وهؤلاء الأحياء هم من يواصلون حمل الراية ويناضلون ويضحون من أجل صيانة ذاك التاريخ العريق الذي خطت حروفه بالدماء، وحماية الحقوق الفلسطينية والثوابت الوطنية وتحقيق حلم الشهداء، بالحرية والاستقلال. وهم جميعا يشكلون قدوة في سلوكنا ومسيرتنا نحو تحقيق أهدافنا المشروعة.
أدعو الله أن يمنحنا الصحة والعافية والقدرة على مواصلة العطاء، وأن يوفقنا لما فيه خير لشعبنا ووطننا وأسرانا..
عبد الناصر فروانة