اتفاق "أوسـلو": كنت حينها أسيراً

 

*بقلم/عبد الناصر عوني فروانة

13-9-2020

 

لقد جاء إعلان المبادئ في "أوسلو" في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر عام 1993، ليفتح عهداً جديداً في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويشكل تحولاً نوعياً على مسار القضية الفلسطينية. أما الأسرى، فيمكن القول: أن سقف توقعاتهم قد ارتفع منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق، خصوصا أولئك الذين ينتمون إلى حركة "فتح" وفصائل فلسطينية تؤيد الاتفاق، وهم يشكلون الغالبية العظمى. ولا نكون مبالغين إذا ما اضفنا بأن كثيرين منهم قد باتوا يعتبرون أنفسهم في عداد المحررين، وبانتظار اليوم الموعود للحرية.

 

كنت حينها أسيراً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وتحديداً في مردوان "3" قسم (د) في معتقل النقب الصحراوي، ويومها رُفع العلم الفلسطيني، ولأول مرة داخل السجن الإسرائيلي. وها أنا الآن أستذكر تلك الأيام وأستحضر صور أخواني وزملائي الذين وزعوا حاجياتهم الخاصة، وأتلفوا كراريسهم الثقافية والتنظيمية، وأقاموا الاحتفالات فرحاً وابتهاجاً في سجونهم استعداداً لليوم القريب. فيما بعض الاسرى عبّروا عن رفضهم للاتفاق بأشكال مختلفة، واسرى الشعبية ارتدوا زياً أسوداً، وفي أقسام أخرى وضعوا شارة سوداء على الساعد الأيمن، حزناً وحداداً..

 

مرّت الأيام والشهور بطيئة وثقيلة، وقد تحقق شيء من ذلك بالفعل للكثير منهم، حين انطلقت أوسع عملية إفراج جماعية خلال الفترة الممتدة من أوسلو1993 وحتى اندلاع "انتفاضة الأقصى2000، والتي شهدت الإفراج عن نحو (11250) معتقلاً فلسطينياً وعربياً من سجون الاحتلال، من أصل (12500) معتقل كانوا في السجون لحظة التوقيع، وهؤلاء يشكلون ما نسبته (90%) من إجمالي عدد المعتقلين الفلسطينيين آنذاك. ومع اندلاع "انتفاضة الأقصى" لم يتبقَ في سجون الاحتلال سوى(1250) معتقل ممن كانوا معتقلين ما قبل "اوسلو" وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية. وسبق واعددنا دراسة شاملة "العملية السلمية والأسرى: إخفاقات وانجازات".

 

أن تلك الإفراجات الواسعة لم تكن مجرد عدد كبير للمفرج عنهم، وإنما تضمنت أسماء بارزة وأسرى قدامى وذوي أحكام عالية والمئات، ممن كانوا يقضون أحكاماً عديدة بالسجن المؤبد(مدى الحياة)، وما دون ذلك، وأن الكثير ممن أفرج عنهم كان قد مضى على اعتقالهم سنوات طويلة، وقد شملت الافراجات ايضاً العشرات من الأسرى العرب وأسرى الدوريات وأسرى القدس ومناطق 48، إلا أنها وبرغم ذلك فشلت في اطلاق سراح كافة الأسرى وإغلاق هذا الملف. الأمر الذي أبقى مئات آخرين منهم داخل السجون لسنوات وعقود طويلة تلت اتفاقية أوسلو، جزء منهم تحرر في إطار صفقة "شاليط"2011، وجزء آخر ضمن التفاهمات السياسية عام 2013،  وما يزال منهم نحو (26) اسيرا يقبعون في السجون حتى كتابة هذه السطور. 

 

وبرغم تلك النجاحات فان ثغرات عديدة واخفاقات كثيرة يمكن ان تُسجل على (أوسلو)، ولعل أبرزها أنه لم يتضمن نصوصاً صريحة تُلزم دولة الاحتلال بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، وفق جدول زمني محدد. بالإضافة إلى غياب الضمانات الدولية، أما النصوص القليلة التي وردت في بعض ملحقات أوسلو والاتفاقيات اللاحقة فقد تحدثت في نصوصها عن أسرى الضفة والقطاع، دون أن تتضمن أي نص يتطرق إلى أسرى القدس، وأسـرى أراضي الـ 1948، والأسرى العرب الآخرين. ومع ذلك أفرجت الاتفاقيات السياسية، وفي مناسبات عدة، عن العشرات من هؤلاء.

 

إضافة إلى كل ما مضى، تعمدت دولة الاحتلال إضعاف عمل اللجنة الفلسطينية- الإسرائيلية المشتركة، الخاصة بآليات تحرير الأسرى. واستحدثت مصطلح (الأيادي الملطخة بالدماء)، حيث اعتبرت كلُّ يد قتلت يهودياً أو اشتركت في قتله هي يدا ملطخة بالدماء، وبالتالي فهي لا تستحق الخروج من السجن بموجب أي اتفاقية.

 

لقد تعاملت سلطات الاحتلال مع قضية الأسرى باعتبارها محكومة بحسن نواياها فقط. فجزأت قضيتهم الواحدة إلى أجزاء متعددة، وصنفتهم إلى فئات مختلفة، وفرضت العديد من المعايير والشروط حين اختيار المنوي الإفراج عنهم، والتعاطي معهم كأفراد ووفق ملفات حمراء وخضراء. لقد جادلت (إسرائيل) دوما بأنها لم تتنصل مما وقعت عليه بهذا الخصوص، فيما الواقع يؤكد بأنها لم تلتزم يوماً بتنفيذ ما أتفق عليه.

 

إن هذه الطريقة والآليات الإسرائيلية المجحفة في التعامل مع الأسرى، بعد أوسلو، هي ما أقام الدليل لدى الكثيرين من الأسرى الفلسطينيين - الذين لم يعلنوا موافقتهم على أوسلو - على أنهم لن يخرجوا جميعهم في نهاية المطاف في إطار هذه الاتفاقيات: فوضع المعايير يعني أن هناك من لا تنطبق عليه المعايير. أي أن هناك من الأسرى من سيظل في السجن، حتى تتغير الظروف، وتتبدل المفاهيم لدى دولة الاحتلال، أو أن يُطلق سراحهم في إطار صفقة تبادل، وهذا ما حصل بالفعل حينما نجحت المقاومة في فرض شروطها وإطلاق سراح الكثيرين منهم في إطار صفقة "شاليط"، والتي يُطلق عليها الفلسطينيون "وفاء الأحرار"، لكنها فشلت هي الأخرى في اغلاق ملف الأسرى أو حتى ملف "القدامى"، فأبقت ورائها الآلاف من الأسرى ومئات القدامى ممن مضى على اعتقالهم عقود وسنوات طويلة.

 

وبغض النظر عما سُجل وما يمكن أن يُسجل على "أوسلو" وما تبعه من اتفاقيات سياسية، فان الحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع أن "العملية السلمية"، حققت العديد من الانجازات بالنسبة للأسرى، ونجحت ومنذ التوقيع على "أوسلو"، في الافراج عن أكثر من (13) ألف معتقل فلسطيني وعربي، كان آخرهم عام 2013، حينما تمكنت المفاوضات من الإفراج عن ثلاث دفعات من "الاسرى القدامى" المعتقلين قبل التوقيع على "أوسلو"، بناء على اتفاق فلسطيني-اسرائيلي برعاية أمريكية، لكنها فشلت في الافراج عن الدفعة الرابعة والأخيرة. كما وعجزت عن وقف اعتقالات أخرى تنفذها يوميا قوات الاحتلال منذ "أوسلو"، وتصاعدت بشكل لافت مع بدء انتفاضة الأقصى عام 2000، مما ضاعف من أعداد المعتقلين.

 

ان قراءة احصائية في واقع وطبيعة الاعتقالات الإسرائيلية وحجمها منذ "أوسلو"، سنرى كم هي البيانات والأحداث صادمة، حيث سُجل أكثر من(125) ألف حالة اعتقال منذ توقيع اتفاقية "أوسلو" في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر عام 1993.

أن تلك الاعتقالات شملت كافة فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ذكورا واناثا، صغارا وكبارا، وان من بين تلك الاعتقالات سُجل اعتقال أكثر من (18000) حالة اعتقال لأطفال قاصرين وقرابة (2200) فتاة وسيدة فلسطينية. كما وطالت الاعتقالات بعد "أوسلو" أكثر من نصف أعضاء المجلس التشريعي في دورته الأخيرة، وعدد من الوزراء ومئات الأكاديميين والصحفيين والعاملين في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.

 

ومنذ توقيع اتفاق "أوسلو"، ارتقى من بين الأسرى (111) شهيداً، نتيجة التعذيب والقتل المتعمد والاهمال الطبي وآخرهم كان الأسير/ داوود طلعت الخطيب الذي استشهد في الثاني من الشهر الجاري. هذا بالإضافة الى عشرات آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن بفترات وجيزة متأثرين بأمراض ورثوها عن السجون.

ولم يقتصر الأمر على اتساع الاعتقالات فحسب، وسقوط مزيد من المعتقلين شهداء في السجون فقط، وانما لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الى اعادة افتتاح العديد من السجون والمعتقلات، وتوسيع أقسامها، وافتتحت سجون جديدة، كسجني ريمون وجلبوع، وصعدّت من اجراءاتها القمعية وناقشت وأقرت مجموعة كبيرة من القوانين والتشريعات بهدف التضييق أكثر على الأسرى والإساءة الى قضيتهم وتشويه مكانتهم القانونية.

 

وفي الختام يمكن القول: ان قوات الاحتلال الإسرائيلي تتخذ من الاعتقال التعسفي نهجاً منظما وممارسة مؤسساتية في إطار سياسة رسمية، حتى اضحت الاعتقالات جزءاً أساسياً من منهجية سيطرة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وأداة لقمع واذلال الفلسطينيين، والوسيلة الأكثر قمعاً وقهراً وخراباً للمجتمع الفلسطيني، دون التزام أو أدنى اكتراث بقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

 

ومع ذلك فان كافة الاعتقالات التي نفذتها قوات الاحتلال، وبالرغم مما تتركه من آثار سلبية على الفرد والأسرة والمجتمع، إلا أنها لم تنل من عزيمة الشعب الفلسطيني ولم تكسر ارادته، ولن تثنيه عن مواصلة مسيرته النضالية من أجل الحرية والاستقلال وانتزاع حقوقه العادلة والمشروعة.

 

عن المؤلف

عبد الناصر فروانة، أسير محرر، ورئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، وعضو المجلس الوطني الفلسطيني